“خشيتُ إن جلستُ بعيدًا ألّا تستطيعي قراءة شفتي.”
على خلاف ذلك اليوم حين جلس كلّ منهما في طرفٍ بعيد من الطاولة الواسعة، جلس لوكاس الآن قبالة أدريان عند الجانب العريض من المائدة.
كان قريبًا.
قريبًا بما يكفي لتستطيع، كما قال، قراءة كل ما تنطق به شفتاه بوضوح.
“بما أنه لا يمكن الكتابة أثناء تناول الطعام، فحين أطرح سؤالًا، أجيبي بهزّ الرأس إقرارًا أو نفيًا.”
بمعنى أنه سيطرح عليها أسئلة. تُرى، أي نوع من الأسئلة كان يقصد؟
“أتوافقين؟”
ربما كان ذلك سؤاله الأول. لم يكن لها خيارٌ في كل الأحوال. فأومأت أدريان برأسها نحو لوكاس.
طنين خفيف.
رنّ لوكاس الجرس، فدخلت خادمتان إلى قاعة الطعام، ثم شرعتا تضعان الأطباق على الطاولة المغطاة بمفرش أبيض.
“لا تدخلا مجددًا حتى أستدعيكما.”
“نعم، يا مولاي.”
“حاضر، يا مولاي.”
أومأت الخادمتان برأسيهما وخرجتا من القاعة.
“تذوّقي. قد لا يرقى طعامنا إلى ما اعتدتِه في قصر تيريز، لكنه على الأقل أُعدّ بعناية.”
قال لوكاس وهو يرفع الكأس إلى شفتيه، ناظرًا إلى أدريان.
فالناس لم يعرفوا عنها سوى أنها نشأت أميرةً في قصر تيريز، وظنّوا أنها عاشت بلا نقص او حاجة.
لكن في الحقيقة، قلّة قليلة في تيفيا وحدها كانت تدرك تفاصيل حياة القصر. لم يعرفوا أنها كانت سجينة فيه، محرومة من الحرية، مضطرةً للعيش تحت تهديد مستمر من الملكة الجديدة.
كلّ ما عرفه الناس أنّ مكانتها ضاقت بعد أن أنجبت الملكة الجديدة وليّ العهد.
لكن على عكس ما كانوا يظنون، لم يكن لها مكان في قصر تيريز منذ رحيل والدتها وفقدانها القدرة على الكلام.
“هل يطيب لك طعام هذا المكان؟”
لم تكن أدريان من ذوي الذوق الصعب. حتى حين أقامت في الجناح التابع لقصر تيريز، لم يسبق لها أن استمتعت بوليمة. فأومأت برأسها نحو لوكاس.
“جيد.”
هزّ لوكاس كتفيه بلا مبالاة.
[…]
ظنّت أنه سيطرح مزيدًا من الأسئلة، لكن على خلاف توقعاتها، انشغل بعدها بتناول طعامه.
ومع ذلك، لم تكفّ أدريان عن مراقبة حركة شفتيه من حين لآخر أثناء تناول الطعام، تحسّبًا لأي سؤال آخر قد يوجّهه إليها.
“يبدو أننا بحاجة إلى إشارة متفق عليها.”
[…]
“قلتُ إننا بحاجة إلى إشارة. فأنتِ لا تأكلين، بل تحدّقين في شفتيّ فقط.”
كان محقًا.
تنهدت أدريان بصمت وهي ترى خطوط الضجر ترتسم على جبهته.
كان العجز عن السمع والكلام جدارًا هائلًا يحول دون التواصل. ومن منظور لوكاس، الذي لم يعتد على ذلك، بدا الأمر أشدّ صعوبة.
“هل كنتِ غير قادرة على الكلام منذ ولادتكِ؟”
أدريان حرّكت رأسها نفيًا.
“إذن إن كان الأمر طارئًا، أفلا يمكن علاجه؟”
هزّت رأسها مرة أخرى.
لقد جرّب والدها، الملك ديفيل، كل شيء لعلاجها.
