5
ⵌ51
حتى ذلك الحرّ المتأخر تراجع أخيراً، وبدت أجواء “جيدو” عند مشارف الخريف وقد غلّفها البرد.
منذ حفلة عيد ميلاد كاليسيا، لم يعرف ماثياس للراحة سبيلاً، فقد بقيت أعصابه مشدودة طوال الوقت.
كان يدير الخاتم في سبّابته بقلق ظاهر، وما إن لمح خادمه عائداً خالي اليدين حتى انتفض من مقعده بغضب.
“أيها الحقير! أتتلاعب بي؟!”
قال الخادم متردداً:
“إن مسافة بعيدة يا مولاي، لذلك يحتاج الرد بعض الوقت…”
قاطع ماثياس صارخاً:
“اصمت! كم مرة رددتَ نفس العذر؟!”
فآثر الخادم الصمت، مترقباً أن تهدأ ثورة سيده.
كان ماثياس قد بعث بثلاث رسائل إلى “سيسكريك” منذ عيد ميلاده، وبحساب المسافة كان من المفترض أن تصله إجابة واحدة على الأقل.
لم يرَ في تجاهل الأمر إلا سخرية مقصودة من كاليـوس ماكسيس.
كيف يتجرأ شخص تافه ربّاه والده على إهماله هكذا؟
‘أيمكن أن يكون قد التصق حقاً بليتيسيا؟’
اشتعل غضب ماثياس عند تذكّره أنه هو بنفسه من زوّج ليتيسيا بكاليـوس، وكأنه لم يحسب حساب العواقب.
كان يرى كاليـوس مجرّد كلب بلا كرامة؛ ينبح متى أُمِر وينقلب على ظهره عند أول إشارة.
“تلك المرأة الحقيرة تتصرّف وكأنّ ماكسيس حاميها! إلى متى سأظلّ أترقّب الرد؟ إلى متى؟!”
رأى الخادم أن لا جدوى من انتظار هدوء سيده، فقد اسودّ وجهه وتورمت عروقه غضباً.
“سأبحث عن وسيلة يا مولاي…”
“لقد انتهى زمن الانتظار كالحمقى. وإن مات أبي في هذه الأثناء…”
“لن يحدث ذلك يا سمو الأمير.”
هدوء الخادم أعاد شيئاً من السكينة إلى ماثياس.
“أين ميلونا؟”
“إنها نائمة يا مولاي.”
أصدر ماثياس صوت امتعاض بلسانه.
كان اختياره لميلونا في البداية الأنسب من وجهة نظره، لكنه بدأ الآن يشك في صواب ذلك القرار.
لم يظهر عليها أي أثر للحمل.
وبالطبع لم يكن الخلل منه، فهو يعلم أن له أبناء غير شرعيين كُثراً، حتى وإن لم يكن كلّهم من صلبه، فهذا لا ينفي قدرته.
إذن فالمشكلة في ميلونا.
“أتنامين في مثل هذا الوقت؟ أهكذا ربّاكِ بيت الماركيز هولدين؟ تتركين واجبك وتستسلمين للنوم؟”
“…لم تكن إلا قيلولة قصيرة، لا تغضب يا ماثياس.”
قالتها بصوت متعب ووجه شاحب، لكن ذلك لم يزد سيدها إلا غيظاً.
خطر له لو كانت ليتيسيا مكانها لكان أنجب وريثاً منذ زمن بعيد.
“أما زال لا خبر عن حملك؟”
“…للأسف، لا يا مولاي.”
أجابته وصيفتها بحذر، فزمجر علناً، بينما اعتادت ميلونا الإهانة حتى صارت تتلقّاها صامتة.
“سآتي إليك الليلة، فكوني على استعداد.”
“كما تأمر يا سمو الأمير.”
أخفت ميلونا أصابعها داخل كمّها. لم يعد أمامها سبيل لتفادي إهانته سوى أن تُنجب، وكان ذلك واجبها الذي لا مفرّ منه.
اقترب منها وهو يهمس ببرود:
“إن كان لديك عقل، فأزيلي هذا الجمود.”
فاحمرّ وجهها حياءً، لكنها تماسكت.
“سيّدتي…”
نادتها وصيفتها بعدما خلا المكان.
“ولهذا السبب تحديداً لا أريد أن أحمل… هل تفهمين؟”
وكانت الوصيفة تدرك تماماً ما تعانيه سيدتها.
وفي اليوم التالي، خرج من قصر ولي العهد رسول خامس، يحمل بين يديه مرسوماً إمبراطورياً، في محاولة أخيرة لاستدعاء ماكسيس إلى “جيدو”.
—
لم يكن الخريف قد حل تماماً بعد، لكن رياح “سيسكريك” الباردة الممزوجة بالصقيع كانت تهزّ أغطية النوافذ بقوة.
اعتادت ليتيسيا على ضجيجها حتى صارت تنام بسلام رغم العواصف.
“صباح الخير.”
فتحت الباب، فرأت كاليـوس الذي كان مسنداً ظهره إلى الجدار يعتدل واقفاً بانتظارها ليتناولا الفطور معاً.
“صباح الخير يا كاليـوس.”
حتى وإن عرفت أن قلبه لم ينشغل إلا بها، لما تغيّر شيء… أو هكذا أقنعت نفسها.
“كيف حالك اليوم؟”
“أفضل من الأمس.”
كان جسدها الهزيل قد أنهكه مرض أصابها قبل ثلاثة أيام، جعلها طريحة الفراش.
تحسّنت حالتها قليلاً، لكنها لم تبلغ العافية التامة.
قال لها بقلق:
“من صوتك لا يبدو الأمر بخير.”
ثم مدّ ذراعه نحوها، فأمسكت به على الفور، رغم أنها لم تكن بحاجة فعلية لذلك، لكنها رغبت به.
شعرت بالثبات وهي تستند إلى ساعده القوي، وعيناها تتبعان عروقه البارزة قبل أن تحوّل بصرها.
في الآونة الأخيرة، غدا يملك جاذبية لم ترها فيه من قبل، فقد ظنته حين لقياها أول مرة رجلاً من أهل الدين، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.
في الماضي كان يتعمد تجنّب نظراتها، أما الآن فلا، وقد أربكها ذلك.
ملامحه كلها بدت وكأنها ملكها وحدها، حتى شعرت أن العالم من حولها فقد قيمته، لكنها قاومت الاستسلام لهذا الإحساس.
ومع ذلك، ظلّ كاليـوس ملتزماً حدوده معها؛ لا يلمسها إلا لحاجة، كأن يمسك بها أو يسندها، حتى بدأت تشك إن كان يرغب بها حقاً أم أنه سئم.
‘ربما ملّ…’
فالمرء حين تتكرر الأمور ينسى ما كان يبتغيه أصلاً.
جلسا جنباً إلى جنب على المائدة، حتى كادت مرفقاهما يتلامسان، وكانت ليتيسيا تشعر أن مجرد جلوسها منتصبة يستهلك كل طاقتها.
لم تدرِ كيف أنهت طعامها حتى وجدت صحنها فارغاً.
“أفكر في القيام بنزهة.”
“ما زلتِ لم تتعافي كلياً.”
“لكن قيل إن الجو دافئ اليوم.”
ولعلها كانت كلمات “كريستين”، التي اعتادت أن تقيس قدرة ليتيسيا الجسدية على قدر نفسها، وهو أمر غير منطقي.
“حتى ولو قليلاً فقط؟”
رفع نظره إليها، فرأى خطاً بارزاً يمتد من خدها إلى عنقها… أترى فقدت وزناً؟
كاد يمد يده ليلمسها، لكنه تراجع.
“إذن، لنتمشَّ قليلاً فحسب.”
نهضت بسرعة، فتبعها.
ورأت “نورا” المشهد، فشبّهته بكلب يلاحق سيّده، ولم تجد وصفاً أدق.
—
لم يكن بمقدوره من مكانه أن يرى الكتاب الذي تقرأه ليتيسيا، لكن كليهما كان منشغلاً بما بين يديه.
شعر كاليـوس بجفاف في حلقه كلما تحركت شفتاها، حتى كاد يرسم ملامحها بعينيه وهي منغمسة في القراءة.
تذكر قبلة الوداع بينهما…
لولا أن الحلوى التي تبادلاها كانت مشبعة بمصل الاعتراف، لكانت تلك القبلة أعذب ما ذاق.
“بما أنّني كنتُ حبيبتك…”
قالتها فجأة، فلم يكن هو وحده من تشتت عن الكتاب.
“فهذا يعني أنني أحببتك، أليس كذلك؟”
لم يفهم دافع سؤالها، لكنه أجاب بصدق:
“ربما.”
“ربما؟!”
لم يسمع منها قط كلمة “أحبك” صراحة، رغم كل الحيوات التي جمعتهما.
“كنتِ تحبينني… وتحبين جسدي أيضاً.”
تخيلت نفسها وهي تلمس جسده، ولم تجد في ذلك صعوبة، كأنها اعتادت الأمر.
“متى أصبحنا حبيبين بالضبط؟”
أثار سؤالها دهشته، لكنه أجاب:
“لم نحدد وقتاً معيناً.”
“إذن…”
“أتقصدين أول قبلة؟”
حينها أغلقت الكتاب، ولم تعد قادرة على التظاهر بالقراءة.
“صحيح.”
رفعت رأسها، لترى أمامها رجلاً قبّلها مراراً، ورغم أنها لم تعش تلك اللحظات بنفسها، فإنها لم تشعر بأنها غريبة عنها.
“لو أردنا الدقة، فذلك كان يوم حاولتِ قتلي.”
“…ولماذا؟”
“لأننا لم نكن يوماً أقرب ممّا كنا في تلك اللحظة.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ52
لم تنتبه ليتيسيا إلّا في تلك اللحظة إلى أن المسافة بينهما باتت قصيرة جدًا؛ إذ كان يميل بجذعه فوق الطاولة الصغيرة حتى تجاوز نصفها.
وحين أغلقت كتابها، لم يعد هناك ما يفصل بينهما.
“أأقرب من هذا؟”
سألتْ بخفوت، فارتفع بصره نحو شفتيها كأنه يقيس المسافة بينهما بعناية. ورأت بوضوح حركة تفاحة آدم في عنقه وهو يبتلع ريقه.
أغمضت عينيها ببطء ثم أعادت فتحهما، يتبع ذلك زفير خافت خرج من صدرها.
كان واضحًا أنه منذ الصباح وهو ينسج الدوائر حولها ليقترب بهذا القدر… لكن تعابيره المتجهمة أوحت وكأن الأمر لم يكن مقصودًا.
“…لا تُغرينني يا ليتيسيا.”
غير أن كلماته بحد ذاتها كانت أشد إثارة لها.
وجدت نفسها تميل نحوه أكثر، فالحاجة التي بداخلها لم تكن يومًا أوضح ممّا هي عليه الآن.
قلبها يخفق بعنف، وحواسها كلها كأنها انبعثت من جديد.
لم يبتعد كاليـوس، لكنه أيضًا لم يقترب. بل رفع يده ليمسح خدّها، وأصابعه تمرّ برفق عند زاوية شفتيها بحذرٍ شديد.
“وأنتِ لستِ بخير.”
“وإن كنت بخير؟”
سألته متعمدة استفزازه.
تقطّبت ملامحه الحادة، وكأن الرد عسير عليه، ثم ارتدّ بظهره إلى الكرسي وسحب يده عن وجهها.
مؤسف…
فاجأها إحساس الخيبة الذي اجتاحها بجملته الباردة.
لم تكن هي من تثيره، بل هو؛ كل تفاصيله تدفعها لتجربة شعور لم تعرفه قط.
“الأفضل أن تخلدي للنوم الآن.”
كلماته حملت نبرة أبوية، ومع أنها ضايقتها، لم ترغب أن ترجوه أن يكف عن معاملتها كذلك، لأنها أحست أن ما قد يأتي بعدها لن تكون قادرة على احتماله.
