رأيتُ تعبير ريد و قد تصلّب قليلًا، فتابعتُ الكلام بنبرة أكثر هدوءًا.
“لا أعرف بالضبط ما الذي قالته مينا، لكنكِ تعرفين، عندما يفزع الإنسان كثيرًا أو يشعر بخوف شديد، قد يتفوّه بكلام لا يقصده أصلًا.”
“و قد يتصرّف باندفاع أيضًا.”
لم يكن هذا الكلام موجّهًا إلى لاس تحديدًا، لكنّه ارتجف كما لو أنّه أُصيب في الصميم.
ومع ذلك، ظلّ ريد يبدو مثقلًا بالهمّ.
‘آه، لحظة. الآن بعد أن فكّرتُ في الأمر، ألم تكن مينا قد ألقت اللوم على سيغ و قالت إنّ الأمر خطؤه؟’
‘ترى هل قالت شيئًا كهذا أيضًا عندما كانوا معًا؟’
لا بدّ أنّ ذلك كان جارحًا لسيغ، الذي كان يشعر بالمسؤوليّة أصلًا.
يبدو أنّ لاس فهم الوضع على نحوٍ عام، فدار بعينيه بتوتّر.
ثمّ فجأة غيّر الموضوع.
“التـ، التالي… سأتحدّث عنّي أنا.”
“صعدتُ مع ماريان إلى الطابق الثاني”
“صعدنا… و هنا…ك، كانت هناك امرأة.”
“امرأة متأنّقة بشكلٍ مبالغ فيه، من رأسها حتّى قدميها.”
“امرأة؟ في مكان كهذا؟”
“نعم.”
“كان جسدها يشعّ بلونٍ أبيض باهت.”
“في البداية كانت تعطينا ظهرها، ثمّ استدارت ببطء…”
“و عندما رأينا وجهها، تجمّدنا نحن الاثنان من شدّة الصدمة، ولم نستطع حتّى الصراخ.”
ما إن قال “امرأة متأنّقة” حتّى تبادر إلى ذهني اسم أديلين.
و فهمتُ فورًا أيضًا سبب ارتجاف لاس وهو يتحدّث.
“…لاس.”
“تلك المرأة، لم يكن لها عيون، أليس كذلك؟”
“و كان فمها مشقوقًا حتّى الأذنين.”
“ك، كيف عرفتِ؟!”
“لا تقولي إنّكِ رأيتِها أنتِ أيضًا يا ليلي؟!”
“أجل.”
“في الممرّ.”
“بل و تعرّضتُ للاختطاف أيضًا.”
“فقدتُ الوعي، و عندما استيقظتُ، كان مظهري هكذا.”
ريد و لاس، اللذان كانا يصغيان شاردَين، حدّقا بي في الوقت نفسه.
يبدو أنّهما لم يلاحظا تغيّر ملابسي إلّا الآن.
لا أدري إن كان ذلك من تأثير اللعبة أم لا، لكنّ ملابسي ظلّت بيضاء ناصعة رغم كلّ ما تعرّضتُ له.
على أيّ حال، إنه أفضل من أن تكون متّسخة.
[‘أديلين’ تريد تجمعكِ.]
في تلك اللحظة، ظهرت نافذة النظام مجدّدًا ، فشعرتُ بالانزعاج يتصاعد.
و من دون تفكير، حرّكتُ عود الثقاب إلى الجانب.
‘ما هذا؟’
‘دائرة سحريّة…؟’
كان هناك شيء ذو طابعٍ خياليّ مرسوم على الأرض.
و بعدها فقط، بدأتُ ألاحظ تفاصيل الغرفة من حولي.
لم تكن المساحة واسعة، و كان هناك شيء يشبه المذبح في المنتصف.
‘يبدو أنّ هناك شيئًا في الأعلى أيضًا، لكن لا يمكنني رؤيته من هنا.’
من شكله الطويل، بدا كأنّه شمعة موضوعة على حامل.
و الأغرب من ذلك أنّه لم يكن هناك أيّ نافذة على الجدران.
كان هناك ثقب مربّع قريب من السقف، يتسلّل منه ضوء القمر.
كنتُ أودّ التمعّن أكثر، لكن بدا أنّ الاستماع إلى حديثي أهمّ بالنّسبة لريد و لاس.