استدعى كهنة معبد أسكرو الأعظم، واستقدم السحرة العظام ليستخدموا قواهم، بل دعا أطباء مشهورين من دول بعيدة ليعالجوها.
لكن رغم كل ذلك، لم تسترجع صوتها. فتعلمت لغة الإشارة حتى أتقنتها، وتدرّبت على قراءة الشفاه.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد الملك ديفيل يطلب لقاءها. لم ترَه مجددًا إلا في اليوم السابق مباشرة لزفافها بلوكاس.
ست سنوات كاملة مرّت.
“اجعليه إلى جانبكِ. كي تتمكني من ضمان مستقبلك. بهذا فقط ستثبتين أنكِ ذات فائدة.”
“شخص ذو فائدة…”
كانت تلك الكلمات ما تزال كشوكة في قلبها تؤلمها كلما تذكرتها. لا، بل كانت نظرات والدها حينها أقسى وقعًا من كلماته نفسها.
فبعد ست سنوات من الغياب، لم يكن قوله سوى أمرٍ بارد: أن تثبت قيمتها بالزواج، كما لو كانت سلعة تُباع.
‘سأبذل جهدي لأكون ذات قيمة، لكن ليس لأجل ضمان مستقبلٍ مزعوم.’
لم تكن أدريان تنوي أن تجعل لوكاس في صفها. على العكس، كانت عازمة على أن تكون هي في صفّه.
صرير.
بينما كانت غارقة في أفكارها، نهض لوكاس فجأة عن مقعده بلا كلمة، وغادر القاعة بخطوات مسرعة.
انتفضت أدريان واقفة في ذهول، ثم لحقت به.
“لقد دوّت أبواق الإنذار!”
قالت الخادمة الواقفة عند الباب بخوف وهي تحدّث أدريان التي تسير خارج القاعة.
‘البرابرة!’
تجمّد وجه أدريان في الحال.
كانوا يقولون إن البرابرة يزدادون شراسة كلما اقترب الشتاء القارس. ففي ذلك الفصل القاسي يقلّ الطعام، وتكثر الانقسامات بين القبائل المتفرقة، فيتجرؤون على اقتحام القلاع لاستعادتها قبل حلول البرد.
مضت ثلاثة أشهر منذ قدمت أدريان من قصر التاج إلى رانتسكوآ. وخلال هذه المدة لم يهاجم البرابرة القلعة سوى مرتين، وكلتاهما حدثت هذا الشهر.
“جلالتك، انظري هناك. فرسان الفيلق الأسود يعودون إلى القلعة.”
قالت يوريا، وهي تلمس ذراع أدريان وتشير من النافذة. تبعت أدريان اتجاه أصبعها، فرأت كتائب الفرسان تصطف وتدخل عبر بوابة القلعة.
[عليّ أن أذهب إلى العلاج.]
أدريان، التي لم تستطع أن تجلس طَوال الوقت وظلّت تسير من طرف الغرفة إلى طرفها الآخر، ارتدت رداءها وخرجت من الغرفة.
“لقد تأخرتِ كثيرًا، يا صاحبة السمو.”
كان الليل عميقًا والقمر مكتملًا وحيدًا في السماء. لكن ليلًا كان أو نهارًا، كان لا بدّ من معالجة الجرحى.
ورغم محاولة يوريا ثَنيها عن الذهاب، أسرعت أدريان بخطواتها. المعركة لم تكن طويلة، لكن هذا لا يعني أن أحدًا لم يُصب.
“يا صاحبة السمو.”
[هل هناك الكثير من الجرحى؟]
في طريقها إلى العلاج صادفت جايرد. ناسية أنّه لا يستطيع التواصل معها بلغة الإشارة، سألت أدريان بيدها. فارتبك جايرد وحدّق في يوريا.
[اسأليه إن كان هناك الكثير من الجرحى.]
“تسأل صاحبة السمو إن كان هناك الكثير من الفرسان المصابين.”
