بدأ قلب كلير يخفق بشدة. و راح تنفّسها يتسارع.
غمر اللون الرمادي الأجواء من حولها. اختفت الألوان.
طنَّ في أذنيها صوت دقّ الباب بشدة — خلف تلك الذكريات من الطفولة عن الباب الأمامي للمنزل الذي كانت تسكنه مع والدتها، عندما كان أحدهم يدقّ الباب بعنف.
الشخص الذي كان يطرق الباب كأنّه سيكسره كان السيدة أنكيا، جارتهما. كانت كلير آنذاك في الخامسة من عمرها.
فتحت والدة كلير الباب، وكانت السيدة أنكيا قد غمر وجهها الدموع، وهي تحمل رسالة. كانت إخطار تعبئة أبنها الكبير للخدمة العسكرية.
نظرت السيدة أنكيا إلى والدة كلير ثم همست بصوتٍ كما لو كانت تخفي خوفها، كأنها تقول إنها لم تكن لتطرق الباب هكذا إلا قسرًا.
“إنها حرب.”
كأنها لو تحدثت بصوتٍ عالٍ عن الأمر، ستندلع الحرب فعلًا، مع أنها في الحقيقة كانت قد اندلعت بالفعل.
“وصلت إلى أنتون ورقة التعبئة.”
هكذا بدأت ذاكرة كلير عن الحرب، بصوت همس السيدة أنكيا.
[-كلير؟]
“نعم.”
[هل أنتِ بخير؟]
“نعم.”
لم تكن بخير.
بسبب الصدمة التي خلّفتها الحرب، لم تتمكَّن كلير من أن تصبح عميلة تفخيخ أو تخريب، على الرغم من أنها كانت الأعلى تحصيلًا بين رفقائها في التدريب.
كانت هي من رفضت ذلك بنفسها، لكن ثمة فرق بين أن لا ترغب في شيءٍ وألا تكون قادر عليه فعلاً.
لكن إذا اندلعت الحرب فستتغير كل الحسابات.
حتى لو كانت مهاراتها في جمع المعلومات تتركز على قراءة النفوس وتحليلها، ففي نظام التعبئة الحربي سيُطلب من أي عضو في التشيكا، مرة على الأقل، المشاركة في عمليات تتعلق بالتفخيخ…
حينها، مهما كرهت، سيتوجب عليها أن تقبل احتمال الاضطرار إلى قتل البشر. ذلك هو مصير التشيكا في حالة مواجهة الحرب،
شفتاها جفتا.
الحرب على الأبواب؛ حان الوقت فعلاً للاستعداد.
أنهت كلير اتصالها مع فولكي، ثم دفنت صندوق معدات الاتصالات في الحفرة التي حفرتها مسبقًا في أرض المنزل الآمن.
غطت السطح بقطعة كرتون رقيقة ونثرت عليه بعض الرمل، ثم سدّتها بالقطن وغطت الخشب بقضبان متينة.
أضافت فوق ذلك بعض التراب وكمية من التبن. إن دخل أحدهم ليرى المكان فسيفترض أن هذه مخزن لتخزين التبن.
كان عليها أن تخرج إلى الميناء قبل أن يظلم أكثر، حيث سترسو سفينة رحلات كامشاك لليلة واحدة.
هناك ستستلم الغرض الذي أرسله ساشا.
الميناء لم يكن بعيدًا عن المنزل الآمن.
تنكرت كلير لتبدو كصبي نحيل. ارتدت قبعة صيد منخفضة وحلتّ مثل الأولاد العاملين الذين يؤدون مهمات توصيل، ثم اندست بين مجموعة الصبية المنتظرين لنقل الأمتعة.
كما يفعل الآخرون، جلست تضرب بساقيها وتتمايل بلا مبالاة.
وفي داخلها كانت تستعيد كلمات فولكي قبل أن يقطع الاتصال.
“الموعد النهائي لاستمالة دوق هيمينغام بعد ثلاثين يومًا.”