“ا، اختطاف؟”
“لماذا؟ و كيف حدث ذلك؟”
“الآن فقط أدركتُ أنّ ملابسكِ تغيّرت.”
“ه، هل تمكّنتِ من التواصل معها؟”
“بالنّسبة لي و لماريان، هاجمتنا مباشرة…!”
“على أيّ حال، من المدهش أنّكِ خرجتِ سالمة يا ليلي.”
“بصراحة، حكمكِ على الموقف قبل قليل كان جيّدًا.”
كان الجميع يتحدّث في آنٍ واحد، لكن لم يكن بإمكاني تجاهلهم.
قرّرتُ تأجيل تفحّص الغرفة و البدء بالإجابة.
“إنّه مجرّد تخمين، لكن يبدو أنّ تلك المرأة مهتمّة بالتزيين.”
“عندما استيقظتُ، كنتُ محتجزة في غرفة فخمة جدًّا، و كانت مينا معي هناك.”
“مينا؟”
“…هل اختفاؤها المفاجئ كان بسبب ذلك؟”
“اختفاؤها المفاجئ؟”
“…تشاجرنا قليلًا بسبب اختلاف في الرأي.”
“قالت إنّها ستتصرّف بمفردها ثمّ غادرت.”
“كيف يمكن ترك شخصٍ وحده في مكان كهذا؟”
عند كلام ريد، أومأتُ أنا و لاس برأسينا في الوقت نفسه.
في البداية فقط بدا أنّ الانفراد قد يكون أسهل للهرب.
تابع ريد حديثه و هو يعقد حاجبيه.
“لذلك لحق بها جين على الفور.”
“لكنّها اختفت في لحظة.”
“ظننا أنّها دخلت إحدى الغرف، و بينما كنّا نبحث عنها، سمعنا صرخة.”
“آه، ذلك الصوت، أنا أيضًا سمعته.”
“كان صراخكَ أنتَ، أليس كذلك يا لاس؟”
احمرّ وجه لاس و أومأ برأسه.
“ب، بسبب شبح المرأة ذاك…”
“في البداية، عندما واجهناه، بقيتْ قليلًا ثمّ اختفت.”
“لكن فجأة، شعرتُ و كأنّ ماءً باردًا سُكب على رأسي، فأفقتُ تمامًا.”
” ‘لماذا صعدنا أصلًا إلى الطابق الثاني؟’ هذا ما خطر لي حينها.”
“حاولنا العودة بسرعة، لكن مهما نزلنا الدرج، لم يظهر الطابق الأوّل…”
“…لاس، أنا أسألكَ فقط للاحتياط.”
“أنتَ لم يغمى عليكَ و أنتَ واقف و كنتَ تحلم، صحيح؟”
“ل، لا!”
“ماريان كانت تصعد الدرج، و أنا أنزل.”
“و مع ذلك، كنّا نلتقي باستمرار عند بسطة الدرج، هيك!”
و بينما كان لاس يتحدّث بوجهٍ يكاد يبكي، ابتلع أنفاسه فجأة.
كان السبب صوت ارتطام أسمير، الذي لا يزال يتجوّل في الخارج و يضرب الباب.
تفاجأتُ أنا و ريد أيضًا، فألصقنا أصابعنا بأفواهنا و انكمشنا.
“لنتحدّث بصوتٍ منخفض قليلًا.”
“أ، أجل. آسف…”
“لكن، لكن هذا كلّه حقيقي…”
“أعلم أنّك لا تكذب يا لاس.”
“أنا و روين علقنا أيضًا في الدرج عندما صعدنا إلى الطابق الثاني.”
“مهما صعدنا، لم يكن له نهاية، و كدتُ أجنّ فعلًا.”
عند كلامي، اتّسعت عينا لاس و ريد.
حتّى الآن، ما زال تذكّر الأمر مؤلمًا ومُرهقًا.
‘كنتُ أعلم أنّه من فعل روين، ومع ذلك كان مخيفًا.’
‘فكيف كان الأمر على ماريان و لاس؟’
كما توقّعتُ، اغرورقت عينا لاس البنيّتان بالدموع. هذا شيء لا يمكن فهمه إلّا بتجربته.
تمتم ريد بوجهٍ شاحب.
“لا، حقًّا؟”
“هل حدثَ ذلك فعلًا؟”
“نعم، فعلًا…”
“كنّا أنا و ماريان نبكي منذُ فترة.”
