“هل قلتِ إنكِ تقرئين حركة الشفاه؟”
ارتجفت كتف أدريان فجأة عند سؤال لوكاس غير المتوقع وهي تقف متيبّسة. فما إن نزل من الرواق حتى صرف تيسا، وأدخل أدريان إلى مكتبه على انفراد.
“لن يطول الحديث. على أي حال، ليس بيني وبينك الكثير مما يقال.”
عينا أدريان تابعتا بشغف حركة شفتيه حتى لا يفوتها شيء من كلامه، وما إن أنهى كلامه حتى سارعت بهزّ رأسها نحوه.
“سأتحدث أنا، وأنتِ اكتبي. مفهوم؟”
وضع لوكاس ورقة من الرق وقلمًا من الريش فوق الطاولة. سقط بصر أدريان على الرق والقلم، لكنها سرعان ما رفعت نظرها لتثبته على شفتيه من جديد.
“هممم.”
أطلق لوكاس سعالًا خفيفًا دون وعي منه. فقد أثارت فيه نظرات أدريان المثبتة على شفتيه ــ لا على وجهه أو عينيه ــ إحساسًا غريبًا.
“أنا لا أطلب منكِ أي شيء.”
[…]
“وأتمنى فقط أن تبقي هنا بهدوء تام. لذلك أود أن أطلب منكِ ألا تفعلي شيئًا على الإطلاق.”
[أنا…]
حاولت أدريان بعادةٍ أن تستخدم لغة الإشارة، لكنها رأت تقطيب لوكاس فانحنت بسرعة والتقطت القلم.
أنا زوجة جلالتكم. كما أنني أصبحت الآن من أفراد حصن رانتسكوآ.
“ومن قال إنك لستِ كذلك؟”
قال لوكاس وهو يقطّب حاجبيه أكثر وهو يقرأ ما كُتب بخطٍ منمّق على الرق.
لذا أريد أن أكون عونًا ولو بشيء يسير. أي شيء، مهما كان.
“المشكلة أنني أنا من لا يحتمل ذلك. لذا، ابقي ساكنة ولا تفعلي شيئًا.”
هل تفعل هذا لأنني من أهل تيفيا؟
رفعت أدريان نظرها إليه بوجه كئيب بعد أن أنهت الكتابة.
وإن لم يكن ذلك، فهل تفعل هذا لأنني بكماء؟
ظلّت تحدّق فيه بصمت، ثم عادت يدها المرتجفة لتكتب على الرق. وعندما رفعت رأسها إليه مرة أخرى، كانت عيناها على وشك أن تنهمر منهما الدموع.
“هل يكفي أن يكون كلا الأمرين سببًا وجيهًا؟”
قال لوكاس وهو يحدق بها بوجه جامد. لم تسمع صوته، لكنها تخيلته باردًا كالثلج.
“أنا أكره كل من ينتمي إلى تيفيا. ولأكون صريحًا، فذلك الكره عظيم إلى درجة أن كونكِ بكماء أو لا لم يعد أمرًا ذا شأن، فأنا أبغضك على أي حال.”
[…]
“أنا لا أثق بكِ. ولن أفعل مستقبلًا. لذا…”
كما أن تيفيا اليوم لم تعد عدوًا لكم، فأنا أيضًا لست عدوة لجلالتك.
“ظاهريًا قد يكون الأمر كذلك. لكن هذا لا يجعلكِ في صفّي. ألست على حق؟”
[…]
“أتظنين أن تيفيا ستبقى هادئة إلى الأبد؟ إنكِ تجهلين أباكِ أكثر مما أجهله أنا.”
انعوجت شفتا لوكاس ببرود في نهاية حديثه. أرادت أدريان أن تتحلى بمزيد من الجرأة لترد، لكنها خشيت أن يقود ذلك إلى خصام أكبر، فآثرت الصمت.
كان لوكاس قد فقد والدته أثناء الحرب مع تيفيا. كانت الحرب في أوج عنفها، فلم يستطع أن يودعها، ولا أن يكون بجانبها، ولا حتى أن يحزن عليها كما ينبغي، كما قال بنفسه.
