الحلقة التاسعة عشر.
سار بها نحو غرفة المحفوظات في القصر وسألها:
“هل تحبين الأسلحة النارية؟”
“أجل، إنها سلاحي الأساسي الذي أجيده أكثر من غيره، وطبعًا… أحبها أيضًا.”
“سلاح، أها… غريب نوعًا ما أن تكون بندقية سلاحًا رئيسيًا لا هواية، فغالبًا ما تُستخدم للصيد أو للدفاع عن النفس، ولا تُعتمد كسلاح في القتال.”
“ماذا؟”
رفعت ريتا صوتها دون أن تشعر.
“لا تُستخدم البندقية كسلاح؟ ولم لا؟”
“لأسباب كثيرة؛ إنها غير عملية وخطيرة و يصعب إطلاقها بشكل متكرر، دقتها ليست عالية، وتتكرر أعطالها، لذلك في القتال الحقيقي نستخدم الأقواس عادة، فمن السهل تعزيزها بسحر الرياح، كما أن القوس يمكن أن يُطلق بشكل منحني من الخلف، فلا يعيق الفرسان أو الجنود المشاة في الأمام.”
استمعت ريتا إلى حديثه بينما راودتها ذكريات الطفولة.
والآن بعد أن فكّرت بالأمر، لم ترَ أبدًا حرس القلعة أو فرسان العائلة يستخدمون الأسلحة النارية، بل كانوا يستخدمون السيوف أو الأقواس.
‘حقًا، في هذا العالم، الأسلحة النارية لم تتطور كثيرًا، لدرجة أنهم لا يعاملونها حتى كسلاح فعلي…’
لم تكن تتوقع وجود بندقية سحرية من طراز متطور ، كـ ذروة تقنية الماجوتيكنولوجيا ، لكنّها كانت تتمنى على الأقل وجود بندقية عملية قابلة للاستخدام لكن يبدو أن هذا كان تمنيًا أكبر من اللازم.
الماجوتكنولوجيا : تقنية تقوم على دمج العناصر السحرية مع العلوم الميكانيكية والإلكترونية، لتوليد أدوات هجينة تتخطى حدود الفيزياء التقليدية.
دخلت ريتا غرفة الحفظ خلف ليونهارت وقلبها مثقل بإحساس غير مريح، وما إن وقعت عيناها على البنادق المعروضة داخل خزانة العرض حتى تنهدت في سرّها.
‘يا إلهي… موسكيتات ومسدسات ريفولفر قديمة…’
من منظورها، لم تكن هذه الأسلحة أقرب إلى أدوات القتال، بل إلى التحف القديمة أو الأعمال الفنية.
الزينة المزخرفة على سبطانة البنادق كانت تؤكد أنها تُقتنى لأغراض هواية وجمع فقط.
‘أسلحة كهذه تُستخدم بدون سحر… لا عجب أنها تافهة أمام الأقواس المدعومة بالسحر.’
فتح ليونهارت خزانة العرض وقال:
“إذا أعجبك شيء، يمكنك أخذه.”
لم تفكر ريتا طويلًا، لم تُلقِ نظرة حتى على البنادق الطويلة والثقيلة من طراز المَوسكيت، بل جرّبت عدة مسدسات صغيرة واختارت أخفها وزنًا.
فجسدها الحقيقي الذي استعادته كان أضعف بكثير مقارنة بجسد “ريتا باسكال”، لذا لم يكن في وسعها التعامل مع الأسلحة الثقيلة لم يكن أمامها خيار آخر.
“سآخذ هذا.”
“إذًا، سأحضّر لك الرصاص والبارود..”
“لا حاجة لذلك.”
ففي الأصل، كانت تستعيض عن الرصاص الحقيقي بالطلقات السحرية التي تولّدها بنفسها، وتُطلقها باستخدام الأود ، وهذا هو جوهر فن البنادق السحرية، صحيح أن البارود والطلقات تُستخدم أحيانًا كدعم، لكنها كانت تدرك أن الأسلحة هنا لم تُصمّم لتناسب هذا الفن، لذا لن تكون ذات نفع كبير.
ومع ذلك… مجرد امتلاكي لبندقية من جديد أمر رائع، يا إلهي، كم مضى من الأيام منذ آخر مرة أمسكت بها؟
نظر ليونهارت إلى ريتا، التي كانت تمسك بمسدس فارغ بلا رصاص أو بارود، لكنها بدت سعيدة للغاية، تطلع إليها بمرارة وسألها بلطف:
“ليلي، هل تشعرين بالاطمئنان الآن؟”
“نعم… شكرًا لك، ليون-أوبا.”
تنهد في داخله.
كان يحزّ في نفسه أن يرى شقيقته الصغرى فرِحةً لحصولها على سلاح.
وأكثر ما آلَمه هو أنها كانت تعتبر هذه المسدسات الصغيرة ، التي لا تختلف في نظره عن ألعاب الأطفال ، أسلحةً حقيقية.