“ثمّ فجأة، سمعنا صوتًا من الأسفل.”
“في البداية، ظننتُ أنّ ذلكَ الصوت منكم أنتم و أنكم جئتم للبحث عنّا، فأردتُ أن أنظر.”
“لكن ماريان أمسكتني فجأة…”
ازداد شحوب وجه لاس، الذي كان أصلًا بلا لون.
ضمّ ركبتيه إلى صدره وأضاف بصوتٍ مرتجف.
“قالت إنّ الأمر غريب، وإنّه لا ينبغي أن ننظر.”
“لأنّ مَنٔ يصعد الدرج، يُفترض أن نسمع صوت خطواته.”
“لكن ما سمعناه كان صوت ‘كيييك… كيييك’.”
“كأنّ شيئًا يحتكّ… أو يزحف…”
“……”
مع أنّني كنتُ أعرف ما هو ذلك الشيء، إلّا أنّ تخيّل الموقف جعل قشعريرة تسري في عنقي.
أطبقتُ فمي أنا و لاس في الوقت نفسه.
تنفّس ريد بعمق و قال.
“إذًا، لم تريا ما كان ذلك الشيء؟”
“…شعرتُ أنّني سأندم إن رأيته.”
“حسنًا…”
“أمسكنا أنا و ماريان بعضنا و ركضنا للأعلى بلا تفكير.”
“ولحسن الحظّ، ظهر ممرّ، فدخلناه.”
“لكن، لكن…”
“ماذا كان هناك أيضًا؟”
“رأينا شيئًا أبيض باهتًا في البعيد…”
“و، و كان على السقف…”
“تلك المرأة كانت واقفة بشكل مقلوب.”
“……”
“و كانت تضحك…”
“تضحك بقهقهة…”
“ثمّ فجأة اندفعت نحونا بسرعةٍ مرعبة…”
“ماريان و، و… أنا …افترقنا عندها…”
لم يعد لاس قادرًا على حبس دموعه، فمسح وجهه بكمّ يده.
يبدو أنّ الصرخة التي سمعناها كانت في تلك اللحظة.
ربّتُّ بهدوء على كتفه.
“أنتَ أيضًا رأيتَ ما لا يجب رؤيته…”
“أنا شاهدتُها تسقط مقلوبة من السقف.”
“وفي اللحظة التي صرفتُ فيها نظري، كانت قد وصلتْ إلى جانبي…”
حتّى لو كان إنسانًا عاديًّا، لكان الأمر مخيفًا.
فكيف إذا كان بهذه الهيئة المرعبة؟
تبادلتُ أنا و لاس نظرةً شاحبة و ابتلعنا دموعنا.
قال ريد، الذي ظلّ صامتًا، بنبرةٍ محرجة.
“أ، أعني…”
“كلاكما عانى كثيرًا.”
“في الواقع، أنا أيضًا كدتُ أبكي عندما لاحقني جسدٌ مشوّه و كأنّه حيّ.”
“الخلاصة أنّ هذا المكان وكرٌ لأشياء لا نعرف إن كانت أشباحًا أم وحوشًا.”
“…إذًا، كلّ الأساطير كانت صحيحة.”
“هل، هل سنتمكّن من العودة إلى البيت؟”
لم يستطع لا أنا و لا ريد إعطاء لاس أيّ جواب.
فالوضع الحالي كان بائسًا إلى درجة لا تسمح بكلمات أمل فارغة.
‘بصراحة، أكثر مَنٔ يملك فرصة للبقاء حيّة هنا… هو أنا.’
‘لكن حتّى تلك الفرصة لا تتجاوز عشرة بالمئة.’
أنا أعرف هوية العقل المدبّر، و طريق الهروب، ومكائد مصّاصي الدماء.
وحتّى مع وجود نظام محاكاة المواعدة، لم أستطع الجزم بالنجاة.
‘إذا كان هذا حالي، فكيف سيكون وضعهم؟’
ساد الصمت وسط أجواءٍ قاتمة.
الصوت الوحيد كان اهتزازات ارتطام رأس أسمير بالباب.
و في خضمّ ذلك، فتح ريد فمه متردّدًا.
“…بدلًا من الهرب، ما رأيكم أن نحاول القتال؟”
التعليقات لهذا الفصل " 41"