كيف لها أن تدّعي فهم ذلك الحزن، وذلك الحقد، وذلك الندم؟
صرصر القلم وهو يوضع جانبًا. نهضت أدريان من مقعدها بملامح خالية من الحماسة. أحسّت ببرودة نظرات لوكاس وهي تخترق خدها.
باردة، قاسية.
“سمعتُ أن جلالتها، الدوقة الكبرى، كانت مقيمة طوال الوقت في القصر الفرعي.”
قال جايرد وهو يلقي نظرة عابرة على الرق المفتوح فوق المكتب بعدما دخل.
“ماذا؟”
“والآن لم تعد من أهل تيفيا، أليس كذلك يا جلالة الدوق؟”
ظهر الانقباض جليًا على وجه لوكاس من كلامه، لكن جايرد لم يتوقف. فما زالت صورة أدريان الحزينة التي رآها قبل قليل عالقة في ذهنه.
“إذن، صرتَ أنت أيضًا تواليها الآن؟”
“جلالتك!”
“إن كنت تسعى لنيل رضاها، فقد نجحت. أليس كذلك يا جايرد؟”
ارتسم على وجه لوكاس ابتسامة مائلة تخفي حدّة في عينيه.
“أنت تعلم أن الأمر ليس كذلك.”
“إن لم يكن كذلك، فلا تفرض عليّ أفكارك إذن.”
هاه…
زفر جايرد زفرة قصيرة نحو لوكاس.
“ألم يُقل إن جلالة الدوقة الكبرى تملك قوة سحرية؟ صحيح أن تيسا يجتهد في التدريب، لكنه ضعيف. خذ ما تحتاجه منها يا جلالتك.”
“أتقصد أن أستغلها؟”
“حتى جعل العدو السابق حليفًا يُعدّ مهارة.”
“جايرد، ما زلتَ تجيد المراوغة بالكلام.”
تمتم لوكاس بسخرية وهو يطلق ضحكة قصيرة من أنفه. لقد عاش معه طويلًا، فعرفه جايرد أكثر من اللازم: متى يثور غضبه، وأي نقطة تُثير كبرياءه.
صحيح.
ذلك النور!
قال تيسا أن تلك الطاقة سحر بلا شك.
سحر انفجر من تلقاء نفسه بينما كانت في خطر…
“قيل إنها من سلالة كييل.”
فجأة، ارتفع صوت تيسا من خلفهما، فالتفت لوكاس وجايرد إليه معًا. كان قد دخل للتو، وابتسم نحوهما وهو يهز كتفيه بخفة.
“لعل تلك القوة السحرية قد ورثتها من الملكة التي كانت تنتمي إلى سلالة كييل.”
“لم أسمع قط أن الملكة من سلالة كييل؟”
“سلالة كييل ارتبطت بالسحر الأسود. أما تعرفون التاريخ حين اكتسب أحد ورثتهم السحر الأسود واكتسح به الأراضي كلها؟”
قبل مئتي عام، مات عدد لا يُحصى من البشر بسحرٍ أسود سُمّي آنذاك الضباب الأسود. كان ذلك في زمنٍ كانت فيه معابد أسكرو الكبرى مركز العالم.
وقتها كان مقام كبار السحرة أرفع من مقام الإمبراطور.
لكن حينذاك، ولأنهم أفسدوا العالم بالسحر الأسود، تلاشت هيبة معابد أسكرو الكبرى إلى حدّ جعل أمجادها الماضية بلا معنى.
وإذ فسدت غابة كييل بفعل السحر الأسود وتحولت إلى غابة مظلمة يعجّ بها الوحوش، انقرضت سلالة كييل أو تفرقت في كل مكان، حتى صار من المستحيل العثور على أثر لهم.
“فكيف يمكن أن تُعلن للناس أن الملكة من تلك السلالة؟”
“ولكن، يا للعجب، لقد أفشت مثل هذا السر الجسيم لتيسا!”
“جلالتك، لا أظن أن هذا هو المهم الآن.”
“هَه، لقد جعلت رجالي ينضمون إلى صفها إذن. لتلك المرأة قدرة فائقة حقًا. أليس كذلك؟”
ابتسم لوكاس ابتسامة عريضة وهما أمامه، وإن كان بريق عينيه مثل صفائح جليدٍ بارد.