ثم نهض متجهًا إلى غرفته.
عندها أيقنت تمامًا…
إنها تريده، كما يريدها هو.
بل وربما، منذ أن وقعت عيناها عليه لأول مرة، كانت الرغبة كامنة في قلبها.
—
“أرأيتِ؟ ألم أخبركِ؟
“هممم.”
لم ترغب كريستين أن تبدو متفاخرة، لكن العبارة انفلتت منها تلقائيًا.
ولم تجد ليتيسيا ما تنكر به كلامها؛ لقد كانت محقة.
فالصدق الذي كان يتلألأ في عيني كاليـوس عندما ينظر إليها، كانت كريستين أول من التقطه.
لم تكن الغافلة هي كريستين، بل ليتيسيا.
“كنتِ تتصنّعين اللامبالاة.”
“حقًا؟”
“نعم. هو يحبكِ بوضوح، لكنكِ تتجاهلين الأمر لسبب ما. حتى اختياري أنا كفارسة لكِ كان بدافع ذلك.”
“كريستين… أنتِ؟”
لم تستوعب ليتيسيا كيف صارت كريستين فارسةً لكاليـوس، لكنها الآن تساءلت كيف انتهى بها الأمر بجواره.
“لقد سدّد دَيني بدلًا عني.”
“كان عليكِ دين؟”
“نعم، بل دين ضخم… ملايين من الذهب.
ظننتُ أن وراء الأمر غرضًا مريبًا، لكنه طلب مني ببساطة أن أحمي امرأة واحدة.”
لم يزل التعجّب على وجهها وهي تستعيد ذكرياتها.
“وكانت تلك المرأة أنتِ.”
“صحيح. والحقيقة أن حماية السيدات لم تكن أمرًا جديدًا عليّ، بل إنكِ كنتِ أسهل من تعاملت معهن.”
ثم تمتمت باستغراب:
“مهلًا… كان ذلك قبل الزواج، أليس كذلك؟ إذًا، هل كان اللورد ماكسيس يكنّ لكِ مشاعر منذ ذلك الحين؟ كيف؟”
تفاجأت ليتيسيا بسرعة استنتاجها، لكنها لم ترغب في الخوض بما لم تتأكد هي بعد من حقيقته.
ومع ذلك، كانت تتساءل مثلها:
كيف عرف كاليـوس أن كريستين ستكون خير صديقة لها؟
—
كثيرًا ما كان يغرق في أوراق مكتبه.
سابقًا لم يكن الأمر يهمّها، لكن الآن تغيّر كل شيء.
طرقت الباب بخفة ثم وقفت عند العتبة.
“الأرقام ليست هوايتي.”
“لكن يبدو أنكِ تتقنينها جيدًا.”
“ذلك بفضلكِ.”
قالها وهو يضع قلم الريشة كيفما اتفق.
“أنا؟”
“لولاكِ، كيف كنت سأبني هذه الثروة؟”
“لكن…”
“إنه بفضلكِ أنتِ.”
كان ينسب إليها إنجازات لم تفعلها، الأمر الذي جعلها تشك في حقيقتها.
وكلما حدثها عن تفاصيل ماضٍ لم يعد موجودًا، وجدت نفسها تغار من “هي” الأخرى في تلك الحياة.
“يبدو أنكِ لا تصدقين.”
قرأ أفكارها بسهولة.
“إذن دعيني أعطيك مثالًا.”
ناولها ورقة تحوي سجلات واردات من ميناء شرقي.
“ولماذا هذه؟”
“ابحثي عمّا يستحق الانتباه.”
تصفحت الورقة بهدوء، وكانت البضائع متنوعة: أنواع شاي، توابل، أحجار خام… معظمها كماليات. لكن شيئًا استوقفها.
“سعر الياقوت الأزرق مرتفع جدًا، والكمية ضئيلة.”
ابتسم ابتسامة عريضة، فأدركت أنها أصابت كبد الحقيقة.
الياقوت الأزرق من أثمن معادن مناجم ليربون، ورغم تقلب إنتاجه، فإن هذا الارتفاع مبالغ فيه ولا يُفسَّر إلا بتلاعب مقصود.
“أرأيتِ؟ أنا مهما حاولت لم أكن لأكتشف ذلك. وحتى لو لاحظتُ، لاكتفيت باللعن قليلًا ثم تجاهلت.”
“من وراء الأمر؟ ماثياس؟”
“على الأرجح.
يستعد لطرح الكميات عند بلوغ السعر ذروته.”
“إذًا قريبًا.”
أومأ برأسه.
فقد كان في نهاية كل عام يُقام مهرجان استقبال السنة الجديدة، ويُشترط فيه ارتداء ما هو أزرق وجديد، ما يجعل سعر الياقوت الأزرق يبلغ قمته.
ومع قلة المعروض، يصبح ارتفاع السعر أمرًا لا مفر منه.
لكن حين يدرك الناس ذلك، يكون المهرجان قد انتهى والياقوت قد طُرح في السوق.
“لعبة صغيرة بالنسبة له.”
“لكن ماثياش لن يكتفي بهذا الربح وحده.”
على الأقل، العبث بالكماليات لم يكن جريمة… حتى الآن.
“وبالمناسبة عن الياقوت الأزرق…”
تحاشى النظر إلى عينيها.
“ما زلتُ لم أعثر على عقد والدتكِ.”
اتسعت عيناها دهشة.
فبعد سقوط ليربون صودرت ممتلكات العائلة كافة، وكان أثمنها عقد والدتها المصنوع من أنقى ياقوت أزرق.
امتلأ قلبها بالامتنان لكونه لم ينسَ ما كانت هي قد نسيته.
“…شكرًا لمحاولتك.”
اضطرب قلبها وهي تفكر في جهده الخفي.
“ادّخري شكركِ إلى أن أجده.”
وقف يمشي في الغرفة بلا هدف، فذكّرها ذلك بسبب مجيئها.
“بشأن كريستين، كيف عثرتَ عليها؟”
“آه، لم أخبركِ.”
تردّد قليلًا ثم أجاب:
“باختصار، في حياتكِ الأولى كنتِ أنتِ من أنقذها. سدّدتِ دينها وجعلتها فارستكِ، وكانت حينها على حافة الموت.
لذلك، حرصتُ على إنقاذها مسبقًا هذه المرة، حتى لا تضطري للحزن عليها.”
“…إذن عليّ شكرك على هذا أيضًا.”
هزّ كتفيه وكأن الأمر لا يستحق.
“هل لديكِ أسئلة أخرى؟”
كان أحيانًا يخاطبها بلهجة رسمية، وأحيانًا بقدر من العفوية، ما بدا لها غريبًا، لكنها رأت فيه محاولة للتقارب.
“أنتِ تحبين الرجل المهذّب.”
وأضاف بصوت خافت كأنه يبرر نفسه:
“حتى لو لم أكن كذلك دائمًا…”
تلونت عيناه الذهبيتان بحرارة ودفء.
“أشعر بخفة في جسدي.”
“همم؟”
“…أعني أنني بخير تمامًا، وأردت أن تعرفي ذلك.”
ارتبكت بنظرته، فآثرت الخروج من المكتب.
كانت كلماتها الأخيرة اندفاعًا محضًا، نابعًا من رغبتها في معرفة كل ما لم تعشه مع كاليـوس في الأزمنة السابقة.
وباتت على يقين أنها ستقع في حبّه بالكامل قريبًا.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ53
بسبب عُزلة قلعة “سيسكريك” وبُعدها عن العمران، كانت “ليتيسيا” تشعر في معظم الأوقات وكأنها تعيش في عالم آخر منفصل كليًّا عن بقية البشر.
راودها الإحساس بأنها تستطيع البقاء في ذلك المكان إلى ما لا نهاية، منقطعة تمامًا عن الخارج.
قال الطبيب:
“آنسة، يبد أن صحتك بدأت بالتحسن بالتدريج.”
“هاه؟ ماذا قلت؟”
تفاجأت “ليتيسيا” بكلمات “جيرماير” دون أن تعي.
“ما الداعي للدهشة؟ قلت إن صحتك بحالة جيدة جدًّا. هل تشعرين بأي ألم أو إرهاق؟”
أفاقت من شرودها وهزّت رأسها نافية.
أما “كاليوس” فقد كان على علم بأنها تعافت بالكامل، لكنه أبدى كالعادة لامبالاة.
مرّت ثلاثة أيام منذ ذلك الحين.
“لا، لا شيء يثير القلق.
أليس كذلك يا جيرمي؟”
“نعم.
لا حاجة للأدوية الآن.
مع ذلك، سأبذل كل جهدي للعثور على علاج دائم لك.”
ارتاحت “ليتيسيا” قليلًا من كلامه، وأومأت برأسها، وإن لم تَغْلُ آمالها كثيرًا.
فمرضها لم يكن له دلائل ظاهرة، وتقلّباته غير مستقرة.
“على أي حال، يبدو أن الداء لن يقصّر أعمارنا في الوقت الحالي.”
قالتها مازحة، لكن “كاليوس” قطّب جبينه.
“لا تمزحي بمثل هذه الكلمات أبدًا.”
“لا تكن صارمًا. قلت ذلك فقط لأني بخير فعلًا.”
ابتسم بخفة، وإن لم يقتنع بوجهة نظرها.
وفي فترة الظهيرة، وبينما كانت “ليتيسيا” تبحث عن “كريستين”، التقت “نورا”.
“السيدة كريستين تتدرّب الآن مع السيّد.
تدريب اليوم شاق للغاية.”
“حقًا؟ إذن سأذهب إليها…”
“لا! سيدتكِ في الداخل.
الجو بارد، وإن أصبتِ بالزكام فسأكون موضع لوم!”
لم تكمل “ليتيسيا” كلامها حتى قطعتها “نورا” بحزم.
“ما جدوى الشفاء إذن؟”
ف”كاليوس” لم يكن بقربها حتى.
“ربما لو بقيت مريضة كان أفضل…”
ثم وبّخت نفسها: “ما هذه الأفكار السخيفة؟”
في النهاية، أطاعت نصيحة “نورا”.
وفي ساحة التدريب، سقط السيف من يد “كريستين” معلنة استسلامها.
“لا أستطيع المتابعة! لا، لن أفعل! لماذا تعاملني هكذا؟ هل أخطأت؟”
“امسكي السيف مجددًا. لن تغادري قبل غروب الشمس، يا كريستين.”
“السيّد ماكسيس!”
تطلعت إليه بقلق وخوف. بدا “كاليوس” مختلفًا في هذا اليوم، وحدسها أنذَرها بأنه خطر.
“هل تريدين رؤية الدم لتكفّي؟”
“أتريد أن ترى دمي لأجل لوم “ليتيسيا”؟ من الأفضل أن تكوني أنتِ من يُريق الدم، كريستين.”
عادت “كريستين” لتشدّ قبضتها على السيف، وعيناها تشتعلان بالغضب والعزم. إن كان لا بد من الدم، فلن تتراجع.
—
لم تفهم “ليتيسيا” ما الذي حدث.
فقد كان “كاليوس” ينزف جرحًا عميقًا في ذراعه، والمتسببة به “كريستين”.
“أعتذر سيدتي.”
“إذن الجرح نتج عن التدريب؟”
أومأت “كريستين” بخجل.
بينما “كاليوس” يرفع رأسه بكبرياء، وكأن الدم وسام، وهو يتلقى علاج “ليتيسيا” بعناية.
اشتعل الغضب في “كريستين”، وراودها أن تفضح كل ما أخفاه.
“سيدتي تُخدع الآن!”
قالت “ليتيسيا”:
“جرح في التدريب… عليكم الحذر.”
“بالطبع، لن يتكرر ذلك.”
أيدها “كاليوس”، مبتسمًا.
رمقته “كريستين” بسخرية، لكنه لم يبالِ.
