“جلالتكَ؟”
بينما كان هيسينت مصدومًا، اقترب التاجر من الخلف مترددًا ليخاطب هيسينت.
استدار هيسينت بسرعة مفاجئة، لكنه، بسبب صدمته السابقة عندما قال التمثال “أنا لاتيل”، كان وجهه متصلبًا هذه المرة، على عكس ما اعتاده من قبل.
لم يكن تعبيره يهدف إلى توبيخ التاجر، لكن بالنسبة للتاجر الذي كان بالفعل في حالة قلق وتوتر، بدا تصلب وجه هيسينت وكأنه توبيخ موجه إليه.
‘لا يمكن أن يستمر هذا، من الأفضل أن أكون صادقًا وأعترف بكل شيء.’
في النهاية، شعر التاجر بتأنيب الضمير وخوف من العواقب، فقرر أن هذا ليس صحيحًا واعترف بالحقيقة.
“في الحقيقة، جلالتكَ، التمثال الذي أعددته ليس هذا، يبدو أن هناك… خطأ ما حدث.”
“خطأ؟”
“نعم، سأعيد جلب التمثال الأصلي، لذا أرجو ألا تغضبَ…”
لكن قبل أن ينهي كلامه، قاطعه هيسينت بوجه جاد.
“لا داعي، هذا التمثال يعجبني.”
“ماذا؟”
حقًا؟، هذا التمثال؟، نظر التاجر إلى التمثال بدهشة.
بالتأكيد، كان تمثالًا نابضًا بالحياة… لكن، أليس تعبير التمثال قد تغير قليلًا؟، ربما بسبب قول الإمبراطور منذ قليل “يبدو أن هذا التمثال تحرك”. حتى في نظر التاجر، بدا تعبير التمثال مختلفًا بعض الشيء.
“جلالتكَ، هذا التمثـ…”
أمسك هيسينت بفك التاجر بسرعة وأداره نحوه.
“جلالتكَ…”
عندما أمسك الإمبراطور بفكه بقوة وأجبره على مواجهته، شعر التاجر بقلبه يهوي من الخوف.
كان وجه الإمبراطور جميلًا كجنية في غابة مظلمة، وعيناه عميقتان، وجه يجعل من يقابل نظرته عاجزًا عن التفكير.
“سأبقي هذا التمثال.”
عندما أمر بهذا الوجه الجاد، أومأ التاجر برأسه دون وعي، لم يكن التاجر وحده من سيستسلم، بل لم يكن هناك أحد يجرؤ على رفض أمر هيسينت في هذه اللحظة.
بعد أن وافق التاجر وهو نصف مفتون، أطلق هيسينت فك التاجر وأعطى تعليماته لخادمه هذه المرة.
“هذا التمثال سيساعدني على التركيز إذا وضع في مكتبي، انقلوه إلى هناك.”
نظر الخادم إليه بتعجب وكأنه يقول “هذا؟”، لكن هيسينت لم يجب، بل أعاد تغطية التمثال بالقماش بسرعة وهو يتمتم.
“لا يجب أن يعلق به الغبار.”
‘شكرًا يا هيسينت، كدت أظن أن فكي سيسقط’
تنفست لاتيل الصعداء تحت القماش.
‘على الأقل، يبدو أنني نجحت في اجتياز الموقف بطريقة ما، وهذا جيد.’
* * *
بينما كان الخدم يحملون التمثال – أو بالأحرى المنصة التي تقف عليها لاتيل – إلى مكتب هيسينت، كان عليها أن تبذل جهدًا كبيرًا بأصابع قدميها لتحافظ على توازنها ولا تسقط.
لم يكن الارتفاع كافيًا لإصابتها بجروح خطيرة إذا سقطت، لكن حتى لو لم يصب جسدها، فإن كبرياءها كان سيتهشم إلى أجزاء صغيرة بكل تأكيد، لذا بذلت كل قوتها للحفاظ على التوازن.
لحسن الحظ، وصلت إلى داخل المكتب دون أن تسقط، كانت نتيجة تدريبها الشاق طوال حياتها قد أتت أكلها بجدارة.
“هل التماثيل عادةً بهذا الثقل؟”
“أليس خفيفًا بالنسبة لتمثال؟”
“لا أعرف، هذه أول مرة أحمل فيها واحدًا، لكنه ثقيل جدًا، يدي ترتجفان.”
“لأنه مصنوع من الحجر، بالطبع.”
عندما أغلق الخدم باب المكتب وخرجوا وهم يتذمرون، رفعت لاتيل القماش الذي غطاها به هيسينت بهدوء وألقت نظرة خاطفة إلى الخارج.
