رجال الحريم - 79
كانت كلمات جيستا تبدو خطيرة للغاية، أن يقول إن الإمبراطورة الحالية مزيفة، وأن الإمبراطورة المطرودة هي الحقيقية، لو انتشرت هذه الكلمات بطريقة خاطئة، لكان من الممكن أن تثير فوضى كبيرة.
“سيدي، سيدي الصغير، عليكَ الحذر في كلامكَ”، تكلم منير بصوت خافت وهو شاحب الوجه، ثم بدأ يتفقد النوافذ والأبواب وزوايا الجدران، بل وحتى داخل المزهرية الكبيرة التي كان قد بدأ بنقلها ولم يكملها بعد.
“إذا أسيء فهم الأمر، قد يُساء تفسير كلامكَ”
“إنها الحقيقية، أنا متأكد”
“لماذا أنتَ واثق إلى هذا الحد”
“ذلك”
أشار جيستا بذقنه إلى كتاب موضوع على الرف، كانت تلك الكتب هدايا من الإمبراطورة.
“ألم تكن هذه الكتب هي التي وعدت بها”
“ليس مجرد أنها ليست كذلك، الوعد الذي قطعته مع الإمبراطورة كان أن نجد وقتًا للخروج والاستمتاع معًا، لكنها قالت ‘لم أنسَ وعدي’، بينما بدت وكأنها لا تعرف شيئًا عن ذلك الوعد على الإطلاق”
“ربما نسيت الأمر”
“قد تنسى بالطبع، لكن لو كانت قد نسيت حقًا، لما قدمت لي تلك الكتب بكل تلك الثقة، أما الإمبراطورة المزيفة فقد تصرفت وكأنها تتذكر وعدنا بوضوح تام عندما قدمت لي تلك الكتب”
غطى منير فمه بيديه وهو يرتجف.
“إذن، ماذا نفعل، الأمير ريان هو من أثار فكرة وجود إمبراطورة مزيفة، أليس كذلك، ألا يعني ذلك أن الأمير ريان قد يكون متواطئًا مع الإمبراطورة المزيفة”
“بالضبط”
أجاب جيستا بتجهم، فشحب وجه منير وصرخ “سيدي الصغير”، وكأنه اتخذ قرارًا حاسمًا وناداه بقوة.
“ماذا”
نظر إليه جيستا، فتوسل إليه منير بوجه دامع، “لنحتفظ بهذا الأمر بيننا فقط، لا نذكره لأحد”
“ما الذي تقصده”
عبس جيستا، لكن منير لم يتراجع عن موقفه رغم علمه بأن ذلك قد يزعج سيده، “الأمير ريان متورط في الأمر، سيكون رائعًا لو عادت الإمبراطورة الحقيقية، لكن ماذا لو لم تعُد، الإمبراطورة المزيفة تشبه الإمبراطورة الحقيقية في المظهر والتصرفات لدرجة لا يمكن تمييزها، فإذا دعم الأمير ريان الإمبراطورة المزيفة، ستنتهي اللعبة”
“هل تعتقد ذلك”
“إذا حاولنا كشف الحقيقة وأخطأنا، قد نُطرد مع الإمبراطورة الحقيقية، تذكر كيف اتهمت الإمبراطورة الحقيقية بأنها ساحرة سوداء وطُردت”
همس منير بوجه يكاد يبكي، “إذا تعقدت الأمور، قد تتعرض يا سيدي الصغير، بل وحتى السيد الكبير، لعقوبة قاسية، لكن إذا بقينا صامتين وتظاهرنا بأننا لا نعلم شيئًا”
أوقفه جيستا بسد فمه بيده، فلم يستطع منير إكمال كلامه، تفاجأ منير بكف جيستا الكبير الذي غطى وجهه، فظل يرمش بعينيه فقط.
كان جيستا لا يزال يبدو متجهمًا، لكن تعابيره كانت أثقل من المعتاد، “لم آتِ إلى هنا لأصبح تمثالاً، جئتُ لأكون زوجها”
أزال جيستا يده من فم منير، ونظر إلى خادمه المخلص بعينين حزينتين وسأله، “أتريد إبقاء هذا الأمر سرًا، حتى لو لم أكن أرغب بذلك”
كان تعبيره كورقة شجر جافة متدلية على غصن وحيد، مليئًا بالوحدة والكآبة، لكن تحت تلك النظرة المثيرة للشفقة، كانت تتدفق أفكار باردة.
كان جيستا يفكر أنه إذا أصر منير على إبقاء الأمر سرًا ورفض اتباع رغبته، فسيضطر آسفًا للتخلي عن هذا الخادم المفيد، فما يحتاجه هو خادم ينفذ أوامره بحذافيرها، وليس مثل هذا.
“سيدي الصغييير”
لحسن حظ منير، لم يكن يعلم بنوايا جيستا الباردة، لكنه كان يكن له عاطفة عميقة أكثر من أي شخص آخر، عندما رأى جيستا يصر إلى هذا الحد، لم يستطع منير التمسك برأيه.
“حسنًا، سأفعل ما تريد، سيدي الصغير”
عندما أجاب منير باستسلام رغم تجهمه، سارع جيستا إلى كتابة رسالة ومدها إليه، “سلم هذه إلى والدي، سيصدق كلامي على الفور”
“حاضر”
ورغم ذلك، بدا منير لا يزال مترددًا وقلقًا، فاقترب منه جيستا وعانقه بحرارة، ثم قال بنبرة لطيفة وودودة، “منير، لقد ترعرنا معًا منذ الصغر، أنتَ بمثابة أخ وصديق بالنسبة لي، أليس كذلك”
“بـ، بالطبع”
ترك جيستا عناقه، ونظر إلى عيني منير مباشرة بنظرة مليئة بالثقة، فشعر الخادم المخلص برغبة عارمة في أن يفعل أي شيء لإعادة الإمبراطورة الحقيقية إلى مكانها، إذا كان ذلك سيطمئن سيده الصغير.
