3
قاعة الطعام، التي كان يفترض أن تعجّ بالفرسان، كانت ساكنة على نحوٍ غريب. وما إن خطا لوكاس داخلها حتى أدرك السبب وراء تلك الأجواء المشوبة بالغرابة.
ربما كان ذلك أيضًا نوعًا من “الاعتبار”، إذ نهضت أدريان من مقعدها عند طرف المائدة الطويلة فور أن رأته يدخل. تحرّكت عينا لوكاس الباردتان نحو جيارد الذي كان يتبعه من الخلف.
“هناك الكثير من العيون المترصدة داخل القلعة. قد يكون بيننا أيضًا جواسيس لسمو ولي العهد.”
“أتريد أن تقول لي أن أُري ذلك الجاسوس مشهد تناول العشاء مع شخص لا أطيقه أصلًا؟”
“إنها ستكون زوجتك يا مولاي.”
“هَه، اسميا فقط، لا أكثر.”
“هل تريد أن أتراجع إذًا؟”
رمى لوكاس جيارد بنظرة ممتعضة حين سمع سؤاله الوقح بعد ذلك الجواب الملتوي.
“لقد أحضرتُ شخصًا آخر ليقوم على خدمة مائدتكما. فمن الآن فصاعدًا، سموكما ستعتادان تناول الطعام معًا.”
“أحيي جلالة الدوق.”
ما إن أنهى جيارد كلامه حتى دخلت يوريا إلى القاعة، وانحنت برأسها أمام لوكاس الذي كان يجلس لتوّه على الكرسي.
“جاسوسة، هه…”
أي فرق سيكون بين جاسوس أغمنت و جاسوسة تيفيا؟ لوكاس ضحك ببرود، ثم صوب نظراته الباردة نحو أدريان الجالسة مقابله.
كانت تيفيا، على خلاف الممالك الأخرى، ثرية، وبفضل ثرائها راحت تشتري المرتزقة من الممالك الشرقية بلا انقطاع. ظنّ والده أن الحرب ستنتهي بسرعة، لكن حساباته أخطأت، واستمرت الحرب لفترة طويلة.
عشر سنوات كاملة.
حاربوا طوال عشر سنوات، بالكاد كل يوم، من أجل الاستحواذ على تيفيا. وكم من فارس سقط قتيلاً في تلك الحرب؟ لم تنتهِ إلا بعد أن غُمرت بدماء ولحوم لا تُحصى من الفرسان.
بعد كل ذلك الدم، أعلن والدها، ديفيل كلاوديوس، استسلامه.
وبعد الهزيمة، سلّم ديفيل مناجم الذهب، وقدّم للإمبراطورية عددًا كبيرًا من العبيد والمنتجات الخاصة. ولم يعترف كسيرس بخضوع تيفيا إلا بعد ذلك.
‘آه، ومن بين ما قدّمه ديفيل، كانت هذه المرأة أيضًا.’
هذه البكماء التي تتصنّع الحياء بخبث، الجالسة الآن أمامه.
أدريان كلاوديوس.
امرأة من سلالة ملكية حتى العظم، ذات بشرة بيضاء كالموتى، وشعر أشقر يميل إلى الفضي.
لو لم تُهزم مملكتها، لكانت ربما قد تزوجت رجلًا بظروف أفضل منه عبر زواج سياسي.
أترى؟ ربما هي الأخرى لم تكن سوى قطعة على رقعة شطرنج اختيرت قسرًا.
ومع ذلك، كان الحذر واجبًا. لوكاس لم يسمع قط من والده، الإمبراطور كسيرس، عن سبب اختياره هذه المرأة لتكون ندّه.
وفوق ذلك، كيف له أن يثق بديفيل وقد خُفِّض إلى رتبة دوق بعد خضوعه لروديا؟ ورغم كل ما سُلب منه، فما زال يملك الكثير، وما زال رجلًا ذو نفوذ.
من يدري؟ لعلّه يدبّر شيئًا لمستقبلٍ ما.
خطة للتقارب، يقولون؟ لقد سالت الدماء عشر سنوات. أي تقارب هذا؟
“أنا لا أحب التحدث أثناء الطعام. لذا غادري.”