أشخاص؟، لا يوجد أحد.
الباب؟، مغلق بإحكام.
“حسنًا، يمكنني الخروج الآن.”
حتى مع محاولتها اتخاذ أكثر وضعية مريحة ممكنة، كان تقليد التمثال أصعب من الجري حول ساحة التدريب خمسين مرة، أزاحت لاتيل القماش الخانق بسرعة إلى الجانب، وتنهدت وهي تجلس وتتفحص المكتب بعينيها.
“حتى المكتب مزين على طريقته… لكن متى سيأتي هيسينت بحق السماء؟”
بعد انتظار حوالي عشر دقائق، سمعت أخيرًا صوت فتح الباب، فرفعت لاتيل رأسها برد فعل تلقائي…
“من هذا؟”
من شدة المفاجأة، عادت لتقليد التمثال في الحال. الشخص الذي دخل كان مجهولًا بالنسبة لها.
‘يحمل الكثير من الأشياء، هل هو سكرتير هيسينت؟’
في البداية، لم يهتم السكرتير بالتمثال وركز على عمله، لكنه لم يستطع مقاومة فضوله في النهاية واقترب من لاتيل وأطلق تنهيدة.
“يا إلهي. هل أمر جلالته بوضع مثل هذا التمثال في المكتب؟”
“…”
“لماذا وضع تمثالًا جالسًا خلف المكتب؟، ألا يظهر منه سوى رأسه هكذا؟”
عندما خرج السكرتير وهو يهز رأسه، تنفست لاتيل الصعداء وقامت، لكن لم تمض ثلاث دقائق حتى فتح الباب مرة أخرى، ودخلت خادمة تحمل أدوات تنظيف.
‘اللعنة، هيسينت يا ابن ال..!’
هل بدأوا يتناقشون عن التمثال بينهم؟، حتى الخادمة، بينما كانت ترتب المكتب، ظلت تنظر إلى لاتيل باستمرار.
“يبدو أن هذا هو التمثال الذي وقع جلالته في حبه من النظرة الأولى.”
بل إن فضول الخادمة كان كبيرًا لدرجة أنها اقتربت بوجهها من التمثال لتراه جيدًا، فاضطرت لاتيل إلى حبس أنفاسها هذه المرة.
“لا أرى فيه شيئًا مميزًا، هل ذوقي الفني ناقص، أم أن ذوق جلالته فريد من نوعه؟، ألم يكن التمثال الراقص الذي كان هنا الموسم الماضي أفضل بكثير؟، هذا مجرد تمثال يقف بلا حراك.”
على أي حال، عندما خرجت الخادمة ونجت لاتيل من الموقف مجددًا، تمتمت بلعنة خفيفة لهيسينت وهي تعض أسنانها بقوة.
لحسن الحظ، الشخص التالي الذي دخل كان هيسينت، بعد أن نجت من محنتين متتاليتين جعلتا قلبها يجف كالخوخ المجفف، دخل هيسينت وهو يبتسم، وكأن شيئًا ما يسليه.
“ألم يكن من الأفضل أن تمنع الناس من دخول الغرفة؟”
عندما رأته لاتيل، ضمت ذراعيها وتذمرت بامتعاض، فضحك هيسينت ضحكة خافتة.
“لو تصرفتي هكذا، لظن الناس أن هذا تمثال مسكون.”
“ماذا فعلت أنا؟”
“خدم القصر بدأوا يتحدثون عن التمثال الموجود هنا وأصيبوا بالذع،. واحد قال إن تمثالًا جالسًا غريب بعض الشيء، وآخر قال إن تمثالًا يقف بلا حراك غريب، بينما قال من حمله ‘لكنه تمثال يبتسم!’ من الجانب، ماذا لو تحولت هذه إلى قصة رعب عن تمثال يتجول في الليل؟”
“هذا بسبب تأخرك.”
“دائمًا تلقين اللوم عليّ؟”
“لأنك تستحق اللوم بشكل دوري.”
“حسنًا، حسنًا، اسألي مئة شخص عابر، هل سبق أن تسللت حبيبتك السابقة متخفية كتمثال؟”
بعد أن أنهى كلامه، حمل هيسينت كرسيًا إلى وسط الغرفة، جلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى، ونظر إلى لاتيل بغرور وهو يسخر منها مجددًا.
“أنا تخفيت كجزء من وفد دبلوماسي، هذا كان أمرًا عاديًا جدًا مقارنة بهذا.”
“توقف عن السخرية قليلًا.”