“أيّ عالم ذاك الذي عاشت فيه تلك الفتاة، حتى تعتبر شيئًا كهذا سلاحًا؟… هل لم يكن لديهم فرسان يملكون الأورا؟ هل خاضوا حربًا ضروسًا ضد تلك الوحوش المسماة الميميك؟”
عليه أن يغتنم الفرصة ويُريها قوة الفُرسان الحقيقيين… حتى تطمئن وتدرك أنها لم تعد بحاجة إلى أسلحة كهذه.
‘أجل، عليّ أن آخذها لمشاهدة تدريب للفُرسان لاحقًا.’
هكذا عقد ليونهارت عزمه في صمت.
أما ليليتا، فقد كانت تفكر بأمر مختلف تمامًا.
‘بما أن الأود لا يُكتشف بسهولة في هذا العالم، فربما سيكون لفن البنادق السحرية تأثيرٌ مفرطٌ على معاييره.’
‘ لا دروع مضادة للرصاص، ولا حتى أورا كافية لصد الرصاصات… حفاظًا على السلامة، سأستخدم رصاصات سحرية ضعيفة قدر الإمكان، إن اضطررت للدفاع عن نفسي وأردت أن أشلّهم، لكن قتلتهم عن طريق الخطأ… سيكون ذلك كارثة.’
***
في تلك الليلة بالذات.
أُصيبت ليليتا بنوبة.
ربما لأنّها أمسكت بالبندقية بعد انقطاع طويل، أو بسبب ما شعرت به من قلق وخوف خلال النهار.
فرأت في حلمها لحظة إطلاق النار وقتلها انسان للمرة الأولى ، وذلك الحلم كان الشرارة.
كان ذلك شتاءً، حين كانت في الرابعة عشرة.
طلق ناري شقّ الأذنين، صرخات مؤلمة دم ساخن وأحمر ينبثق ، بلونٍ يختلف عن دماء الوحوش.
هي لم تكن تقصد إطلاق النار عليه لم تكن تنوي قتله، بل فقط…
لكن الطلقة انطلقت، ولا سبيل لإعادتها.
الرجل الذي اخترقت رصاصتها السحرية جسده سقط أرضًا، وجاي باسكال كان ينزف دمًا غزيرًا من إحدى عينيه، وحدّق فيها بدهشة، ثم دوّى انفجار.
تصاعدت ألسنة اللهب، وتبعتها صرخات ونحيب.
الناس تدفّقوا نحوهما ، أولئك الذين كانوا رفاقًا حتى البارحة، أو حتى قبل لحظات فقط، أولئك البالغون وجّهوا أسلحتهم نحوها ونحو جاي.
“اللعنة، هؤلاء الباسكالات، حتى لو بدأ أحدهم طفلًا، فهم ليسوا أطفالًا!”
“أولاد وحوش!”
ومن خلف ظهر جاي الذي كان يحاول حجب عينه النازفة، رفع الجنود سيوفهم.
لوّح أحدهم بعصا ضخمة نحو رأسه، وآخر صوّب بندقيته عليه.
تحركت ريتا غريزيًا ووجّهت فوهة سلاحها.
كانت أسرع منهم.
دوّى طلق ناري كأنّ قنبلة انفجرت.
رجل كان يعطيها الحلوى خفيةً ليعينها على النمو، سقط برصاصتها، ورجل آخر علّمها تنظيف البنادق، تطاير رأسه بفعل رصاصتها.
لم تكن تريد قتلهم، لكن… لو لم تفعل..
ثم رُميت قنبلة يدوية نحوها، دحرجت حتى قدميها، أسرع جاي وجذبها وغطّى جسدها بجسده.
دوّى انفجار.
كان الصوت مفزعًا إلى درجة أنه قد يُتلف طبلة الأذن إن سُمِع عن قرب.
وقد تضرّرت فعلًا ، أحسّت بالدم ينزف من أذنها.
“علينا الهرب، ريتا، يجب أن نخرج من هنا فورًا.”
صوت الصبي الملهوف وصلها خافتًا في أذنيها الممزّقتين.
ريتا استيقظت من الحلم كما لو أصابها برق.
في غرفة هادئة، كانت لا تزال تسمع صوت انفجارات، لم يكن يسمعه سواها.
رغم إدراكها أنه مجرد هلاوس سمعية، إلا أنها بدت واقعية للغاية، لا، هل كانت فعلاً هلاوس؟ أليس ثمة انفجارات تحدث في مكانٍ ما الآن؟
هل كان عودتها إلى المنزل مجرد حلم؟ هل هي لا تزال في ساحة المعركة؟
مع تواصل الانفجارات، طنينٌ مؤلمٌ أصاب أذنيها.
بدأ بصرها يهتز، وأنفاسها تُقطع، رغم أن الغرفة فسيحة، شعرت بأنّ الجدران تقترب وتضغط عليها من كل جانب.