“ولكن أنا…”
“أتجادلينني الآن؟”
“لـ… لا يا سيدي. إذًا، أستأذن بالانصراف.”
ارتعبت يوريا من برودة كلماته، فألقت نظرة خاطفة على أدريان قبل أن تغادر المطعم بخطوات مسرعة.
لم يبقَ في وجبة العشاء سوى صمت مطبق، لا يقطعه سوى أصوات خافتة حين تدخل الخادمة أحيانًا لتخدم. كان لوكاس قد توقّع مائدة صاخبة مع الفرسان، مليئة بالشراب والأحاديث التافهة، لكن ما يحدث الآن كان يخنقه حتى لم يعد يدري إن كان اللحم يدخل عبر أنفه أم فمه.
وفوق ذلك، مشهد المرأة المقابلة له التي كانت تتناول طعامها بهدوء وهي تراقب ردود فعله جعله يغلي من الغضب.
طَرق!
توقف لوكاس عن الأكل، عابسًا بانزعاج شديد.
رَنّ، رَنّ، رَنّ.
ضغط بعصبية على الجرس، فسارعت إحدى الخادمات بالدخول.
“نعم، يا سيدي.”
“أحضري تلك الفتاة لتخدم هنا.”
“نعم؟”
اتسعت عينا الخادمة بعدم فهم.
“يوريا. أعني… خادمة الدوقة.”
“حسناً.”
أدركت الخادمة قصده أخيرًا، ثم أسرعت بالخروج كما دخلت.
مسح لوكاس فمه بخشونة بمنديله، ثم نهض فجأة.
“سيدي، هل أنهيت الطعام بالفعل؟”
“أنت تعرف أني أكره الانزعاج.”
“لكن، سموك، ينبغي أن تتحمل قدرًا من…”
“يكفي. لا تُعدّ مثل هذه الموائد مستقبلًا.”
رمى المنديل بعصبية، ثم قطّب حاجبيه وهو يتجاوز جيارد.
[يبدو أني ارتكبت حماقة، يوريا.]
“كيف تقولين حماقة؟ هذا غير صحيح إطلاقًا.”
هزّت يوريا رأسها أمام وجه أدريان الكئيب.
“من ارتكب الحماقة لم تكن جلالتك، بل أنا. رجاءً لا تُدخلي مثل هذا الكلام في قلبك، كما قالت يوريا.”
“أرأيتِ؟ حتى كبير الخدم يقول الشيء نفسه الذي أقوله.”
ابتسمت يوريا وهي تترجم كلام جيارد نحو أدريان. عندها عادت عينا أدريان من يوريا إلى جيارد.
“جلالة الدوق بطبعه شخص جاد وممل. فلا تشغلي بالك كثيرًا بما حصل اليوم، يا سيدتي.”
[نعم. شكرًا لك، جيارد.]
“هل هذه كلمة شكر إذًا؟”
[نعم. صحيح.]
أومأت أدريان برأسها تجاه جيارد الذي فهم إشاراتها.
“أفهَم، ولكن لا داعي لأن تشكريني. فهذا عملي.”
[ومع ذلك.]
“أنا، بصفتي خادمًا، أتمنى أن يكون لسيدتي الدوقة مكان تجد فيها راحتها.”
في عيني جيارد، اللتين بدتا دائمًا حادتين، تلألأت هذه المرة نبرة من القلق والصدق. أدريان، التي قرأت حركة شفتيه، حدّقت مطولًا في تلك العينين البنيتين.
[هل تثق بي؟]
“تسألك سيدتي إن كنت تثق بها.”
“لا. أنا لا أثق بأحد سوى حضرة الدوق. إنما يقلقني فقط أمنك وسلامتك.”
[شكرًا لك على صراحتك، يا جيارد.]
“تشكرُك سيدتي على صراحتك.”
“لا شكر على واجب، سيدتي.”
ومع ترجمة يوريا، ارتسمت ابتسامة رقيقة على شفتي جيارد.
