2
“هل تعرف ذلك الرجل، يا دالاس؟”
“بالطبع.”
“مَن هو؟”
“إنّه العقيد إيهيت كلويدن، أمعقولٌ أنّكِ لا تعرفينه يا دافلين؟”
سألني دالاس بنبرةٍ تشبه:
“أتعقلين أنّكِ لا تعرفين أركان مدرستنا الأربعة؟”
‘إيهيت كلويدن؟’
عند سماعي للاسم، أدركتُ أخيرًا أيَّ روايةٍ كنتُ قد وُلدتُ فيها من جديد.
إيهيت هو اسمُ البطلِ الذكريّ في رواية <زهرةٌ تزهر فوق البحر>،
المعروفة اختصارًا باسم <زهرة البحر>.
روايةٌ رومانسيّة تدور أحداثُها في مدينةٍ مرفئيّة،
وتحكي قصّة العقيد البحريّ إيهيت،
والبطلة ريديل التي عُيّنت أدميرالًا في أسطوله.
لكنّ <زهرة البحر> لم تكن روايةً متماسكة الحبكة.
‘كانت بدايتُها مشرقة، ثمّ انحدرت شيئًا فشيئًا إلى فوضى عبثيّة،
يموت فيها البطل، ويموت البطل الثاني،
ولا ينجو في النهاية سوى البطلة وحدها.’
إيهيت، بطل الرواية ذو الملامح الشبيهة بدوق الشمال،
كان شخصيةً أغدق عليها الكاتب كلَّ عناصر التفوّق الممكنة.
ينتمي إلى عائلة كلويدن،
وهي أسرةٌ عريقة تحمل عدّة ألقابٍ نبيلة،
وقد ترقّى إلى رتبة عقيد خلال خمس سنوات فقط،
بسرعةٍ تكاد تكون مرعبة.
شخصيّته باردةٌ حادّة،
لكنّ كفاءته ومظهره استثنائيّان،
كما أنّه المرشّح الأوّل لوراثة دوقيّة كلويدن مستقبلًا.
وكان يمتلك قدرةً خاصّة تُدعى ‘الرؤيا المسبقة’.
قدرةٌ تمكّنه من رؤية مشهدٍ من المستقبل،
وبفضلها قاد عددًا لا يُحصى من المعارك البحريّة إلى النصر.
لكن، ربّما لأنّ الكاتب أنهكته الكتابة،
انتهت الرواية بنهايةٍ وُلدت عظيمةً ثم ماتت خاوية……
‘في النهاية كُشف أنّ إيهيت كان ذا عمرٍ محدود بسبب الآثار الجانبيّة لتلك القدرة.’
قال إنّه على أيّ حالٍ ميتٌ لا محالة،
ثم تلقّى الطعنة بدل البطلة.
ذلك كان ختام إيهيت كلويدن في الأصل.
“انضمّ إلى أسطولنا قبل فترةٍ قصيرة.
الشخص الوحيد الذي بلغ رتبة عقيد خلال خمس سنوات فقط.”
“همم.”
“باستثناء طبعه الحادّ، هو شخصٌ كاملٌ من كلّ النواحي.”
كان دالاس، الذي يعشق الشرح، يلوّح بكأس الشمبانيا،
وكأنّه يؤكّد لي بلا مجالٍ للشكّ أنّ هذا العالم هو حقًّا عالم <زهرة البحر>.
“يُقال إنّه يرفض جميع عروض الزواج لأنّها لا ترضيه.”
“دالاس، ذلك الرجل…… لديه شريكةٌ محدّدة.”
“ماذا؟ ومَن هي؟
دافلين، هل سمعتِ شيئًا ما؟”
أمام إلحاح دالاس، اكتفيتُ بهزّ رأسي نفيًا.
وفي الوقت نفسه، ظللتُ أحدّق بلا انقطاع في إيهيت،
الشخص الذي بدا وكأنّه خُلق ليلائم مشهدَ بيلاتشين الليليّ أكثر من أيّ إنسانٍ آخر.
—
“……على ما يبدو.”
“نعم؟ سيّدي، ماذا قلتَ؟”
احتجتُ بعضَ الوقت لأتأقلم مع ذكرياتِ حياتي السابقة التي عادت فجأة.
وأيُّ شخصٍ لن يكون غير ذلك.
فمَن يستطيع أن يحافظ على إحساسه بالواقع،
بعد أن يدرك فجأة أنّ العالم الذي يعيش فيه ليس سوى رواية؟
كنتُ أعملُ معالجةً في المستشفى الإمبراطوريّ الواقع جنوب بيلاتشين.