“اخرجي الآن. كما ترين، أحتاج للعلاج.”
“…سأخرج على أية حال.”
قالتها وهي تكتم غضبها.
وما إن غادرت، حتى تابعت “ليتيسيا” ربط الضماد على جرحه.
“لم أجرّب هذا من قبل.”
“أعلم ذلك.”
لقد تعلّمت مع مرور الأيام كيف تربط الضمادات حتى وهي مغمضة العينين، والفضل له.
“ولا أنوي أن أتعلم.”
كانت رسالة مبطنة أنه يجب أن يكون هذا آخر جرح.
فهم “كاليوس”، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه لن يفي بهذا.
“هل تتجنبينني بسبب ما قلتُ؟”
لم يكن شعوره بالاختناق من الضماد وحده.
“…أنت حقًا لا تُطاق.”
كادت كلمتها أن تخنقه.
“إذن لا داعي لكل هذا. فهمت قصدك.”
“ليس صحيحًا. لو كنتَ تعلم كم أتحمّل لما قلت ذلك.”
اقترب منها متجاهلًا حدود الذوق، وكاد يفعل ما يريد، لكنه أجبر نفسه على التماسك.
إن واصلت على هذا المنوال، فلن يصبر طويلًا.
“حملتك كثيرًا، وها أنت الآن أوّل من يحملني.”
احمرّ وجه “ليتيسيا”، لكنها تكلمت بثقة.
وكلما نظر إليها، وقع في حبها من جديد.
“سأخبرك بما تعرفه أنت.”
فاحمرّ وجهها الشاحب بلون عينيها، وأعاد “كاليوس” ذهنه إلى لحظة قديمة.
لم يكن بحاجة إلى ماء، بل إليها.
كان قد أجابها في السابق بأنهما أصبحا عاشقين يوم قبلها أول مرة، لكنه أدرك أن تلك الإجابة ناقصة.
“أخبرتك بما لا تعرفين، وحان دورك.”
هكذا لقّنته “ليتيسيا”.
منذ ذلك اليوم أصبحا عاشقين.
والآن، كانت تحاول استعادة حبها له.
أما جرح ذراعه فلم يعد ذا قيمة.
اقترب منها، وكانت جالسة بجانب السرير متوترة.
أمسك خصرها ورفعها إليه، ثم رفع ذقنها وقرّب شفتيها.
كان الإحساس رقيقًا، حطّم عقله.
حاولت أن تبعده خوفًا على جرحه، ثم استسلمت.
احتواها بين ذراعيه بشوق، والتصق أنفاسهما.
كانت تلك القُبل مختلفة عن سابقاتها؛ أعمق، أصدق، أشد حرارة.
“نسيت كم أنكِ آسرة بنعومتك.”
قالها مذهولًا من نفسه.
“لدينا متسع من الوقت، فلا تتعجلي.”
أخفت وجهها على كتفه، وخجلها أشعل جسدها.
مرّر يده على خصرها مهدئًا، بينما هو يكافح شهوته.
كانت تفكر: “رأسي يدور، لا أستطيع التفكير في شيء آخر.”
شفتاه دافئتان، وملمسه لا يُقاوم.
“ماذا عليّ أن أفعل؟”
هي تريده، وهو يريدها.
قبّلته على وجنته، فتوقف.
“لستُ متعجلة، لكن… أريدك.”
كلمتها نزلت عليه كالصاعقة، فلم يعد هناك مكان للصبر.
تعمّقت قُبله، وانمحى الزمن.
وحين بزغ الفجر، كان وجه “ليتيسيا” ما زال محمرًّا، و”كاليوس” يتأملها برضا، قبل أن يخبو بريق ابتسامته.
فلأول مرة، أصبحت تعرف سره.
خشي من المجهول.
في كل مرة يحدث أمر غير متوقع، كان يفقدها.
“أرجوك لا تتخلي عني وتتركيني وحيدًا غارقًا في الظلام مجددًا، ليتيسيا.”
كان رجاءً وإصرارًا في آن واحد.
طبع قُبلة على جبينها وهي نائمة، رافضًا القلق، ولو لليلة واحدة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ54
حين عاد سام إلى القصر، تملّكه شعور بالارتباك من تغيّر الأجواء عمّا كانت عليه عند رحيله.
قال متسائلاً:
“هل جرى أمر مفرح؟”
أجابت نورا وقد ارتبكت من ظهوره المفاجئ:
“يا للعجب!
لقد أفزعتني… ألا يمكنك على الأقل أن تُعطي إشارة قبل أن تدخل؟”
كان سام يقضم تفاحة في زاوية من مطبخ نورا، وصوت قضماته المقرمشة كان كفيلاً بأن يثير ضيقها، غير أنها لم تُبدِ أي اهتمام بعادته المزعجة في الأكل بلا تهذيب.
ورغم أنه التهم الكثير من التفاح من قبل، إلا أن فكر نورا كان شاردًا في مكان آخر.
قال سام:
“ألن تسألي متى عدت؟”
أجابت ببرود:
“لا يهم متى عدت، فأنت لست غريبًا عن هذا المكان.”
بدت كلماتها ودّية في ظاهرها، لكنها لم تكن كذلك في باطنها.
قطّب سام حاجبيه وجلس جانباً، بينما تركته نورا لحاله.
عاد ليسأل:
“إذاً، لماذا تسود أجواء البهجة هذه؟”
قالت:
“ومن قال إنها كانت سيئة؟ لا تتفوّه بترهات.”
تذكّر سام أن الأجواء لم تكن بخير حين غادر “سيسكريك”، وكان ظهره لا يزال يؤلمه من آثار ضربات كاليوس.
تردّد قليلًا ثم قال:
“لكن… في المرة السابقة كان له حبيبة…”
قاطعته نورا بحدة:
“اصمت! متى كانت تلك القصة؟ يا سام، كيف لك أن تكون بطيئًا هكذا في فهم أخبار السيد؟”
قال ساخرًا:
“إذن… هل انفصلا؟
على أي حال، هو سريع في كل تصرّفاته.”
اشتد غضب نورا وقالت:
“هذا أسلوب رديء لم تتعلمه من السيّد!”
وطردته بحدة كما لو أنها تطرد ذبابة مزعجة.
وكان سام قد أكل حينها ثلاث تفاحات، وأخفى أخرى وراء ظهره.
كان ينوي التلذذ بها في ركن هادئ بالقصر قبل أن يذهب لرؤية كاليوس، إذ لم يكن لديه ما يستعجله من الأخبار.
قال وهو يهمّ بالمغادرة:
“حسنًا، سأذهب الآن…”
لكن فجأة انتزع أحدهم التفاحة من يده.
التفت ليجد امرأة تتلاعب بالتفاحة في يدها ككرة صغيرة. كانت بلا شك حارسة سيّدة القصر.
تراجع سام خطوة إلى الوراء وقال مذهولًا:
“متى أكلتُ كل هذه التفاحات؟!”
وبّخته قائلة:
“نورا، هذا أمر محبط حقًا. ألا يستطيع المرء أن يأكل تفاحة بسلام؟”
فأجاب سام معترضًا:
“هي ليست تفاحة واحدة فقط!”
لكن المرأة لم تكترث لإحراجه، بل زادته استفزازًا.
حاول سام أن يستعيد التفاحة منها، لكنها صدّت يده وأدارته ظهرها.
قالت ساخرة:
“أتفعل كل هذا من أجل تفاحة؟”
فأجاب مبتسمًا:
“بالضبط… لا تجعلوا الأمر يتجاوز حدود تفاحة فقط.”
لم تكن كريستين – حارسة سيدته – تُطيق هذا الرجل، المرتزق القديم ورفيق كاليوس في الماضي. فقد كان رجلًا صعلوكًا لا يُعتمد عليه.
قال سام في نفسه بعد أن استعاد التفاحة أخيرًا:
“كل هذا بسبب كاليوس… لقد تغيّر بعد زواجه وكأنه لم يعد يكترث بالسلطة أو المجد.
هل يعقل أنه وقع في الحب؟”
ابتسم بخبث وأردف:
“سنرى ردة فعله قريبًا.”
لم يكن واثقًا بعد: هل هو الحب حقًا؟ أم مجرد لعبة جديدة للسلطة؟
—
غرفة كاليوس.
غرفته في الآونة الأخيرة باتت بلا حياة، حتى إن تُركت بلا تنظيف أيامًا، لم يكن ليشعر أو يلاحظ.
جسده العاري كان يغطّ في الظلال تحت وهج الشمس.
خرج للحظة من الغرفة، لكن ليتيسيا لم تدرِ إن كان ما تراه حلمًا أم يقظة.
قالت بهمس:
“أشعر بنسيم بارد…”
لكن حين رأت الهواء يتسلّل من الخارج، أيقنت أنه ليس حلمًا.
سألته:
“هل جاء ضيف؟”
أجابها:
“عاد سام، لكنه لم يمكث طويلًا.”
قالت بتردد:
“هل بحوزته أخبارًا طيبة؟”
لكن كاليوس اكتفى بالقول:
“لا جديد يخصني على الأقل.”
جلس على السرير، وانحنت ليتيسيا نحوه.
“هل تسير الأمور دائمًا هكذا؟”
قال:
“أحيانًا تحدث مفاجآت… لكنها ليست كثيرة.”
رأت ليتيسيا توترًا خفيفًا يكسو وجهه.
قالت:
“ما الأخبار هذه المرة؟”
فأجاب بجدية:
“ماثياس سيرسل الرامي الخامس قريبًا.
هذه المرة لا مجال لتجاهله… عليّ الذهاب إلى الجزيرة قريبًا.”
تنهدت ليتيسيا بحزن. كانت تود البقاء في “سيسكريك” أكثر، لكنها تعلم أن ذلك لن يدوم.
قال كاليوس:
“الشتاء على الأبواب، ولا بد أن نغادر قبله. أعلم أن الجزيرة ليست أكثر أمانًا، لكنها أقل قسوة من برد هذا المكان عليك.”
أجابت بخضوع:
“حسنًا.”
كانت فيما مضى ترى العودة إلى الجزيرة حكمًا بالإعدام، لكن الأمر لم يعد كما كان.
قال بابتسامة مشوبة بالأسف:
“لا يزال لدينا وقت لنرتاح قليلًا… فعندما نذهب إلى الجزيرة لن نجد مثل هذه الراحة.”
لم تعترض ليتيسيا، فاقترب منها واحتواها، وترك جسده يدفئها.
ومع كل لمسة، تذكّرت أنها قبل وقت قصير فقط كانت تفكر في قتله.
لكنها الآن تركت نفسها لحرارته، غير عابئة بالقماش الرقيق الذي انزلق عن جسدها.
وبدت الأيام الباقية حتى الشتاء القارس أقصر مما توقعت.
—
عند قبيلة دوريل
كان كاليوس مستلقيًا بجانب ليتيسيا قرب الموقد، يضمها بإحكام. همس فجأة:
“هل نهرب؟”
ظنّت أنه يهذي، لكنه أعاد بجدية:
“لنرحل معًا.”
لكن سرعان ما تراجع وقال:
“…كنت أمزح فقط، أعلم أنك لا تفكرين في ذلك.”
وكان محقًا. لم يخطر ببال ليتيسيا الهروب، حتى وهي تدرك أن نهايتها محتومة.
رأت في ذلك مصيرًا أفضل من الموت بالطريقة التي عرفت بها مسبقًا.
ابتسمت وقالت:
“لكنني سعيدة لأنك قررت إنقاذي.”
قال:
“لم يكن قراري وحدي.”
سألته:
“من إذن ساعدك؟”
تذكرت فجأة غاريون، ذاك الذي كان من المفترض أن تتذكره منذ زمن، لكنها نسيت بفعل الصدمات.
قال كاليوس:
“هذا سحر قبيلة دوريل.”