***
قلعة “رانتسكوآ” كانت مكانًا يتعرض لهجمات متكررة من البرابرة. وكان الدوق لوكاس، سيد القلعة، يخرج لتفقد الإقطاعية بشكل شبه يومي، بينما يجوب الفرسان في دوريات منظمة ليلًا ونهارًا حول أسوار القلعة.
وبحسب ما قاله جيارد، فإن البرابرة ما زالوا يظنون أن لوكاس قد استولى على أرضهم عنوة.
لكن الحقيقة أن “رانتسكوآ” كانت، منذ ما قبل عصر التنانين، أرضًا تابعة لإمبراطورية روديا. وبعد انتهاء عصر التنانين، انقسمت الإمبراطورية إلى خمس ممالك، وأصبحت “رانتسكوآ” قلعة شمالية تابعة لمملكة “فرانتس”.
ومع مرور الزمن، وبسبب بعدها الكبير عن باقي الأراضي، أخذ الناس يهجرونها تدريجيًا، حتى أصبحت في النهاية أرضًا مهجورة.
وهكذا، دخلت إليها القبائل المتوحشة من وراء مضيق “ليك”، وأقاموا فيها عالمهم الخاص.
لكن، على الرغم من ذلك، كانت هذه الأرض لا تزال، بحق، جزءًا من أملاك إمبراطورية روديا.
الإمبراطور كسيرس، الذي أنهى أخيرًا توحيد جميع أراضي روديا بعد إخضاع “تيفيا”، كان يأمل في استعادة “رانتسكوآ” التي اغتصبتها البرابرة.
فاختار لذلك ابنه الثالث، لوكاس.
[يوريا، أظن أن بعض الناس قد أُصيبوا.]
أدريان، التي كانت تطلّ بقلق من الممر نحو الخارج حيث تُشعل المشاعل واحدة تلو الأخرى، التفتت إلى يوريا بعينين قلقتين.
“سمعت من باقي الخادمات أنهم يتعرضون لإصابات أحيانًا. ما دام البرابرة يهاجمون الحقول باستمرار.”
[يجب أن أنزل.]
“ولماذا ستنزلين يا سيدتي؟”
[لأرى إن كان هناك ما أستطيع مساعدتهم فيه…]
“لكن هناك معالجون، وحتى الساحر موجود، أليس كذلك؟”
[رغم ذلك، أريد أن أنزل.]
“آه يا إلهي…”
تمتمت يوريا بضيق وهي تدور بسرعة لتلحق بـ أدريان التي بدأت تنزل الدرج.
ومن وجهة نظر يوريا، لم يكن من المرجّح أن يُسرّ الدوق بمحاولات سيدتها المستمرة هذه. كل ما كان يخفف الأمر أن الدوق، الذي خرج منذ الظهيرة في جولة تفقدية نحو الشمال الغربي مع كتيبة النخبة، لم يكن موجودًا الآن داخل القلعة.
“تمهلي، ستسقطين يا سيدتي!”
بالطبع، لم يكن صوت يوريا المذعور ليصل إلى أدريان التي كانت تسبقها، لكنها واصلت الصراخ وهي تهرول خلفها على الدرج.
“سيدتي، ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
سأل جيارد، كبير الخدم، بدهشة وهو يرى أدريان تعبر الممر.
“تقول إنها ترغب في مساعدة المصابين…”
“ممتنون لنواياها، لكن لدينا طبيب وتيسا، وهما كافيان يا سيدتي.”
[لكنني رأيتُ من فوق أن بين المصابين نساءً وأطفالًا.]
“تقول إنها رأت نساءً وأطفالًا بين المصابين.”
عند سماع الترجمة من يوريا، قطّب جيارد جبينه قليلًا.
“صحيح، أحيانًا يكون بينهم نساء وأطفال كانوا يعملون في الحقول.”
[إن كانت الإصابات بسيطة، يمكنني أن أساعد. فلا يُستحب لرجل أن يلمس النساء.]
“تقول إنها تودّ المساعدة في علاج النساء.”
“إذن، من هذا الطريق يا سيدتي.”
أومأ جيارد برأسه نحو أدريان بعد سماع الترجمة من يوريا، وأشار بيده نحو الغرفة الواقعة في يمين الممر.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"