“لا، يا صاحبة السمو. كإجراء احترازي، كنت قد عزّزت برج المراقبة بالجنود. فبما أننا في وقت حرج، خشيت أن يحدث ما لا نتوقعه.”
[حقًّا؟ هذا مطمئن للغاية.]
“والدوق أيضًا بخير.”
عندما أطلقت أدريان تنهيدة ارتياح، ابتسم جايرد وأضاف
“لا تشغلي بالكِ بهذا المكان، عودي لترتاحي. الوقت متأخر جدًّا.”
[إذن، شكرًا لك يا جايرد.]
“تصبحين على خير، يا صاحبة السمو.”
ابتسمت أدريان لجايرد الذي انحنى بأدب، ثم أدارت خطاها بهدوء عائدة.
‘يا إلهي… الشكر للرب.’
وبعد طول تقلّب على الفراش، غلبها النوم أخيرًا. كان وجهها، وهي نائمة متكوّرة على جانبها، يضيئه ضوء البدر بوضوح.
“…”
كان هناك من يراقب ذلك الوجه. لم يكن المتسلل بحاجة إلى أن يتسلّل أو يحرص على إخفاء أنفاسه، ومع ذلك كبح أنفاسه بين حين وآخر وهو يحدّق بأدريان.
“ما الذي يدعوني للتردد؟”
كان صوتًا مترنّحًا تغشاه رائحة الخمر. وصاحبه، وكأنه اتخذ قراره، جلس فوق السرير حيث تنام أدريان.
في تلك اللحظة تمامًا، تحرّكت أدريان بارتباك ونهضت من السرير. كان في أنفاسها المتطايرة في الهواء أثر خوفها.
“إنه أنا، لوكاس.”
تعمد أن يطل بوجهه نحو النافذة وهو يهمس إليها. فبدأت حدقتا أدريان، التي كانت ترتجف، تستعيدان هدوءهما تدريجيًا.
“لم أستطع النوم، أدريان.”
تجهم وجهها قليلًا عند كلماته. كانت عيناها مركّزتين على شفتيه. فقلّدها لوكاس وعقد حاجبيه.
“أنتِ زوجتي.”
قالها وهو يقترب فجأة من وجهها ويتمتم. حاولت أن تقرأ شفتيه بتركيز، لكن ظلّ الليل كان يحجب وضوح حركتها.
“لا يهم.”
كان في صوته شيء من التوتر والانزعاج.
“أنتِ زوجتي، ومتى أردتُ أستطيع أن أضمّكِ.”
أمسك بذراعها فجأة، فارتاعت وحاولت التراجع، غير أن الحركة ارتدت بها فطرحت على السرير.
“رائحة الدم تزكم أنفي. مهما اغتسلت مرارًا، تبقى رائحة دماء أولئك البرابرة اللعينة عالقة بي حتى أكاد أجنّ.”
[…]
“أحتاجكِ.”
تمتم بخفوت وهو يقبض على ذقنها.
آه… اغم…
كادت أدريان أن تختنق من لسانه الرطب الذي اخترق شفتيها. جسده الثقيل ضغطها للأسفل. ولسانه اجتاح فمها كمن يريد ابتلاعه كلّه. جفناها أطبقا على حدقتين ترتجفان بالذعر.
كانت مضطربة ومرعوبة إلى حد الجنون. لكنها أقنعت نفسها بضرورة التحمّل.
لوكاس كين راهيل.
لقد كان زوجها.
لكن……
لم تكن أدريان تشعر أنّ ما يحدث لها الآن حقيقي.
‘أرجوك…’
لم تكن تدري ما الذي ترجوه بالتحديد، لكنها كانت تناجي في صدرها مرارًا.
أن يتوقف، أو على الأقل أن ينتهي الأمر بسرعة.
وإلا…
شهقة!
يداه العريضة مزّقت قماش نومها وقبضت على صدرها. في تلك اللحظة فقط، انقطعت أفكارها. ولم يعد هناك مجال لأي تفكير.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"