“أحبكِ، اشتقت إليكِ، أنا سعيد لأنكِ هنا.”
“السخرية كانت أفضل، عد الي السخرية.”
“إلى أين ذهب التمثال الأصلي؟، أخبريني بموقعه قبل أن تذهبي، لقد دفعت ثمنه للتاجر بالفعل.”
“أنت حقًا لا تعرف الاعتدال، أليس كذلك؟”
عندما تذمرت لاتيل، ضحك هيسينت ثم سأل “منديل؟”
“هل يكفيني منديل…؟”
لكن لم يعد لديها طاقة للجدال أكثر، فأجابت بضعف.
“احتاج منديل كبير جدًا.”
كان جسدها متشنجًا طوال الطريق إلى هنا، مما جعلها تعاني بشدة، كتفاها متصلبان، ساقاها تشعران بالتشنج، وذراعاها كأنهما تحولتا إلى تمثال حقيقي. فضلًا عن قلبها الذي انتفض مرات عديدة.
لكن بدلًا من إعطائها منديلًا، خلع هيسينت عباءته، غطاها بها، ووضع قبعة على رأسها.
“لماذا هذا؟”
نظرت إليه لاتيل، فضحك هيسينت كمن لا يملك فكًا وأشار إلى الباب.
“يبدو أنكِ بحاجة إلى الاستحمام، المنديل يأتي بعد ذلك.”
* * *
في أقرب حمام ذهبت إليه، أدركت لاتيل أن تأخر هيسينت كان بسبب تحضيره للحمام، كان الحمام مزودًا بمنشفة للرأس ورداء استحمام مجهزين بإتقان.
دخلت لاتيل الماء الدافئ، ضغطت على عضلاتها المتشنجة لتريحها، وفركت جسدها ووجهها بقماش خشن لتزيل الطلاء الأبيض الملتصق ببشرتها.
“آه…”
بعد حوالي أربعين دقيقة، نظرت إلى المرآة، كان شعرها قد تحول الي لون رمادي قريب من الأبيض، لكنها لم تعد تبدو كتمثال، مع ذلك، لم يتم إزالة الطلاء الأبيض بالكامل، فكانت هناك بقع بيضاء مرئية عند التدقيق.
لكنها لم ترغب في إطالة الوقت أكثر احترامًا لهيسينت، فارتدت رداء الاستحمام وخرجت، بينما كانت تلف شعرها بمنشفة الرأس، رأت هيسينت يقرأ كتابًا.
عندما سمع صوت الباب، أدار رأسه جانبًا، ثم أصبح تعبيره غريبًا.
“ظننت أن تنكركِ كتمثال جعل وجهكِ يبدو مختلفًا، لكن حتى بعد إزالة التنكر، تبدين كشخص آخر.”
“لأنني استخدمت السحر لتغييره.”
“السحر؟ هل تستخدمين السحر أيضًا؟”
“لست أنا، لكن شخصًا آخر يفعل.”
عصرت لاتيل الماء من شعرها الملفوف بالمنشفة بقوة، ثم استلقت على الكرسي المقابل لهيسينت.
أسندت رأسها بالكامل على ظهر الكرسي، ورأت من بعيد ثوبًا مريحًا باللون الأرجواني الفاتح كان هيسينت قد أعده مسبقًا.
“على أي حال، لماذا جئتِ بهذه الطريقة؟، كانت طريقة خطرة جدًا، لاتيل، تعلمين ذلك، أليس كذلك؟، كادت سمعتكِ أن تنهار تمامًا.”
رفعت لاتيل رأسها الثقيل مجددًا، في تلك الأثناء، كان هيسينت قد أغلق الكتاب ووضعه على الطاولة الجانبية، ونظر إليها بتركيز، مركزًا بشكل خاص على وجهها المتغير.
“أعلم، لكن الوضع الطارئ الآن… لم يكن أمامي خيار سوى هذا.”
“طارئ؟”
امتصت لاتيل خديها بعمق، وهي تفتح وتغلق شفتيها كسمكة، وتضغط بأصابعها على المنشفة بعصبية مرارًا وتكرارًا، لم تكن تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي في سرد القصة.
‘هل أتحدث عن أمي وأخي؟، هل أخبره أنني مشتبه بها لأكون اللورد رب مصاصي الدماء؟، ماذا لو قلت ذلك و قرر هيسينت حبسي في المعبد؟، هل أتجنب هذا الجزء؟، إذن، من أين أبدأ وأين أنتهي؟’
“لاتيل؟”
“هل تتذكر عندما ذهبت معك إلى قرية حدود كاريسين؟”
“بوضوح.”