قال أن جهاز الاستخبارات الخارجية في كوينزلاند سيعلم قريبًا أن الحرب التي بدأت في كامشاك ستتجاوز النزاعات المحلية وتتوسع إلى نطاقٍ أوسع.
“سيطلقون نظام الدعاية الحربي قريبًا. خاصة أن العائلة الملكية في كوينزلاند تبدو مستعدة لتصعيد المنافسة على السلطة؛ قد نشهد قريبًا تغيّرات في ذلك المجتمع الراقي. وربما أنت أسرع منّي في جمع أخبار هناك.”
المنافسة على السلطة… كيف سيصعدونها؟ بأي وسيلة؟
هل سيفعلون ما كانوا يفعلون وقت تبني الأطفال—يتبنونهم بمنّة ثم يسيئون إليهم ويتخلون عنهم؟
صفير.
أصدرت السفينة السياحية التي كانت طافية في البحر منذ مدة صوت صفارة وهي تقترب من الميناء.
وقفت كلير مبتعدة قليلًا عن الصبية الذين كانوا يدفعون كتفًا لكتفٍ يتنافسون على جذب انتباه أصحاب الأموال من رجال الأعمال والنبلاء.
كانت تقف ويديها مطويتين، تدق بأصابع قدميها بخفة، فبدت في دور صبي توصيل بشكل مقبول.
“تبدو كأنك تعرف أن هذه النقطة مربحة جدًا، أليس كذلك؟”
تقدّم صبي بمرح ونبرة حيوية وتحدث إليها.
كانت كلير في مهمة، فلا يمكنها الكلام بغير تفكير، فتظاهرت بالهدوء وأدارت رأسها ببطء.
وقف إلى جانبها صبي ذو عينين براقتين تعكسان كلمات صوته المرحة بلا مبالاة. أومأت كلير بصمت دون أن تتكلم ثم أعادت النظر إلى الأمام.
ظن الصبي أنها خجولة فاقترب خطوة وبدأ خطابًا يقدم فيه للمستجد درسًا في “كيفية اجتذاب عمال يحملون حقائب فاخرة”.
لم تُبدِ كلير اهتمامًا، وضغطت قبعتها بحزم، لكن الصبي كان من نوعٍ لا ييأس. استمر في الثرثرة بحماس وأخرج من صدره شيئًا مدّها به.
دفَعها إلى مقدمة وجهها، فالتقطته باندهاش كانت صحيفة السفينة الصادرة لليوم.
تألقت عيناها عند رؤيتها لتاريخ الصحيفة—إنها نسخة اليوم المسائية. كيف تكون الصحيفة المطبوعة داخل السفينة وصلت إلى الشاطئ بهذه السرعة؟
حين أمسكت الصحيفة بفضول، ازداد حماس الصبي. لقد كان يريد بأي ثمن جذب انتباهها، فتوقف عن التقليب ونظر إليها مدهوشًا قبل أن يبتسم
“هاه! توقّعت ذلك! أنت فعلاً وسيم! ما اسمك؟ أنا سام.”
مدّ الصبي يده بثقة؛ لكن كلير تجاهلتها بنظرة خفيفة، فأعاد وضع يده في جيبه متظاهرًا أنه كان كذلك من البداية.
“أنا أعمل هنا كعامل توصيل يوم الجمعة فقط، وأيام أخرى أذهب للفنادق في المدينة لأتلقى مهامًا!”
لم يسأله أحد لكنه استمر يتكلم وكأنه لا يحتاج للتنفس.
“أنت تبدو—لماذا لم أرَك من قبل؟ بهذه الوسامة! أظن أن الأثرياء سيقعون في حبّك. ما رأيك أن تعمل معي؟ أنت تكون وجهنا، وأنا أجيب عن الطلبات. سيدماوث في جيبي، إن تعاونّا سنجني ثروة. مهمات السيدات والنبلاء ورجال الأعمال ستكون لنا وحدنا!”