اتسعت عيناها وقالت:
“…لا تقل لي إنك أشركت سام أيضًا؟”
تغيّر وجهه ببرود، لكن ليتيسيا وضعت يدها على خده وقالت:
“أخبرته أنني أنا من يحتاج النجدة، ولم أقل له إنني حبيبتك.”
جلس كاليوس، ونهضت معه، وقال بصرامة:
“لا تثقي بسحر قبيلة دوريل حرفيًا… فهم لا يفعلون ذلك لأجلنا أبدًا.”
ثم أضاف:
“علينا أن نلتقي به.”
فأومأت موافقة:
“لنذهب معًا.”
كان غاريون قد مدّ لها يد العون بالفعل، والآن حان وقت معرفة سبب تدخله.
—
لأول مرة منذ وصولهم إلى “سيسكريك”، ظهر السيّد في منطقة قبيلة دوريل.
قال كاليوس متأملًا:
“كأنما كان ذلك منذ زمن بعيد…”
بالنسبة له، كان الماضي مجرد دوامة يعيد فيها تجربة أسبوع زفافه مرارًا.
قال بمرارة:
“لو علمت بوجود عرّاف بينهم، لما سمحت لك بالذهاب.”
رغم أنه وقع تحت تأثير سحرهم، ظل يشك بهم.
قالت ليتيسيا:
“لقد ساعدني.”
أجابها:
“لكن ذلك لم يكن لأجلي.”
وصل كاليوس إلى صلب الأمر، وحين دخلا قاعة الاستقبال، انحنى الحارس بتحية رسمية قبل أن يفتح الباب.
وفي الداخل، كان غاريون ينتظر، مهيبًا أكثر من ذي قبل، وهو يقول بهدوء:
“مرحبًا بك، يا سيّد ماكسيس.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ55
لم يشعر يومًا أن غاريون ودود معه من قبل، لكنه لم يبدُ بهذا التشدد ضده كما فعل اليوم.
كانت ليتيسيا تظن أن كاليُوس يعلم مدى كراهيته العميقة لخصمه، لكن الواقع كان مختلفًا. فالمقدار الذي ظنته لم يكن قريبًا مما يحمله قلبه في الحقيقة.
قال غاريون ساخرًا:
“هل التقينا من قبل؟”
بالطبع، وإن حدث ذلك فالأمر بالنسبة لكاليُوس مضى عليه زمن طويل.
حاول غاريون أن يضحك بسخرية، لكنه لم يستطع إلا أن يُظهر ابتسامة باهتة.
ردّ ببرود:
“بالطبع، بالنسبة لك سيكون ذلك منذ زمن بعيد.”
حتى تلك اللحظة لم يكن كاليُوس ينوي الجلوس، لكنه جذب الكرسي وجلس أخيرًا. التقت نظراتهما، فاشتد التوتر في الجو.
قال غاريون:
“أنا فضولي لأعرف حدود تعاويذكم.”
فأجابه كاليُوس بصرامة:
“قوية بما يكفي لتسقطك في الهاوية.”
ثم أردف:
“لكن لماذا ساعدتَ ليتيسيا؟”
ألقى غاريون نظرة سريعة نحوها، كانت في عينيه لمحة تعاطف، لكن لم يُفهم السبب.
في ذهن ليتيسيا دوّى سؤال: أليس ما يريده هو حرية قبيلة دوريل؟
قال كاليُوس باهتمام:
“إذًا كلامي كان صحيحًا.”
لم يتأثر، فقد كان يعرف أن هذا الحوار ما كان ليجري أصلًا لولا علمه المسبق.
وأضاف بحزم:
“توقف عن الهراء بخصوص إحياء الموتى.”
ليتيسيا روت له كل ما قاله غاريون، لكن كاليُوس أنكر ذلك بشدة مؤكدًا استحالته.
ولو كان ممكنًا لكان قد أعادها للحياة منذ زمن.
ابتسم غاريون بمرارة:
“ولماذا تظن أنه هراء؟ ربما نحن فقط لا نريد مساعدتك.”
كانت ملاحظة معقولة، لكن كاليُوس باغته برد موجع:
“لو كان ممكنًا لكانت أختك التي ماتت منذ عام ما تزال حيّة.”
شدّ غاريون فكه من الغضب، فيما تصرّف كاليُوس وكأنه لا يذكره.
قلقت ليتيسيا، فأمسكت بكُمّه، فوضع يده على يدها مطمئنًا.
قال فجأة:
“تذكرت الآن من تكون.”
فأجاب غاريون ساخرًا:
“ممتن جدًا لذلك.”
لكن نبرته كانت حادة ومليئة بالغضب، ما جعل استمرار الحديث صعبًا.
تابع كاليُوس:
“ما تريده هو حرية قبيلة دوريل، صحيح؟”
لم ينكر غاريون. فأضاف كاليُوس:
“مساعدتك لليتيسيا تصب في مصلحتك أيضًا، أليس كذلك؟”
ثم أنهى:
“فلنكف عن هذا الجدال العقيم.”
ظهر الاستياء على كاليُوس، أما غاريون فبدت عليه ملامح التذكر، ثم قال:
“أنا قادر على رؤية ذكريات الآخرين، وأحيانًا أرى ما فات صاحب الذاكرة بشكل أوضح.”
قاطعه كاليُوس بعصبية:
“وهل لمستَ يدي من قبل؟”
ردّ غاريون ساخرًا:
“لا تتصرف ككلب سُلب طعامه.
لا تكن ساذجًا.”
تأهّب كاليُوس للرد بعنف، لكن ليتيسيا صرخت:
“كفى! توقفا أنتما الاثنان!”
عمّ الصمت، ثم تابعت بإنهاك:
“فماذا الآن؟”
قال غاريون بهدوء:
“لقد قرأتُ حواركما
. وعندما جئت إليّ بعد استعمالك لمشروب الاعتراف، أدركتُ أن هناك ما يثير الشك.”
سأله كاليُوس باستهزاء:
“وما الذي تعرفه عني؟”
ابتسم غاريون بمرارة:
“أعرف أكثر مما تظن.
ألا تتذكر حين ضربتني عندما حبستني هنا؟”
شيئًا فشيئًا بدأ كاليُوس يستعيد الذكريات.
وباختصار، اكتشف غاريون من خلال قراءة ذكرياته وذكريات ليتيسيا أن صورة كاليُوس لديهما مختلفة تمامًا، لذلك خاطر بمواجهته.
قال فجأة:
“رأيت مستقبلك أيضًا.”
تجهم كاليُوس:
“وهل تزعم أنك ترى المستقبل؟”
لكن غاريون لم يُعر اعتراضه اهتمامًا، وأكمل:
“صحيح أنني لا أرى دائمًا، وأحيانًا أشك في صدق ما أراه، لكن… نعم، رأيت مصيرك.”
ثم التفت إلى ليتيسيا وقال:
“ورأيتُ مستقبلي كذلك.”
تردّد قليلًا، ثم أضاف:
“في المستقبل الذي رأيته… سأُقتل.”
سأله كاليُوس بحدة:
“ومن سيقتلك؟”
ابتسم غاريون ببرود:
“لماذا علي أن أخبرك؟”
لكن حين شدّه كاليُوس من لحيته، قال ببرود:
“الأمر يتغير باستمرار، في كل مرة يكون القاتل مختلفًا. لكن النهاية واحدة: موت محتوم.”
أرخى كاليُوس قبضته يائسًا، بينما بدت ليتيسيا كأنها تعرف هذا المصير منذ البداية.
تنفست بعمق وسألته:
“لكن لم تجب بعد، لماذا ساعدتني؟”
أطرق غاريون طويلًا، ثم قال مستسلمًا:
“لأجل قبيلة دوريل. لا بد أن أحييك كي يتحقق ما أريد.”
فوجئ كاليُوس، فقبل قليل كان يقول إنها ستموت حتمًا، فكيف أصبح إنقاذها شرطًا؟
قال غاريون بجدية:
“كاليُوس ماكسيس كان مجرد كبش فداء… فداء لسلامة قبيلتي.”
فهم كاليُوس مراده.
كان يقصد أن هناك طريقة لإنقاذ ليتيسيا، وهو عازم على فعلها مهما كان الثمن.
لكن حين قال غاريون:
“كل ما عليّ فعله هو لمسُك.”
أجابه كاليُوس بحزم:
“لا تحلم.
لن أخدع بتعاويذ قبيلتك الخبيثة.”
فتحداه غاريون:
“وهل ستدعها تموت مجددًا بسبب خوفك؟”
تدخلت ليتيسيا سريعًا:
“اشرح أكثر.”
أوضح غاريون:
“ذلك البئر ليس لتحقيق الأمنيات، بل فخ يسلب أرواح من يخطئون ويحبسهم فيه.
والرجل الذي أخبر كاليُوس عنه أراد استغلاله لصالح قبيلة دوريل.”
وبذلك فهمت ليتيسيا الحقيقة كاملة، والتفتت نحوه مبتسمة:
“إذن، أنت معنا.”
شعر غاريون بمرارة في حلقه، أراد النفي لكنه لم يستطع، لأن كلماتها كانت صحيحة.
لقد صار جزءًا منهم الآن، حتى وإن كان ذلك بغير إرادته.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ56
“وماذا تنوي أن تفعل الآن؟”
لأول مرة، وجّه غاريون السؤال إلى كاليُوس.
كان كاليُوس يدرك ما عليه فعله، غير أنّه لم يُرِد أن يُقِرّ به.
لذلك تأخّر في الجواب.
قال غاريون بصرامة:
“عليك أن ترافقنا إلى الجزيرة.”
تجهّم وجه غاريون، وبدا وكأنّه على وشك أن يتفوه بكلمات جارحة أكثر من مرة، لكنه امتنع.
هو أيضًا كان يدرك أن لا خيار آخر أمامهم.
فلو كان موت كاليُوس ماكسيس سيخدم مصلحة قبيلة دوريل، لكان من الواجب أن يلقى حتفه عندما سقط في البئر أول مرة، بدلاً من أن يظل يتشبث بالحياة بلا نهاية.
ولو حدث ذلك، لكان كل شيء أهون.
لكن للأسف، لم يكن كاليُوس ماكسيس هو السبب الجذري لشقائهم.
رغم ذلك، لم يُعفِه هذا من ذنوبه.
قال غاريون بسرعة:
“فلنمضِ إذن.”
ثم أضاف بلهجة حازمة:
“لكن عليك أن تضمن سلامة رجالي أثناء غيابي.”
كان مطلبه منصفًا، فأومأ كاليُوس موافقًا.
وبهذا، تقرر أن يصحب غاريون كاليُوس إلى الجزيرة.
ومع اشتداد برودة الرياح، أحسّ كاليُوس أن وقته يوشك على النفاد.
—
لم يذق جيريمي طعم النوم في الأيام الأخيرة من فرط القلق.
لقد مضى موسمان منذ أن أصبحت ليتيسيا زوجة لماكسيس.
كانت ليتيسيا تبدو أكثر صحة من أي وقت مضى، لكنه لم يطمئن قلبه بعد.
الشتاء قادم قريبًا… وهذا يبعث على القلق.
إذ كانت ليتيسيا تصاب بالمرض أكثر في الشتاء.
لذلك شعر أنه من الأفضل أن يحضر لها دواءً نافعًا قبل أن يحل البرد، حتى يطمئن باله.
لكن السعي وراء العلاج الجذري كان لا بد أن يستمر.
سألها برفق:
“هل تحتاجين شيئًا؟”
فأجابت بخجل:
“…شكرًا على اهتمامك، لكن ليس الآن.”
لقد كرّس جيريمي عمره في خدمة دوق ريربون وحده.
كان الدوق في منتصف العمر عندما بدأ خدمته له، ولذلك لم يعتد أن يخدم رجالًا أصغر سنًا مثل كاليُوس.
لم يكن هذا عائقًا بحد ذاته، لكن شخصية كاليُوس كانت عسيرة المراس.
وكان جيريمي يضمر له نفورًا خفيًا.