“إذا أخذناها من هذا المنطلق، فجلالة الدوقة الكبرى كذلك قد جعلت الأهالي في صفّها.”
“ماذا قلت؟”
“لقد عالجتهم بنفسها، وأمرت يوريا بتوزيع الدواء عليهم.”
“وبأي حق فعلت ذلك؟!”
“جلالتك، هذا ليس أمرًا يستوجب الغضب، بل يستحق الثناء في الحقيقة.”
قال جايرد، بينما تيسا تمتم معترضا كأنه يسخر من غضب لوكاس الذي زمّ جبينه وحدّق فيه.
أما هو، فلم يكترث، بل دارت عيناه كعادته دون مبالاة.
“افتح النوافذ قليلًا يا جلالتك. حينها سيتسلل النسيم أيضًا.”
“واو! يا لها من عبارة رائعة، جايرد!”
قال تيسا بمرح، وصفّق بيديه كأنه لا يعرف الحرج، رغم نظرات لوكاس الحادّة.
قد يبدو أحيانًا ذكيا، لكنه سرعان ما يتصرف ببلادة… تمامًا كما الآن.
‘…هَه.’
بعصبية، مرّر لوكاس أصابعه في شعره لينثره، وخطا بخطوات واسعة متجاوزًا الاثنين. لم يعد الكلام يجدي نفعًا.
أدريان كلاديوس.
ماذا فعلت تلك المرأة؟ أيّ سحر هذا الذي جعلها في تلك المدة القصيرة تزعزع رجالي؟
خطر له وجهها فجأة.
وجه شاحب لا لون فيه، لا يُرى فيه سوى سواد عينيها، تنظر بحدّة مرعبة ومع ذلك تواجهه بثبات دون أن تحيد…
‘اللعنة! وماذا في ذلك؟’
في النهاية، إنها ابنة ديفيل، وأميرة من تيفيا ليس إلا.
أنا زوجة جلالتك. كما أنني الآن فرد من حصن رانتسكوآ.
زوجة؟
لم يخطر له يومًا أن يراها على هذا النحو.
لم يكن مراد أبيه أمرًا ذا شأن. ربما كان غايته أن يحميه من ولي العهد أغمنت أو من الإمبراطورة ڤيلوريا، لكنه في النهاية كان وسيلة خطيرة محفوفة بالمخاطر.
الإمبراطور الحالي وهن بفعل جراح الحرب. لذلك منذ بضع سنوات صار ولي العهد أغمنت هو من يتولى مهام العرش. وبطبيعة الحال، كان بيت الإمبراطورة ڤيلوريا يساند ولي العهد.
ولم يمض وقت طويل حتى صار واضحًا أن إمبراطورية روديا ستؤول إلى أغمنت.
“كيف يُعطى لقب دوق لمجرّد ابن غير شرعي؟ عِش شاكرًا للنعمة وحسب. فحتى إن كنت في رانتسكوآ فلن يتغير شيء. احمِ حدود الإمبراطورية من البرابرة، فهذا هو سبب حياتك، وغاية وجودك.”
ارتجّ صدى صوتٍ باردٍ منسيّ في أذنيه.
“هَه، كأنني كنتُ بحاجة إلى مثل هذا اللقب؟”
لم يكن يرغب في أي لقب، ولا في أي قصر، ولا في أي إقطاعية، ولا حتى في زوجة.
كل ما أراده لوكاس هو سلامة والدته.
لكن والدته ماتت. وبمكيدة من أغمنت تحديدًا.
“ليس لديك سوى مجرد ادعاءات، بدون أي أدلة. عليك أن تكبح نفسك. أنت بلا سند، وأنا لا أملك سببًا شرعيًا لأحميك، الابن غير الشرعي، من ولي العهد الشرعي والإمبراطورة.”
عندها انفجر باكيًا في وجه أبيه. لكن بكاءه لم يكن ليُعيد والدته إلى الحياة.
ألقى لوكاس بنفسه في الحرب. قاتل بعزم على الموت، وذبح بلا رحمة، وغزا بوحشية.
حتى أن صورته حينها أعادت للناس ذكرى ما جرى قبل مئتي عام، حين اجتاح السحر الأسود الأراضي كلها. ومن يومها لُقّب بـ الضباب الأسود.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"