كان صوته يملأ عقلها؛ طاقة هائلة تتدفّق بلا توقف. هل يكفيه ذلك للركض حول المدينة طوال اليوم؟ بدا الأمر مستبعدًا.
استمعت كلير إلى كلامه بأذن لا تسمع إلا ما كان يلفت نظرها—نظراتها ظلت معلّقة على مقدمة السفينة الراسية في الميناء.
“هاه؟ ما رأيك؟ كل ما عليك أن تفعله هو إبقاء وجهك ظاهرًا وسأعطيك ثلث ما أجنيه.”
لم ترد كلير، فخفض الصبي نبرة صوته كما لو كان يكشف سرًا:
“لن تفعل شيئًا سوى الابتسام؟ يا له من حظ! هيا، لا تنظر إليّ هكذا. أجبني، يا وسيم. ما اسمك؟ من أين أنت؟ هل أنت من سيدمرس؟ لماذا لم أرك من قبل؟”
لو كان قد رآها من قبل، لما كان هنا الآن، فلو عرفوا بانه يتذكرها لكانوا قد تردّدوا فيما إذا كانوا سيتركونه على قيد الحياة أم لا.
لكن الصبي لم يكن يجهل ما تفكر فيه؛ كان بريئًا للغاية.
“ألا يعجبك عرض الثلث؟ حسنا—سأعطيك ربعه! صدقني، كل ما عليك أن تبقي وجهك، وأنا سأركض في كل مكان. لو حاولت أن تأخذ أكثر من ذلك فستبدو كالسارق! لا ينبغي أن تعيش بهذا الوجه وتتصرف هكذا!”
كادت تخبره أن يصمت، ثم فكرت أن التظاهر بأنها لا تستطيع الكلام قد يكون فكرة جيدة—سيختفي احتمال شراكة عجيبة مع شخص غريب.
إلا أن الصبي كان خبيرًا في مهنة التوصيل،
“آه، حقًا لا تقدر على الكلام؟ هذا ممتاز! الكبار يدفعون زيادة للحصول على صبي توصيل لا يتكلم!”
هل يجهل الصبي أن قتل شخص ما لإسكاته هو من أساسيات التجسس؟
“انظر، أنت لا تتكلم، وأنا أفعل. هل فهمت ما أعنيه؟”
فلنسمع ما لديك إذن.
“هذا يعني أن أكثر شخص ثرثار في سيدماوث، وهو أنا، والأكثر صمتًا وهو أنت، يمكننا أن نصبح معًا أفضل فريق على الإطلاق. إنها فرصة من السماء! يعني فريقنا سيكون، ذاك… آه… ما كان اسمه؟ النّـمـر-الـمـفـتـرس النّـهـم!”
حسنًا، على الأقل تأكدتُ أنك بالفعل نَمِر مفترس.
ابتسمت كلير بخفوت وهزّت رأسها نفيًا.
في تلك اللحظة، نزل المرشد من السفينة التي رست في الميناء. وبدأ الركاب بالنزول واحدًا تلو الآخر.
أخذت كلير تراقب وجوه النازلين بعناية.
لا، ليس هذا، ولا ذاك.
آه…… وجدته.
شدّت القبعة أكثر على رأسها وأخرجت يديها من جيبيها.
وحين همّت بالتحرك، أسرع ذلك الثرثار المزعج، سام، وأمسك بحزام خصرها.
تفاجأت كلير في لحظة خاطفة، وبرد فعل غريزي لَوت معصم الصبي وطرَحته أرضًا.
كل شيء حدث في غمضة عين.
ولحسن الحظ، بعدما تأكدت أن المعتدي لم يكن سوى ذلك الصبي، أرخَت قبضتها قبل أن يرتطم ظهره بالأرض بقوة.
لكن النتيجة أن سام وجد نفسه ملقى على أرضية الميناء الرطبة، يطرف بعينيه في ذهول، غير قادر على استيعاب ما جرى.
“واو، واو… واااو! أنت… ما، ما هذا؟ أنت… هل أنت تمارس شيئًا مثل فنون القـتال الآتية من الشرق؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"