رغم أنه حسن الطلعة.
وعندما علم أن ليتيسيا ستتزوجه، استبد به قلق شديد.
فقد سمع عنه روايات مروّعة: كان يتلاعب بالسيف كما لو كان لعبة، ولا يتورع عن استخدام أي وسيلة لتحقيق غاياته.
حتى قيل إن ضحاياه من قبائل دوريل بلغوا عشرات الآلاف.
وقد كره جيريمي فكرة أن رجلاً بهذه القسوة قد يريق دماء الأبرياء بدافع شهوة السلطة.
ولم يصدق يومًا أنه سيكون زوجًا صالحًا لليتيسيا.
سأله كاليُوس فجأة:
“هل سمعت يومًا عن نبات القريصة الوسطى؟”
“القريصة؟”
تفاجأ جيريمي، إذ لم يسمع بمثل هذه النبتة من قبل، وكأن كاليُوس يختبر معرفته عمدًا.
فقال:
“سمعت أنها نوع من القريصة… لكن لا أظن أنني أعرفها.”
نطقها كاليُوس بلهجة محبطة وكأنه خاب أمله.
حاول جيريمي أن يستعرض كل ما يعرفه ليجيب:
“للقريصة أصناف عديدة، تحمل الاسم نفسه لكن تختلف أشكالها واستعمالاتها حسب المناطق.
لذلك لست واثقًا أي نوع تعني.”
ابتسم كاليُوس لشرحه، لكن جيريمي لم يبادل الابتسامة، فقد شعر أن وراءه شيئًا يخفيه.
قال كاليُوس متابعًا:
“النبتة التي أقصد أوراقها ثلاث أو أربع، مكسوّة بشعيرات دقيقة، وتُستعمل غالبًا في صناعة الأقمشة.”
دهش جيريمي:
“هل يوجد حقًا مثل هذا النوع؟”
أجابه كاليُوس باستخفاف:
“سمعت أنها تُستعمل في بعض الأماكن كعشبة طبية أيضًا، فسألت بدافع الفضول فقط. لا تُرهق نفسك.”
لكن كلامه هذا أيقظ فضول جيريمي بالفعل.
إذ كان مطّلعًا على جميع أعشاب الإمبراطورية بحكم مرض ليتيسيا المزمن، وقد بذل قصارى جهده لإيجاد علاج دون أن يفلح.
وبما أن النبتة التي ذكرها كاليُوس تستعمل عادة للأقمشة لا للعلاج، فهذا يعني أن جيريمي لم يجرّبها بعد.
لوّح كاليُوس بيده وقال ببرود:
“انسَ الأمر.”
ثم مضى، فيما تمتم جيريمي لنفسه:
“القريصة…”
كانت عشبة لم تخطر بباله قط.
وأقسم أن يبحث عنها.
—
تسارعت الأيام حتى تساقطت أولى الثلوج على سيسكريك.
وبهذا لم يعد بالإمكان تأجيل الرحلة إلى الجزيرة.
كان كاليُوس واقفًا أمام مدفأة مشتعلة، يحدق مطولًا في جذوع الحطب كأنه يبحث عن إجابة بين ألسنة اللهب.
سألته ليتيسيا بلطف:
“بماذا تفكر؟”
مدّ يده وأمسك يدها، ثم طبع قبلة على ظهرها وقال:
“كنت أتمنى لو أننا فررنا بعيدًا.”
ضحكت، لكنها ضحكة باهتة؛ إذ لم يكن كلامه مضحكًا.
وسرعان ما اختفت ابتسامتها.
فهي لم تكن تدري أنه ما زال يفكر جديًا في الهروب.
وعندما تخيلت هي الأخرى ذلك، وجدت أنّ حياتهما لو اقتصرت على البقاء معًا فقط، لربما لم تكن حياة سيئة.
بل أدهشها أنها بدأت تميل لفكرة الهروب نفسها.
لكنها كتمت خيالها.
سألته فجأة:
“هل جربت الهرب من قبل؟”
رأت في عينيه صمتًا عميقًا يحمل معنى الإجابة.
قال بهدوء:
“مرة واحدة فقط.”
ثم مرر أصابعه على يدها وأضاف:
“لكنني عدت سريعًا… كنت أعلم أن لا جدوى من ذلك.”
“إنها مجرد شكوى لا أكثر، فلا تعيريها أهمية.”
لكن كيف يسهل عليها تجاهلها؟
كانت غاضبة لأنها لا تستطيع أن تقدّم له وعدًا يمنحه الأمان.
فما يفكر به يعرفه هو مسبقًا، وما تقوله هي لا يجدي جديدًا.
قال لها بحزن:
“كنت أتمنى لو أنكِ منعتيني من دخول البئر.”
ابتسم ساخرًا:
“لكنني لا أظن أنك كنت ستنجحين.”
مع ذلك، بدا مرتاحًا لشعوره أنها تهتم به.
ثم قال بجدية:
“أريد منك وعدًا واحدًا.”
“ما هو؟”
“حين نصل إلى الجزيرة، لا أريدك عيناك أن تنظر لغيري.”
صُدمت ليتيسيا، إذ بدا وجهه متجهمًا جادًا.
وكأن لا مشاكل أعظم من هذه، بينما الواقع أثقل بالهموم:
مثل ملاحقة ماتياز التي لا تنتهي.
قال:
“أما أمر ماتياز ميتروديا فاتركيه لي… لكن ما يثير قلقي هو أنك تتعاملين بلطف مع رجال الآخرين.”
احتدت نبرتها:
“هذا غير صحيح!”
هز رأسه مؤكدًا:
“بل أعرف ذلك من خبرتي.”
أرادت أن تجادله، لكنها وجدت صعوبة في إنكار ما يعتقده.
قال متذمرًا:
“يكفي أن تقولي إنك لم تنظري إليهم.”
لكنها أصرّت:
“لماذا أُتَّهم بشيء لم أفعله؟”
فتابع بمرارة:
“أصدقاء داميان…”
كان يتحدث وكأنه يقاوم غيظًا داخليًا.
ففي الجزيرة كان لداميان رفاق كُثر، لكن ليتيسيا لم يخطر لها أبدًا أن تلقي عليهم حتى نظرة.
قال كاليُوس بحدة:
“ومن الذي أهداك كتبًا إذن؟”
توقفت ليتيسيا للحظة ثم تذكرت حوارهما في العربة عن “الحب الحر”.
قالت ببراءة:
“لم أتلقَ زهورًا قط… لكنني تلقيت كتبًا فقط.”
رد مذهولًا:
“…تلقيت كتبًا؟”
تذكر أنها أخبرته من قبل أنها لم تتلقَ هدية في حياتها، حتى الزهور لم تصلها قط، فظن أنها كذبت عليه.
قال بوجه حزين:
“ظننتك صادقة… فإذا بك تخفين عني.”
لكن ليتيسيا لم تشعر بواجب الاعتذار عن أمر لم ترتكبه.
هل هو يغار الآن؟
رغم ذلك، بدا وجهه العابس جذابًا في نظرها.
فقال مذكّرًا:
“لكن ألم تذهبي إلى قلعة إيرفولتا؟”
فأجابته ببساطة:
“نعم… معك.”
عرفت أنها لن تكسب هذا النقاش.
فهو يعرفها بعمق، بينما هي ما تزال تجهله.
ابتسم وقال:
“كانت أيامًا جميلة بالفعل.”
وبريق عينيه كان يلمع كشرر النار المتطاير في الموقد.
ثم أضاف بلهجة غامضة:
“أستطيع أن أبوح لك الآن.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ57
“لماذا ذهبت إلى هناك؟”
“بالطبع…
للإمساك بتلك المزيفة.”
تذكّرت ليتيسيا ملامحه الثابتة، تلك التي لم تُظهر أي اندهاش حين علم بوجود شخص ينتحل شخصيتها.
لقد بدا الأمر مألوفًا لديه، وكأنه لم يعد غريبًا عليه بعد الآن.
“وكيف كنت تتعامل مع مثل هذه الأمور من قبل؟”
“لم يختلف الأمر كثيرًا…
كنتِ دائمًا تتصرّفين بطريقتك المعتادة.
حتى حين أمسكتِ بتلك المزيفة ثم أطلقتِ سراحها.”
نهض كاليوس من مكانه.
وبفعل تغيرت نبرته، ارتجف جسد ليتيسيا من تلقاء نفسه.
“على أي حال… أين اختفت تلك الفتاة؟”
“هذا ليس أهم ما في الأمر الآن.”
اقترب منها وكأنه على وشك تقبيلها، ولم يُبد أي نية للتراجع أو ترك المسافة التي تقلّصت بينهما.
لامس كوعها الحاد، وشعر من خلال القماش السميك ببرودة جسدها.
“هل تعلم ما الذي سيحدث في المستقبل؟”
سألت ليتيسيا وهي تحاول تجاهل توتر جسدها كلّه.
فأجاب كاليوس بجدية، رغم استعجاله:
“بعض الأشياء رُبما.”
“إذن… أنت لست على دراية بكل شيء؟”
“ثمة أحداث لا يمكن التنبؤ بها.”
“مثل ماذا؟”
عضّ على شفتيه كمن يتجرّع كأسًا من السمّ، ثم قال:
“مثل موتك.”
لو كانت ليتيسيا تفارق الحياة في كل مرة بالطريقة ذاتها وفي اليوم نفسه، لكان غريبًا أن يفشل في إنقاذها مرارًا.
“لا داعي لأن تُظهر كل هذا الأسف.”
هل لأنها لم تلمس معنى الموت بعد؟ أم لأن هذا الرجل بجوارها؟ لم تستطع ليتيسيا أن تستوعب حقيقة أنها ستموت مهما فعلت.
بدا وكأن المصير لا يخصّها هي، بل شخصًا آخر.
ولذلك لم تتمكن من إدراك مرارة الفقدان الذي عاشه كاليوس.
“أنت من ستموتين… فلماذا تعتذرين أنت لي؟”
قالها بنبرة خفيفة أقرب للمزاح.
لكنها كانت تدرك أن موتها ليس النهاية وحده.
“ستموت أنت أيضًا.”
كانت ليتيسيا قد ماتت دون أن تعرف ما حدث لها…
فلم تشعر بالظلم.
فالمشاعر لا تخصّ الموتى، بل الأحياء، وكان كاليوس هو من يتجرّعها دائمًا.
“لأن هذا ما أريده.”
خفضت ليتيسيا رأسها.
لو واصلت التحديق فيه لأدركت كم هي أنانية.
ومع ذلك، شعرت برضا غريب، مختلط بنفور خفيف من ذاتها، لأنها تعلم أن هذا ما يريده هو أيضًا، بلا منطق.
“أنا السبب في موت كاليوس.”
لم يكن من الصعب أن تدرك ذلك.
ولذلك وجب أن تعتذر له.
“لا أنوي أن أتشاجر معك على أمرٍ كهذا.”
“ليس بالأمر البسيط.”
“بالنسبة لي هو كذلك.”
“لكن بالنسبة لي… إنه بالغ الأهمية.”
أمسك كاليوس كوعها وجذبها نحوه، غير أن ليتيسيا لم تستسلم بسهولة.
“بالطبع لم أضحِّ بحياتي لأجلك كما فعلت أنت.”
“لا تفكري في هذا حتى.”
قالها بصوت خافت، أشبه ما يكون بكلمات مشحونة بالرعب.
“ما أقصده هو…”
بدأت ليتيسيا تفهم مدى عناده.
“أنت تستهين بحياتك كثيرًا.”
“الأمر ليس كذلك… لو أدركتِ كم أنا أناني، لهربتِ مني.”
كان جريحًا كوحشٍ متألم، لكنه لا يهدأ إلا بين يديها.
شعرت ليتيسيا أن بينهما دائمًا هذا النوع من النقاش الذي لا يشبه النقاش.