عليها أن تهرب، أن تفرّ من هنا الآن.
زحفت خارج الغرفة.
فتحت نافذة في الرواق، تدفقت نسمات الليل الباردة، ونظرت إلى الحديقة المظلمة الهادئة، استعاد عقلها شيئًا من هدوئه.
‘هذا ليس هناك… لا نيران، لا صراخ.’
لكن صوت الانفجارات لم يتوقف، أنفاسها ما زالت متقطعة، وقلبها ينبض بجنون، جلست القرفصاء في زاوية الرواق وسدّت أذنيها.
“ريتا، هل تسمعين الانفجارات مجددًا؟”
“تعالي، سأشغّل لك علبة الموسيقى.”
تذكرت زميلها الجالس بجوارها آنذاك، يفتح لها صندوق الموسيقى القديم، كانا قد وجداه معًا وسط الخراب.
دمية ملاك صغيرة تدور ببطء وصوت صرير خافت.
مرآة مشروخة.
أنغام ناعمة لعلبة الموسيقى، وأنفاس هادئة… كلمات غير منطوقة من شخص يشاركها ذات الذكريات، تمنحها العزاء.
راحت تستعيد تلك اللحظات وتحاول التماسك.
وبفضل تلك المحاولة، استقرّ بصرها وعادت أنفاسها، لكن الصوت الخافت للانفجارات ما زال يتردد في أذنيها، كانت تعلم أنه مجرد هلوسة، لكنه لم يختفِ.
“يجب… أن أشتري علبة موسيقى.”
وضعت رأسها بين ركبتيها.
***
وفي تلك الأثناء، كان ريهارت يعود إلى قصر البتولا في وقتٍ متأخر من الليل.
كان قد بات خارج المنزل في الليلة السابقة، لذا لم يكن لديه أي علم بشأن عمود الضوء الذي ظهر في بحيرة الغابة، أو بأن ليليتا استعادت ذكرياتها.
وما إن عاد، حتى أمسكه الخادم ليجعله يواجه شقيقه.
“ليلي استعادت ذكريات طفولتها.”
أُخبر بما جرى، وكيف عادت ليليتا.
“ألا تزال تظن أنها مزيفة؟”
لم يستطع ريهارت الإجابة، حاول استدعاء صورة تلك الفتاة التي التقاها وجهًا لوجه.
‘كانت… كانت ليلي إلى حد لا يُمكن معه التفكير بأي شيء آخر.’
ورغم سُكره، يتذكر جيدًا كل ما فعله ، دموعه، تضرّعاته، اعتذاراته أمام من ظنّها شقيقته المزيّفة، أراد أن ينسى ما فعله، فهرب إلى الشراب، وها هو يعود أخيرًا.
‘لكن… أتكون هي الحقيقية؟’
أتكون ليليتا الحقيقية قد عادت فعلًا؟
راح ريهارت يهيم في أرجاء القصر مترنحًا.
مشاعر مختلطة من الفرح والذنب، الشوق والندم، الطمأنينة واليأس اختلطت حتى أفقدته اتزانه.
‘أنا نذل…’
في ليلة اختفائها، تخلّى عنها.
والآن، بعد عشر سنوات، عادت كالمعجزة… ولم يتعرّف إليها، بل وصفها بالمزيفة، وصرخ في وجهها.
لم يكن حتى قادرًا على التمييز بين الحقيقة والكذب، لكنه غرق في تأنيب الذات، وبكى أمامها بلا كرامة.
والآن بعد أن قيل له إنها الحقيقية… يشعر بالرعب.
كان يتمنى عودتها من أعماق قلبه، مستعدًا لفعل أي شيء لو تحققت أمنيته، لكن، بعد أن تحققت فعلاً… لم يعُد يعرف ماذا يفعل.
ماذا لو لامتني وقالت إنني السبب في اختفائها؟
هو يعلم جيدًا أنها على حق، ويشعر بالذنب أكثر من أي شخص آخر، لكن، إن سمع ذلك يخرج من فمها مباشرة…
‘لن أتحمل.’
سيودّ الموت، إنه خائف.
(‘يا لي من رجلٍ بائس…’
راح ريهارت يترنح، يُجلد نفسه بتلك الأفكار.
وحين عاد إلى وعيه، وجد نفسه قرب غرفة ليليتا.
لم يفاجأ؛ إذ لم تكن هذه المرة الأولى التي ينجرف فيها إلى هذا المكان حين يكون ثملًا.
‘لا… لا يمكنني السقوط نائمًا هنا مجددًا، عليّ العودة…’
استدار بتثاقل، لكن فجأة، التقطت حواسه حركة ما.
رغم سُكره وانهياره، فإن حاسته الحادة كفارس من الطراز الرفيع لم تخنه ، كان هناك وجود بشري واضح في الظلمة وبديهةً، حدّق في الاتجاه الصحيح.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 19"