وكان المستشفى دائمَ الانشغال.
ربطتُ شعري بإحكام وحاولتُ التركيز،
لكنّ ذهني لم يطاوعني.
“سيدة بيلّا، انتهى العلاج.
بإمكانكِ الانصراف الآن.”
كانت السيدة بيلّا مريضةً تزور المستشفى باستمرار منذ أيّام.
ملابسها بسيطة،
لكنّها تحمل هيبةً غريبة لا تُخطئها العين.
“خذي قسطًا من الراحة في المنزل لثلاثة أيّام.”
“هل ترين ذلك ضروريًّا أيضًا، سيدتي؟”
“نعم، عودي إلى بيتكِ وارتاحي.
سيكون هناك أمرٌ مهمّ قريبًا.”
في الحقيقة، كنتُ أشعر أنا نفسي بأنّني أعمل بنصف وعي فقط.
ما إن انتهيتُ من علاج السيدة بيلّا،
حتّى قدّمتُ طلبَ إجازةٍ رسميّة.
ثم فعلتُ شيئًا لا أكاد أصدّقه الآن:
جلستُ أمام قاعدةِ البحريّة أراقب إيهيت.
كنتُ أُولي كيفيّة قضاء أيّام عطلتي أهميّةً كبرى.
ومع ذلك، لم أستطع البقاء مستلقيةً في السكن.
كان هناك شعورٌ بالضيق وعدم الارتياح لا يفارقني.
‘أدركتُ للتوّ أنّ هذا العالم رواية،
فهل يجوز أن أبقى هكذا بلا حراك؟’
وفوق ذلك، لم أكن أعرف حتّى ما دوري في تلك الرواية.
‘هل ورد اسم دافلين ثم نُسي؟ لماذا أتذكّر بقيّة الشخصيّات، ولا أعرف أنا مَن أكون؟’
لهذا، توجّهتُ إلى قاعدة البحريّة.
فمسرح أحداث <زهرة البحر> كان هناك،
وربّما إن راقبتُ المكان، أفهم شيئًا ما.
“دافلين، ما الأمر؟”
“جئتُ لأراك، يا دالاس.”
وكانت تلك ذريعةً ممتازة لرؤية صديق.
ومنذ ذلك اليوم، بدأتُ ألازم محيط القاعدة البحريّة.
“دافلين، يجب أن أدخل الآن.
وبالمناسبة، متى ستعزمينني على الطعام مقابل رهاننا السابق؟”
“آه، ادخل.”
“هل تسمعينني أصلًا؟ حقًّا جئتِ لرؤيتي؟”
“نعم، ادخل يا دالاس.”
لم يؤدِّ التسكّع حول المكان إلى اكتشافٍ جديد،
لكنّ فرص رؤية إيهيت كانت كثيرة.
وهو يحدّق في عرض البحر بوجهٍ صارم، وهو يعطي أوامره للضبّاط، وهو يجلس وحده في مقهى قريب يحتسي الشاي.
‘لم أرَه يبتسم مرّةً واحدة.’
جلستُ أحدّق فيه طويلًا، وأتخيّل البطلة ريديل.
هل ستكون شبيهةً به كما وصفها النصّ؟
‘فما دوري أنا إذًا؟’
بعد أيّامٍ من التردّد أمام القاعدة بلا نتيجة،
توصلتُ أخيرًا إلى استنتاج.
‘يبدو أنّه لا دور لي أصلًا.’
فليس كلُّ من يعيش في الرواية ذا دور.
النصّ يصف الشخصيّات الأساسيّة فقط،
لكنّ عدد من يعيشون في هذا العالم يفوق الوصف.
كنتُ قد وُلدتُ من جديد كشخصيّةٍ هامشيّة بلا اسم،
لكن التفكير بالأمر جعلني أشعر بالارتياح.
فالتورّط في فوضى <زهرة البحر>
ليس أمرًا يُحمد عقباه.
وفوق ذلك، كان لديّ عملٌ ومهارة.
صحيحٌ أنّ على عائلتي دينًا، لكن إن واصلنا السداد هكذا، فسنُنهيه خلال عشر سنوات.
عدم كوني بطلةً لم يكن سيّئًا.
العيشُ بهدوءٍ هكذا أفضل بكثير.
فمن بين شخصيّات <زهرة البحر> الكثيرة…….
‘دورُ خطيبة إيهيت مثلًا، هو الأسوأ على الإطلاق.’