“هل كنّا نتشاجر دائمًا هكذا؟”
“لا أظن أنها مشاجرات.”
“إذن هكذا كان الأمر دائمًا.”
قال كاليوس بغضب.
ارتسم القلق في قلب ليتيسيا مما ينتظرها في النظام.
“لكنك دائمًا من يفوز.”
“أنا لا أسعى للفوز عليك.”
“لكن في الوقت نفسه، لا ترغب في الخسارة.”
لم تفكر في ذلك من قبل، لكنه لم يكن مخطئًا.
خفض كاليوس رأسه وقال بصوت خافت:
“فهلّا قلتِ فقط إنك لن تنظري إليّ بعد الآن؟”
ضعفت نبرته، فأشفقت ليتيسيا عليه.
“لن أنظر إليك.”
لكن ملامحها لم تُقنعه، فرفع حاجبيه متسائلًا:
“لماذا يبدو وجهك هكذا؟”
“لأنني أعلم أنك لن تفي بوعدك.”
قالها بغضب، لكنها لم تنكمش أمام حدّة كلماته.
“هذا غير عادل… ربما هذه المرة ستكون مختلفة، أليس كذلك؟”
“ربما.”
ابتسم ابتسامة آسرة وجذبها من خصرها.
حينها فقط أدركت ليتيسيا أنها أصبحت فريسة محاصَرة.
“إن أوفيتِ بوعدك، يمكننا محاسبتك حينها.”
“فقط لا تبدأ حديثًا آخر وقتها.”
“بالطبع.”
تحوّل صوته إلى نغمة رخيمة.
أيقنت ليتيسيا أنه يتعمّد ذلك.
“إذن… دعيني أتصرف كما أشاء الآن.”
طبع عضّة رقيقة على شفتيها.
أغمضت عينيها لا إراديًا، بينما كتم هو ضحكته.
—
بعد أيّام
زار سامُ كاليوس مرة أخرى.
لم يكن مضطرًا للحديث فورًا، لكنه لم يتمالك غيظه من رؤيته غارقًا في عاطفته نحو زوجته.
في الزيارة السابقة لم تكن العلاقة بينهما طيبة، ومع ذلك شعر سام بأنه أحمق لأنه استمع إليه.
“أما زلت لا ترغب في سماع الخبر الذي جئتُ به؟”
“ها أنت جئت لتسمعني.”
قالها كاليوس بلا مبالاة.
اشتدّ انزعاج سام من بروده، وكان يتمنى لو يرى فيه أثر دهشة، حتى ولو بالتظاهر.
لوّح كاليوس برأسه وهو يغيّر قميصه، مشيرًا إليه بأن يختصر الحديث.
فتنهد سام مستسلمًا وقال:
“الحدود هادئة… لا مشاكل هناك إلا لو ظهرتَ أنت.”
“شكرًا على هذه المجاملة.”
رغم أن كلامه بعيد عن المديح، تجاهل سام ذلك وأكمل:
“لكن هناك أمر غريب… لقد حان وقت ذهابك إلى الحدود.”
كان كاليوس يعرف السبب الحقيقي وراء تأخيره.
فالإمبراطور على وشك الموت، والدعوة الرسمية الصادرة للنظام تحمل ختمه، لكنها في الحقيقة بأمر ماثياس.
“يبدو أن الإمبراطور لن يعيش طويلًا.”
كان سام سريع الملاحظة.
“الجميع يظنون ذلك.”
“لا… أقصد أنه سيموت قريبًا جدًا.”
هز كاليوس كتفيه بلا مبالاة، كأن الأمر لا يعنيه.
“وهناك خبر قد يزعج… تلك المرأة.”
“إياك أن تكون وقحًا، سام هوين.”
حذّره كاليوس بحدة لأنه وصف ليتيسيا بتلك الطريقة.
ضغط سام على أسنانه غاضبًا، وتراجع خطوة للوراء:
“حسنًا… المهم أن ذلك المزوّر قد عاد إلى النظام.”
“ماذا؟!”
بدا الذهول واضحًا على كاليوس بعدما كان يستمع بلا اكتراث.
تحوّل وجهه فجأة إلى ملامح صارمة.
“هل أنت مستعد للإصغاء الآن؟”
“ما الذي تقوله؟”
“لقد عادت إلى النظام… وتدّعي علنًا أنه عشيقة الأمير. وليس خافيًا على أحد أنه يشبه زوجتك كثيرًا.”
زمجر كاليوس وهو يعضّ على أسنانه:
“اللعنة… من السيّئ أن يبدأ الأمر هكذا.”
لم يفهم بالضبط ما الذي يعنيه “الآن”، لكنه لم يستشعر شيئًا حسنًا.
“أتعلم ما الذي يعنيه ذلك؟”
“يعني أن الجميع يعرفون أن ذلك الأحمق يريد ليتيسيا… وهذا لم يحدث من قبل.”
أحسّ كاليوس بالغيظ.
لقد أخفق فقط في الموت… لكن الحقيقة لم تتغيّر.
رسم المستقبل في ذهنه سلفًا:
سيفشل من جديد… وليتيسيا هذه المرة ستموت رغم علمها المسبق بالفشل.
—
مع اشتداد البرد القارس
توقفت العربات عند بوابة القصر، والخيول تنفث بخارًا مع كل حركة.
تفقدت ليتيسيا مرة أخرى الأغطية فوق الخيول لتتأكد من حمايتها من البرد.
“هذه الملابس ضيقة وغير مريحة.”
قال غاريون بضيق وهو يرتدي ثياب ميتروديا الرسمية.
فقد اضطر إلى السفر معهم للنظام، وكان يخشى أن يُفتضح أصله من قبيلة دوريل، فوافق على التخفي. لكنه لم يتوقع أن يُرغَم على ارتداء هذه الملابس المزعجة.
“ستعتاد عليها سريعًا.”
قالت كريستين مبتسمة، فهي جرّبت من قبل الملابس الفضفاضة والبسيطة الخاصة بأهل دوريل.
“لا أظن ذلك.”
ضحك غاريون ساخرًا، ثم وصل كاليوس بعد أن أنهى استعداداته.
وما إن رآه غاريون حتى صعد إلى العربة متبرّمًا.
“هل أنتم مستعدون؟”
“وماذا عنك؟”
“أنا جاهز منذ زمن.”
بدا واثقًا، ليس فقط لأنه يعرف شيئًا من المستقبل.
“إذن… فلننطلق.”
لم تكن ليتيسيا تعلم ما الذي ينتظرها هناك، لكنها لم تشعر بالخوف.
فإلى جانبها يقف كاليوس ماكسيس.
“أشعر بالحنين لهذا المكان مسبقًا.”
“سنعود إليه بالتأكيد.”
قالها كأنه يقطع عهدًا على نفسه.
تحركت العربات مع انبلاج الفجر.
وكانت الشمس الحمراء تشرق بوضوح على الأفق.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ58
في الطريق المؤدي إلى الجزيرة، راودهم شعور بأن مشكلة قد تقع، لكنها لم تكن من النوع الذي توقعوه.
قال غاريون فجأة:
“غيّروا السائق حالًا.”
فصاح أحدهم بدهشة:
“ماذا تقول؟ هل جُنَّ هذا الرجل؟”
بدأ الخلاف حين توقفت العربة قليلًا للاستراحة.
اقترب غاريون من السائق وسأله شيئًا، ثم انقلب غضبه فجأة.
ارتبك السائق قليلًا، لكنه ردّ عليه بانفعال.
قال كاليُوس بنبرة حازمة:
“هل هناك مشكلة ما؟”
فأجاب غاريون ببرود:
“هذا السائق لا يُعتمد عليه.”
ثار السائق وقال:
“لم أسمع في حياتي أن قبيلة دوريل تقول مثل هذا الكلام!”
كان وجهه قد احمرّ غضبًا، بينما ظل غاريون ينظر إليه ببرود، كأنما يسمع نباح كلب لا يعنيه.
ذلك التجاهل لم يزد السائق إلا حنقًا.
قال كاليُوس بصرامة:
“تحدث بوضوح.”
فازداد السائق غضبًا وصاح:
“أنا لا أثق في رجال دوريل! هم دائمًا يفتعلون المتاعب بأعذار واهية!”
لكن غاريون لم يتراجع، بل بدا كأنه يختبر كاليُوس.
وكانت ليتيسيا تلاحظ أن كاليُوس يعرف الحقيقة في داخله، حتى لو لم يخطئ السائق بالفعل.
الطريق كان ضيقًا لا تسلكه سوى عربة واحدة، وأشجار كثيفة تحفّه من الجانبين.
ولو كانوا يريدون تغيير السائق، فهذه آخر فرصة قبل اجتياز القرية الصغيرة المقبلة.
‘هل يعون ذلك ويتصرّفون عمدًا؟’ فكرت ليتيسيا.
نظر كاليُوس في عيني غاريون طويلًا، ثم قال:
“سنبدّل السائق في القرية القادمة، ريمان سيعود إلى سيسكريك من هناك.”
تلعثم ريمان بدهشة:
“س-سيدي!”
حتى غاريون بدت عليه ملامح المفاجأة، إذ لم يتوقع أن يؤخذ بكلامه.
ثم عاد إلى العربة دون أن يزيد.
قال ريمان بقلق:
“سيدي، لماذا تنصاع له؟”
فأجابه كاليُوس بهدوء:
“لا تقلق، الجزيرة قريبة.
ستحصل على أجرك كاملًا كما اتفقنا.”
رغم ذلك بدا ريمان متردّدًا، لكنه لم يملك سوى الرضا بالأمر.
وحين وصلوا إلى القرية، استأجروا سائقًا جديدًا، وباتوا ليلتهم في نزل قبل أن يعود ريمان إلى سيسكريك.
كان ريمان مرتاحًا لأنه سينال أجره دون أن يكمل الرحلة، لكن ملامحه لم تُظهر فرحًا حقيقيًا.
قال له كاليُوس عند الوداع:
“عد إلى سيسكريك واسترح هناك.”
فأجاب ريمان بصوت خافت:
“نعم… اعتنِ بنفسك، واعتنِ بالسيدة أيضًا.”
لم يلتفت غاريون إليه قط، بل تصرف كأن الأمر كله واجب ثقيل.
وبعد مسافة قصيرة من انطلاقهم مجددًا، سأل كاليُوس غاريون:
“والآن، لماذا كنت مصرًّا على هذا؟”
فردّ غاريون بحدة:
“أخبرتك، سيجلبون لنا الأذى.”
قطّب كاليُوس حاجبيه وقال:
“أي أذى تحديدًا؟”
وبعد إلحاح منه ومن ليتيسيا، تردد غاريون قليلًا ثم قال:
“سينشرون الأقاويل عني.”
سأله كاليُوس:
“هل رأيت ذلك في المستقبل؟”
فأجاب باستياء:
“ومن يستطيع أن يعرف مسبقًا؟”
كان واضحًا أنه غير متأكد، ورغم ذلك اختاره كاليُوس على حساب رجاله.
قال كاليُوس بجدية:
“لكن إن تكرر الأمر ثانية…”
قاطعه غاريون:
“أتقصد أنك لن تستمع إليّ بعد الآن؟”
فقال كاليُوس بهدوء قاطع:
“لا، سأستمع إليك، سواء كنت على صواب أم لا.
لكن تذكر… إن أخطأت وأذيت ليتيسيا، فلن يكون أصدقاؤك في سيسكريك بأمان.”
أدرك غاريون أنه تهديد جاد.
فابتسم بسخرية وأدار وجهه بعيدًا قائلًا:
“كما تشاء.”
ومنذ ذلك الحين ساد الصمت بينهما لساعات.
—
توقفوا للاستراحة وتناول الطعام.
انتهت الغابة، وامتدت أمامهم سهول لا نهاية لها، وطريق مستقيم لا عوائق فيه.
قالت كريستين بهمس:
“بهذا التوتر، قد تقع كارثة قبل أن نصل الجزيرة.”