“عندما عدت بعد إنهاء مهمتي، وجدت مزيفة تشبهني تمامًا قد احتلت مكاني.”
جلس هيسينت يستمع إلى لاتيل بهدوء، مشبكًا يديه، لكنه فتح عينيه على اتساعهما وعبس عند سماعه عن المزيفة، ثم استقام بجذعه.
“مزيفة؟”
“بالمعنى الحرفي، هل تتذكر الرسالة التي طلبت منك إيصالها إلى الإمبراطورة آيني؟”
“تلك التي قلتِ فيها إن لديكِ تخمينات حول هيوم؟”
“صحيح، في الواقع، حدث شيء مشابه لدينا، تم العثور على بعض الأدلة التي تشير إلى أن تلا، التي كنا نعتقد أنه مات، لا يزال على قيد الحياة.”
“يا لها من مفاجأة!”
“حتى أن جثة مسحورة بالسحر الأسود ظهرت.”
أضافت لاتيل شرحًا عن كائن يُدعى “اللورد” الذي يظهر كل 500 عام، وعن كيفية انتعاش السحرة السود مع استيقاظه، ثم أطلقت تنهيدة ثقيلة وبطيئة.
“لذلك، كنا في حالة تأهب قصوى بشأن السحرة السود، لكنني، على العكس، وقعت ضحية لذلك، سرقت المزيفة شكلي ومكاني، وأنا أصبحت فجأة ساحرة شريرة تحاول تقليد الإمبراطورة بقوى خبيثة.”
“كيف سرقت المزيفة شكلكِ؟”
“استخدمت أداة سحرية لتغيير وجهي، يبدو أن لديها شيئًا مشابهًا، لكنني لا أعرف ما هو بالضبط.”
غرق هيسينت في التفكير للحظة، ثم رفع حاجبيه وأسند جسده عميقًا في الكرسي وسأل.
“حتى لو كانت مزيفة، أليس من المفترض أن تختلف شخصيتها أو شيء من هذا القبيل؟، كيف يصدق الناس ذلك؟”
“… لأن أخي يساعدها.”
تحولت ملامح هيسينت في لحظة إلى تعبير شرس كأسد على وشك الهجوم.
“رايان؟”
بما أنه عاش فترة دراسته في تاريوم، كان هيسينت قد التقى برايان أحيانًا، وبالطبع، كان يعلم مدى أهميته بالنسبة للاتيل، لكن أن يخونها رايان؟.
“يا للخسيس! كيف يمكنه أن يخونكِ؟ بذلك الوجه الخالي من الطمع!”
“… كنا نتحدث بالسوء عنك أنا وهو بالأمس فقط، اليوم انعكست الأمور.”
كان هيسينت يقبض يده ويفتحها مرارًا، ثم نهض من كرسيه واقترب من لاتيل، وقف بجانبها، ومد ذراعيه بتردد وحرك يديه بإحراج.
لكنه لم يتمكن من معانقتها في النهاية، فأسقط ذراعيه بضعف، عاد إلى مكانه، وبدأ يعصر جلد الأريكة المسكينة بدلاً من ذلك.
“حتى لو كشفتِ أن المزيفة مزيفة، التوقيت مهم، وإلا قد يدعي أخوكِ أن ‘هذه الساحرة جعلت الحقيقية تبدو مزيفة والمزيفة حقيقية’، معظم أنصاركِ جاءوا من أنصار أخيكِ مباشرة، فبدون دليل قاطع، سيصدقون كلامه.”
جلس هيسينت أمام لاتيل ونظر في عينيها.
“كيف يمكنني مساعدتكِ، لاتيل؟”
“هل ستساعدني؟”
تغير تعبير هيسينت بلطف، وارتفعت زاوية شفتيه بنصف ابتسامة.
“ما هذا؟ أنتِ تعلمين ذلك جيدًا، لاتيل، جئتِ لأنكِ تعرفين أنني لا زلت متعلقًا بكِ.”
* * *
“جلالة الإمبراطورة! جلالة الإمبراطورة! لقد حدثت كارثة، كارثة!”
عند سماع الصوت الصاخب القادم من غرفة الاستقبال، أزالت آيني منشفة الماء التي كانت تغطي جبهتها وعينيها ونظرت جانبًا، كانت الخادمة شاحبة الوجه، ترتجف قبضتاها وهي تلهث بصعوبة.
“ما الأمر؟”
“لقد أحضر صاحب الجلالة امرأة غريبة سرًا إلى هنا!”
التعليقات لهذا الفصل " 80"