دورٌ عابر في أحاديث الناس،
لا يُذكر إلّا بهذا الشكل:
‘يُقال إنّ أبناء تلك العائلة استدانوا الأموال بلا حساب مستغلّين نفوذ كلويدن.’
‘حتى الابنة الثانية، السيدة جايمن، حاولوا قتلها خوفًا على اللقب…… يا للأسف.’
تنكشف فضائح العائلة، فتُباد بالكامل، ثم تموت الخطيبة صدمةً بعد أن تضرب رأسها.
نعم، مقارنةً بذلك، كوني شخصيّةً بلا اسم أفضل بأضعاف!
وبينما كنتُ أستعدّ للعودة إلى حياتي اليوميّة،
عثرتُ على رسالةٍ من المنزل، كانت عالقةً أسفل صندوق البريد في سكن المستشفى.
«دافلين! هناك خبرٌ عظيم بانتظارك!
ما إن تقرئين الرسالة، عودي إلى المنزل فورًا!»
‘خبرٌ عظيم؟’
ثلاث علامات تعجّب.
لا بدّ أنّه أمرٌ ضخم.
كان والداي يتمتّعان ببراءةٍ طفوليّة،
ويعشقان مفاجأة أبنائهما.
يبدو أنّهما أعدّا هذه المرّة شيئًا مماثلًا.
‘يصعب أخذ إجازةٍ في منتصف الأسبوع،
سأزور المنزل في أقرب عطلة.’
كان قصر آيليتا يبعد ساعتين بالقطار عن بيلاتشين.
يومٌ واحد يكفي تمامًا.
‘فلأذهب إلى العمل أوّلًا.’
الأيّام الماضية بعد استعادة ذكرياتي كانت أيّامًا مشوّشة.
لكنّها أوصلتني إلى نتيجةٍ واحدة:
لا داعي للتفكير في الأصل بعد الآن.
عليّ أن أعيش حياتي كما هي.
وكان الطقس صافياً.
يوحي بأنّني أستطيع مواجهة حياتي من جديد،
بيومٍ يحمل فألًا حسنًا للغاية.
—
“يُشاع أنّ العقيد كلويدن سيُعلن خطوبته!”
بعد انتهاء الاجتماع الدوريّ في المستشفى،
أثار كلامُ مارثا—مصدر الأخبار—دهشة الجميع.
وانصتُّ أنا أيضًا رغمًا عنّي.
كنتُ قد قرّرتُ تجاهل الرواية،
لكن سماع اسم إيهيت جعل الفضول يتسلّل إليّ.
وخطيبته……
ستكون تلك التي ينتهي بها الأمر إلى الفسخ والهلاك.
“كيف عرفتِ يا مارثا؟”
“رأى أحدهم خادمًا من بيت كلويدن يحمل أوراقًا مربوطةً بأغصان زهور جيراد.”
أومأ الجميع برؤوسهم.
فأغصان جيراد تُستعمل تقليديًّا لربط عقود الزواج.
“مَن تكون يا ترى تلك المحظوظة التي ستصبح خطيبة كلويدن؟”
ضحك أوليفر، كبير المعالجين، ضحكةً عالية.
بدأ الجميع يتكهّن.
“أغبطها، مَن تكون تلك الخطيبة؟”
“لا بدّ أنّها من بيتٍ عظيم.
فكلّ عروض الزواج السابقة رُفضت.”
“خطيبة إيهيت……
أتمنّى لو أعيش يومًا واحدًا مكانها.”
وسط تلك الأحاديث المليئة بالإعجاب،
كنتُ الوحيدة التي تفكّر في شيءٍ آخر.
مَن تكون تلك الخطيبة المشؤومة؟
في تلك اللحظة،
سادَ الاضطرابُ في بهو المستشفى.
أنفاسُ دهشة،
وأصواتُ همسٍ متحمّسة.
‘ما الذي يحدث؟’
خرجتُ مع الآخرين.
وكانت أنظار الجميع مجتمعةً على نقطةٍ واحدة.
وفي تلك النقطة، كان إيهيت واقفًا.
‘هل أتوهّم؟’
راقبته أيّامًا، وسمعتُ اسمه للتوّ، لكن عائلة كلويدن لا تزور المستشفى عادةً.
ومع ذلك،
حتّى بعد أن أغمضتُ عيني وفتحتهما……
‘إنّه إيهيت حقًّا.’
جال بنظره قليلًا، ثم توقّف حين وقع على وجهي.
وبخطواتٍ ثابتة، بدأ إيهيت يتقدّم نحوي.
التعليقات لهذا الفصل " 2"