سألتها ليتيسيا:
“أتظنين ذلك فعلًا؟”
فأجابت:
“نعم، إذا لم يستطيعوا كبح عداوتهم، فلن ينفع شيء.”
فكرت ليتيسيا بصوت مسموع:
“ربما لو بادر كاليُوس بالاعتذار أولًا…”
هزّت كريستين رأسها:
“لن يفعل.”
“ولمَ لا؟”
نظرت إليها كريستين بدهشة وقالت:
“لأن قبيلة دوريل هي من قتلت جميع رفاق السيد ماكسيس.”
ساد الصمت على ليتيسيا، ولم تجد ما تقول.
تابعت كريستين:
“كان ذلك قديمًا، عندما ذهب اللورد ماكسيس إلى الحدود أول مرة… لا أعرف التفاصيل، سمعت فقط بذلك عرضًا.”
لم تكن ليتيسيا تعلم أن كاليُوس، رغم مظهره المتفرّد المستغني عن الناس، كان له رفاق أحبهم.
ومهما يكن، بدا الطريق إلى الجزيرة طريقًا مليئًا بالعقبات.
—
بعد يومين، أشعلوا النار في مخيّمهم.
كان الليل خريفيًا معتدلًا، لكن ليتيسيا التفّت ببطانيات وأوشحة كثيرة.
قال لها كاليُوس:
“ابقِ داخل العربة.”
فأجابت متذمّرة:
“أشعر بالضيق.”
فشدّها إلى جانبه.
بينما جلس غاريون مقابلهم يراقبهما بصمت.
قال فجأة:
“أنتم لا تحبون بعضكم.”
فردّ كاليُوس ببرود:
“ولم أقل إن لك الحق أن تقول ما تشاء.”
ابتسم غاريون بسخرية:
“أفاجَأ فقط، ألا يحق لي الكلام؟”
تدخّلت ليتيسيا قبل أن يتشاجر الاثنان، وسألت غاريون:
“ألم تفكر بالزواج؟”
قال بازدراء:
“لا أفكر في ذلك.”
ثم أضاف بحدة:
“لا يعجبني أن حياتنا معلّقة على رجل مهووس بالحب.”
فأجابه كاليُوس بصرامة:
“وأنا لا يعجبني أن نعيش بفضلك أنت، فلنتفق أن نصمت.”
سكت غاريون.
سكت الجميع، ولم يبقَ سوى صوت النار، وتحت السماء بدر مكتمل يضيء المكان.
فجأة قالت ليتيسيا:
“كريستين؟”
فأشارت إليها كريستين أن تصمت، ثم جالت بنظرها حول المكان.
وقف كاليُوس بجانبها وقال بقلق:
“… اللعنة.”
سألته ليتيسيا:
“ماذا هناك؟”
أجاب بجدية:
“لقد غفلنا… لكن الخصوم ليسوا كثيرين.”
تساءلت ليتيسيا بارتباك:
“خصوم؟”
رفعت بصرها، فإذا ظلال أشخاص تتقدّم في الظلام.
قالت كريستين بخفوت:
“عادةً ما ينتشر اللصوص في طريق الجزيرة، وقلة المارة تجعلنا هدفًا لهم.”
ابتسم غاريون بخبث وقال:
“ليست هذه مشكلة على اللورد كاليُوس ماكسيس… أليس كذلك؟”
لكنه بقي ملاصقًا لليتيسيا، متذرّعًا:
“أنا لا أجيد القتال بالسيف.”
قال له كاليُوس باقتضاب:
“ابقَ في العربة.”
وأومأت ليتيسيا بالموافقة.
استلّ كاليُوس وكريستين سيوفهما، ووقفا متأهبين.
تعالى وقع خطوات في الخارج، وبدا التهديد واقعيًا.
ارتجف غاريون قليلًا، وتمتم:
“عددهم أكثر مما توقعت…”
قال كاليُوس وكريستين معًا، ووجهاهما متجهّمان:
“إنهم كثيرون.”
كانوا يرتدون ملابس سوداء، مما أخفى عددهم الحقيقي، لكنهم بدوا بالعشرات.
ورغم أن الموقف صعب، فإن اللصوص لم يكونوا يعرفون مع من يتعاملون.
سأل أحدهم من الظلام:
“هل أنتم متجهون إلى الجزيرة؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ59
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه أحد الرجال.
كانت تلك وجهة لم يسبق لهم أن رأوها من قبل.
بدا وكأن الرجل نفسه لا يعرف من يكون كاليُوس أيضًا.
أزاحت ليتيسيا الستار ونظرت من نافذة العربة إلى الخارج. وحين حاول أحد الغرباء أن يتقدم ليلقي نظرة إلى داخلها، سارعت كريستين لتمنعه على الفور.
قال أحدهم:
“أتدري ما أثمن ما يحمله النبلاء؟”
فأجابه آخر وهو يضحك:
“طبعًا، الفتاة النبيلة الجميلة!”
“أحسنت القول! هاهاها!”
انعكس الضيق على ملامح كاليُوس. وكان ذلك في الوقت الذي ذهب فيه سام مع السائق إلى القرية.
لو كان معهما شخص آخر لما أصبحت المسألة بهذه الخطورة.
“لن تسلّمها بسهولة، أليس كذلك؟”
قال كاليُوس بصرامة:
“كُفَّ عن الثرثرة وتقدّم.”
تبدّد ضحك الرجال عند سماع زئيره.
قالت كريستين بنبرة متبرمة:
“لِمَ لم تستشرني؟”
“وهل هذا وقت الاستشارة؟”
رغم اعتراضها، كانت تدرك أن الموقف ليس في صالحهم. وكان لا بد من إنهاء الأمر بسرعة بدل إضاعة الوقت.
فكل معركة خاضوها من قبل لم تكن بلا جدوى؛ فعندما قبض كلٌّ منهم على سيفه، صار يفهم نية الآخر وخطته.
“اقتلوهم!”
“اقتلوهم جميعًا!”
مع تلك الصرخات، تعالت أصوات اصطكاك السيوف تتردّد خلف جدران العربة.
هل مررنا بمثل هذا من قبل؟ تساءلت ليتيسيا وهي تتخيل احتمال انتصار كاليُوس عليهم.
لكن الجواب كان جليًا أمام عينيها:
هذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدما غاريون الجزيرة.
ولم تكن واثقة من قدرة كاليُوس وكريستين على الصمود.
صرخ أحدهم:
“اهجموا على العربة!”
ارتجّت العربة بقوة، ففزعت الخيول واعتلت على قوائمها الأمامية.
صرخت الأصوات من الداخل:
“آه! افعلوا شيئًا!”
“ماذا عساي أفعل… آه!”
تشبّث غاريون بجدار العربة ليثبت نفسه، ثم حثّ ليتيسيا على التحرك.
لكن الباب انفتح فجأة، ودخل رجل ضخم قائلاً:
“كنت أظن أن الفتاة وحدها هنا، فإذا بالشاب أيضًا!”
وبقبضتيه القويتين أمسك بغاريون ليجره خارج العربة.
عندها أيقنت ليتيسيا أن دورها قادم لا محالة.
صرخ غاريون وهو يقاوم:
“دعني… آه! دم!”
اندفع الدم الساخن على وجهه.
الرجل الذي كان يمسكه سقط صريعًا ولم يعد يتحرك.
سأل صوت جهوري:
“أين ليتيسيا؟”
“هي… هي بالداخل…” أجاب غاريون مذعورًا.
لكن حين فتح كاليُوس باب العربة، لم يجد ليتيسيا هناك.
“كاليُوس!”
التفت ليجدها محمولة على كتف أحد الرجال يُبعدها عن المكان.
اندفع خلفهم، لكن صرخة أوقفته:
“سيدي ماكسيس، انظر هناك!”
كانت ليتيسيا تبذل جهدها للخلاص من خاطفها.
قال الرجل وهو يضحك:
“لا تُتعبِي نفسك، سأنهكك تمامًا على أية حال… آه!”
شهقت ليتيسيا وقد شعرت بتوقفه المفاجئ، فدفعته بكل قوتها ليسقط أرضًا. التفتت لترى سهمًا يخترق صدره.
اقتربت أصوات حوافر الخيل، ثم سمعت صوتًا مألوفًا يناديها:
“ليتيسيا!”
اندفع كاليُوس نحوها، يمسكها بكل قلق.
كانت منهكة تمامًا، وكذلك هو، والدماء تغطي جسده، لكنه ظلّ يحذر من الأعداء المحيطين بهم.
ظهر فارس على جواده وقال ساخرًا:
“لقد جئت متأخرًا قليلًا. هل أنت بخير؟”
أجابت ليتيسيا بارتجاف:
“…مرّ وقت طويل، سيدي غورست.”
كان داميان متجهمًا وهو يراها بجوار كاليُوس المصاب. ومع ظهوره، شعرَت قدماها بالوهن.
ثم لاح سام هوان خلف داميان وقال بخفة:
“ماذا كنت سأفعل لولا أنني التقيت به؟ آه، نسيت أن أنبّهكم إلى وجود قطاع طرق على هذا الطريق.”
قالها وكأن ما نسيه مجرد أمر تافه.
سأله داميان ساخرًا:
“هل نسيت شيئًا آخر؟”
“لا شيء الآن. أسرعوا وأدخلوا ليتيسيا إلى العربة.”
كان صوت كاليُوس منهكًا للغاية.
—
دخلت العربة أخيرًا حدود الجزيرة، حيث المنطقة الآمنة الخاضعة لحماية الحرس.
امتطى كاليُوس جواده وسار بمحاذاة داميان.
قال داميان لغاريون:
“أنت صامت منذ الأمس.”
لكن غاريون بقي مطأطئ الرأس لا يجيب، ربما لازال تحت صدمة ما حدث.
“هل سيدتك بخير؟”
أجابت ليتيسيا:
“أنا بخير.”
رغم أنها لا تزال مضطربة، إلا أن وقع الأمر عليها لم يكن كوقعه على غاريون.
تمتم الأخير بغيظ:
“أيها الأحمق…”
“ماذا قلت؟” سألت ليتيسيا.
رد مرتبكًا وهو ينظر إلى كاليُوس:
“لم أقصدك، سيدتي…”
بدا غضبه على كاليُوس مختلفًا هذه المرة، كأنه زفرة مكتومة.
صرخ فجأة:
“أحمق! لم أرَ مثله في حياتي!”
سألته ليتيسيا متعجبة:
“لمَ كل هذا الغضب؟”
لكنه تلعثم، ثم صمت وقال بفتور:
“لا شيء.”
لم تشأ أن تضغط عليه أكثر، فالتفتت إلى النافذة لتلتقي عيناها بنظرات كاليُوس الحادة.
أنهى حديثه مع داميان، واقترب من العربة.
تجنّب النظر إليها بشكل واضح، مما جعلها تعبس قليلًا قبل أن يبتعد ثانية.
وصلوا أخيرًا إلى منزل داميان البعيد عن مركز الجزيرة. المكان كان هادئًا ومريحًا.
نزلت ليتيسيا من العربة، تمدد جسدها المتصلب من الرحلة.
حثّتها كريستين على الدخول سريعًا، لكن ليتيسيا قبضت على معصمها قائلة:
“دعيني أرى جرحك.”
ارتبكت كريستين ولم تتوقع ذلك.
حاولت التملص، لكن ليتيسيا رأت أن إصابتها ليست بسيطة كما تدعي.
“سيدي غورست، هل لديكم من يعالجها؟”
“بالتأكيد.” قال داميان وهو يشير إلى أحد الخدم.
بحثت ليتيسيا بنظرها عن كاليُوس، فلم تجده.
ثم سمعته يقول من بعيد:
“أنا بخير.”
لكنها لم تقتنع، فمن الواضح أنه لا يستطيع معالجة نفسه وحده.
قال سام بابتسامة:
“دَعيني أتولى الأمر.”
تناول الضمادات منها، وبدأ بمهارة يلفّ جروح كريستين. فوجئت الأخيرة بمهارته، إذ كانت تظنّه شابًا لا يُجيد سوى التسكع.
في تلك الأثناء، تجمّد كتف كاليُوس وهو يحاول عبثًا لفّ ضمادة على ذراعه المصابة.
اقتربت منه ليتيسيا وقالت:
“لماذا لم تطلب مساعدتي؟”
أجاب بتبرير طفولي:
“لا أريد أن أبدو عاجزًا أمام قطاع الطرق.”
ضحكت ساخره وهي تتخيله كيف كان أكثر تهورًا في الماضي.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ60
ظننتُ في البداية أنّ الجروح محصورة بذراعه فقط، لكن سرعان ما اتضح لي أنّ هناك إصابات أخرى متناثرة على بطنه أيضًا.
كانت ليتيسيا تمسح الدماء بعناية، ثم أمسكت الضماد لتباشر التضميد.
قالت بهدوء:
“ومن أخبرك أنّك لم تُحسن التصرف في الأمر؟”
لكنه لم يُجب عن سؤالها.
لو لم يكن هو موجودًا، لما كانت ليتيسيا لتبقى على قيد الحياة.
أرادت أن تصرح بذلك، لكنها آثرت تغيير مجرى الحديث.
سألت بنبرة جادة:
“هذه الجروح حديثة، أليس كذلك؟”
اكتفى بالإيماء برأسه من دون كلام.
منذ مغادرته “سيسكريك”، كان كاليوس يشعر وكأنه يسير فوق طبقة رقيقة من الجليد، مهددة بالانكسار في أي لحظة.
أما الآن، فقد باتت حياة ليتيسيا مهددة في كل وقت وبأي وسيلة، وهو لا يدري متى أو أين سيقع الخطر.
وهذا ما كان يُفزعه حقًا.
قالت ليتيسيا:
“أظنّ أنّ مثل هذه الحوادث ستتكرر كثيرًا في المستقبل، أليس كذلك؟”
قطّب كاليوس حاجبيه، سواء لمرارة الحقيقة التي نطقت بها أو للألم الذي كانت تعانيه وهي تحاول لف الضماد دون أن تزيد جراحها سوءًا.
لم تعد ليتيسيا تذكر كم مرة داوت جراحه. وبينما كانت تركز في عملها، قبض فجأة على معصمها.
“هل هذه الكدمة جديدة؟”
كان على معصمها أثر احمرار شديد، سببه على الأرجح حملها له على كتفيها.
عبس كاليوس وكأن ألمها يوجعه أكثر من جراحه هو.
قال بقلق:
“بشرتك رقيقة للغاية.”
ابتسمت بخفة وردت:
“ستزول هذه الكدمة وحدها، لا تقلق.”
في الحقيقة، لم تكن تشعر بألم يُذكر، سوى أن المنظر لم يكن جميلًا.
عندها أطبق شفتيه بخط مستقيم وقال:
“أظن أن الهروب كان الخيار الأفضل.”
نظرت إليه باستنكار:
“أما زلت تردد هذا الكلام؟”
قالها وكأنه لا يزال متعلقًا بفكرة الفرار.
“أجل، أرغب دائمًا بالهرب. فقط امنحيني الإذن، وسأرحل حالًا.”
أدركت ليتيسيا صدقه، وزفرت تنهيدة صغيرة.
وحين انتهت من تضميده وأعاد ارتداء ملابسه، بدا بمظهر أفضل.
قال مبتسمًا:
“الآن جاء دورك.”
أخذ الضماد منها ورفع معصمها فوق ركبته.
“أظنّ أنّ تعلمك كيفية استخدام الخنجر سيكون مفيدًا.”
ابتسم ساخرًا وأضاف:
“لماذا؟ أتعتقدين أنّني عاجز عن ذلك؟”
زمّت شفتيها، لكنه لم يُعقب سوى بهزة رأس. كانت يده ماهرة وهي تلف الضماد، ما أثار دهشتها.
قالت مازحة:
“كنتُ أظن أنّك لن تكرر نفس الكلام هذه المرّة.”
“وهل نسيتِ أننا نفعل ذلك في كل مرة؟”
مهما تغيّرت الظروف، كان يعود دومًا ليجد ليتيسيا ذاتها. كانت الأسباب تتبدل، لكن طلبها بتعلم فنون القتال لم يتغير.
واليوم، كما في السابق، لم تختر الهروب، بل قررت أن تستعد لمواجهة الأخطار القادمة.
قال لها بتحذير:
“لكن لا تظني أنني سأعلمك بطريقة عادية.”
ابتسمت بحماسة:
“هذا ما أريده بالضبط.”
أنهى التضميد، ثم لمس خدها برفق وقال:
“دعِي معصمك يشفى أولًا، ثم نتحدث.”
سألته:
“وهل سيكون لدينا وقت لذلك لاحقًا؟”
وفي تلك اللحظة، التفت كلاهما في آنٍ واحد، ليجدا “كاليسيا” واقفة لا يُعرف منذ متى كانت تراقبهم.
ارتسمت ابتسامة على وجه ليتيسيا، فرِحة بلقائها وكأنها التقت بصديق قديم.
“صاحبة السمو الأميرة.”
قالت لها:
“لقد مر وقت طويل، ليتيسيا. استلمتُ الأكاليل التي أرسلتِها، وكانت في غاية الجمال.”
أجابت بسرور:
“يسعدني أنّها راقت لكم.”
عانقتهاا بحرارة، ثم التقت عيناها بعيني كاليوس، فابتسمت ابتسامة خفيفة.
قالت بنبرة تحمل مغزى:
“لقد اتخذت قرارًا عظيمًا، سيد ماكسيس.”
رد كاليوس ببرود:
“ليس من أجل سموّكم، فلا تسيءوا الظن.”
ضحكت كاليسيا بخفة، رغم قسوة العبارة، ثم دعتهم:
“هيا ندخل. الجو هنا أدفأ من سيسكريك، لكن الشتاء يقترب. هل نتناول الطعام أولًا؟”
دخلوا القصر الدوقي الذي كان يفيض بدفء وودّ، وقد لاحظت ليتيسيا أنّ أشياء تخص كاليسيا منتشرة في كل مكان، حتى بدا وكأنها تقيم هنا معظم الوقت.
سألها باستغراب:
“أين القصر الملكي إذًا؟”
ابتسمت وقالت:
“أذهب إليه فقط إذا كان هناك عمل. لكن هذا المكان أكثر أمانًا.”
ثم أردف بنبرة غامضة:
“لقد وجدت شيئًا مثيرًا في قلعة إيرفولتا.”
سألتها ليتيسيا:
“هل التقيتَ بذلك الرجل؟”
أجابت بفتور:
“لا. ولماذا ألتقي بمزيف؟ مع أنّ النبلاء الآخرين التقوا به مرة على الأقل…”
لكن صوتها تلاشى شيئًا فشيئًا.
تمتم كاليوس:
“على الأقل، صار الجميع يدرك الآن أن ذلك الهوس غير طبيعي. وهذا ليس أمرًا سيئًا.”
ردت كاليسيا بجدية:
“قد تراه أنت كذلك، أما أنا فأراه كابوسًا.”
ثم وجهت حديثها بنبرة ساخرة إلى كاليوس:
“هل أصبحتَ مقربًا من ليتيسيا يا سيد ماكسيس؟”
لكن كاليوس ظل ثابتًا لا يتأثر بسخريته.
قالت ليتيسيا:
“هناك من أودّ أن أقدمه لك.”
فنادَت “غاريون”، الذي دخل مع سام هيوان وكريستين إلى قاعة الاستقبال.
نظرت إليه كاليسيا بدهشة، متسائلة:
“من هذا؟”
أجابته:
“إنه من قبيلة دوريل.”
فتحت كاليسيا عينيها في صدمة:
“ماذا؟!”
نظرت باستياء، بينما ظل غاريون واقفًا دون أن يبدي احترامًا أو يعرّف بنفسه.
قالت باحتقار:
“ولماذا يقف أمامي هذا الرجل؟”
أجابت ليتيسيا:
“لأنه سيساعدني.”
ضحكت ساخرًا:
“يساعدك؟ ولماذا تحتاجين إليه؟ وما الذي يمكن أن يقدمه أصلًا؟”
لكنها كانت تملك إجابة واحدة فقط:
“هو يسعى للسلام لقبيلته، ونحن مستعدون أن نمنحه ذلك.”
تجمدت ملامح كاليسيا وسألت ببرود:
“وهل يشملني هذا (نحن) الذي تتحدثين عنه، سيدة ماكسيس؟”
ظل غاريون واقفًا، يواجه نظراته الحادة.
قالت كاليسيا بحدة:
“إنّ هذا يتعارض تمامًا مع إرادة والدي.”
لكن غاريون أجابه بثبات:
“بل أنت لا تعرف إرادة والدك الحقيقية.”
كانت كلماته كطعنة في قلب كاليسيا، فعبست غاضبة.
ومع ذلك، لم يكن غاريون من النوع الذي يُجامل أو يتملق، وهو ما جعلها تكبح غضبها قليلًا، إذ لم تكن تحتمل المنافقين أصلًا.
قالت متحدية:
“أتزعم أنّك تعرف إرادة والدي أكثر مني؟”
فأجاب:
“على الأقل، أعرف أكثر مما تعرفين.”
وبدت مترددة بين استيائها ورغبتها في معرفة السبب.
قالت بصرامة:
“قبل أن أطردك من هنا، أخبرني بما تجهله أنا.”
ألقى غاريون نظرة على كاليوس، ثم حوّل بصره مترددًا، إذ كان يشعر بالخوف منه منذ لقائهما الأول.
لكن ليتيسيا تركت له المجال ليُجيب.
سألها بهدوء:
“هل تعلمين متى سالت دماء دوريل على الحدود؟”
أجابت:
“ربما بعد أن اعتلى والدي العرش.”
وكانت على حق.
فقد كانت قبيلة دوريل تسكن الحدود منذ زمن بعيد، وكانت هناك احتكاكات بسيطة مع الإمبراطورية، لكنها لم تصل يومًا إلى مذابح.
قال غاريون بمرارة:
“الإنجاز الوحيد لوالدك كان مذابحنا.”
قالت بحدة:
“وهل تُحملني ذنب ذلك؟”
أجابها:
“بل تحاولين التنصل من المسؤولية.”
ثم بدأ يسرد القصة:
بعد تولي الإمبراطور العرش، كان عليه أن يتزوج بسرعة، فكان غريبًا أن يرث الحكم وهو أعزب.
لكن بدلًا من ذلك، قرر أن يُثبت سلطته من خلال إعادة تنظيم شؤون الإمبراطورية.
فبدأ بمراقبة الجنوب الغربي والشمال الشرقي، وأعاد ترتيب تحالفاته مع العائلات النبيلة حول الجزيرة.
وعندما وصل إلى الحدود، سمع عن قبيلة تُدعى دوريل، تعيش مستقلة بنظامها القبلي.
وكانت هناك امرأة تُدعى “تانتاليا”، تحظى باحترام الجميع.
كانت ذات دهاء وحكمة سياسية، لكن السبب الأكبر لمكانتها كان قدرتها الفريدة…
قاطعته كاليسيا باستهزاء:
“ألم تقل لي أنّها كانت تدّعي رؤية المستقبل؟”
لكن غاريون واصل كلامه غير آبه باستهجانها:
“نعم… لقد تنبأت بمستقبل والدكِ.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 11 - من الفصل الحادي بعد المائة إلى الفصل الخامس بعد المائة «النهاية». 2025-09-08
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-09-08
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-09-08
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-09-08
- 6 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-09-08
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-09-09
- 5 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-09-08
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-09-05
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-09-05
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-21
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-21
التعليقات لهذا الفصل " 5"