“لا تقلق، سأتحرك حتى تتمزق قدمي من أجلكَ، سيدي الصغير”
***
في هذه الأثناء، بدأت لاتيل، التي تظاهرت بجرأة بأنها هي “الغابة السوداء” لاستدعاء أتباع تيسير، بالتحرك مجددًا نحو كاريسن، “هل التقى السير سويسران بالسير سونوت بعد”، كانت تتساءل بين الحين والآخر عما إذا كان السير سويسران قد التقى بالسير سونوت بالفعل ونقل الرسالة، لكن لم يكن لديها وسيلة للتأكد من ذلك الآن.
وبعد مرور عدة أيام، وصلت لاتيل أخيرًا إلى عاصمة كاريسن.
“يبدو أن الغابة السوداء لا تتحرك بسرعة”
لكن، على عكس توقعاتها، لم يصل قتلة الغابة السوداء بعد، رغم أن الوقت كان كافيًا ليأتوا ويذهبوا خمس أو ست مرات، مما جعل لاتيل تشعر بالقلق.
“يقال إن كبرياءهم شديد، فهل يخافون من المجيء بسبب وجود ملك المرتزقة بجانبي”
ومن الأمور المطمئنة أن كارلين، الذي كان محبطًا بسبب كرهها للبط، عاد إلى طباعه المعتادة بوجه خالٍ من التعابير.
“كيف تخططين لدخول القصر، مالكتي”
“حسنًا، هذه هي المشكلة”
عقدت لاتيل ذراعيها ونظرت من بعيد إلى القصر المبني بأسلوب مختلف عن تاريوم، مزين بفخامة رائعة.
“يجب أن أقابل شخصًا أولاً لأطلب المساعدة”
فكرت في التسلل كخادمة مرة أخرى، لكن على عكس تاريوم، لم يكن لديها هوية مزيفة مثالية تمكنها من اجتياز فحص الوثائق هنا، مما شكل عائقًا.
رأت قافلة تجارية تدخل القصر لتوصيل بعض البضائع، ففكرت في التسلل بينهم، لكنها لاحظت أنهم يرفضون أي غريب خوفًا من تحمل المسؤولية إذا حدث خطأ.
ولم يكن بإمكانها استعارة هوية ملك المرتزقة أيضًا، فالقصة التي تقول إن ملك المرتزقة أصبح محظي إمبراطورة تاريوم كانت معروفة جدًا.
بعد قضاء يومين في البحث عن طريقة لدخول القصر، توصلت لاتيل أخيرًا إلى فكرة جيدة.
“أحتاج مساعدتكَ، كارلين”
استمع كارلين لفكرتها بالكامل، فشحب وجهه الأبيض أصلاً أكثر.
“هل، هل ستفعلين هذا حقًا، جلالتكِ”
“نعم، لا أجد طريقة أخرى”
***
“جلالتكَ، التجار يقومون الآن بجلب العمال لتركيب الزينة”
“حقًا”
“نعم، هل تود الذهاب للاطلاع عليها”
في قصر كاريسن، كانوا يغيرون زينة القاعة الكبرى مع كل تغير في الفصول، ويخزنون القطع القابلة لإعادة الاستخدام في المستودعات، بينما يتخلصون مما لم يعد صالحًا.
وحيث إن الوقت قد حان لذلك، بدت القاعة مزدحمة مجددًا.
“حسنًا، سأذهب لأرى”
كان هيسينت، الذي يهتم بالفنون، يرغب في التحقق من الزينة بنفسه، فخصص وقتًا وسط انشغالاته وسار نحو القاعة.
كان العمال يقيمون منصات حول أعمدة القاعة ويرفعون التماثيل فوقها، وكانت هناك عربات تحمل التماثيل، وينزلها العمال بحذر شديد.
كانت كل قطعة مغطاة بقماش يخفي محتواها، لكن بدا واضحًا أنها جميعًا ثمينة، إذ كان العمال يتعاملون معها بمهارة وحرص بالغ.
عندما دخل هيسينت القاعة، بدأ الناس بالتهامس وإلقاء النظرات نحوه، كانت هناك عين حادة بشكل خاص بينهم، لكنه لم ينتبه لها وسط الزحام.
“يا إلهي، جلالتكَ، لقد تشرفنا بقدومكَ”، رأى التاجر الذي جلب التماثيل هيسينت، فهرع إليه منحنيًا ومبتسمًا بمرح.
أومأ هيسينت برأسه وهو يضع يديه خلف ظهره، فضحك التاجر بنشاط وأشار بكلتا يديه إلى أقرب تمثال مغطى بالقماش لم يظهر بعد.
“نشكرك على شراء بضائعنا، لن تندم أبدًا، قد لا تكون تجارتنا الأفضل في كاريسن، لكن في مجال الفنون، أستطيع القول بثقة إننا نتميز برؤية لا تضاهى عالميًا”
“هكذا إذن”
“نعم، نحن نكتشف الفنانين الموهوبين وندعمهم، ونحرص دائمًا على تقديم أعمال فنية راقية، التماثيل التي طلبتها هذه المرة هي من بين أفضل أعمالنا”
أنهى التاجر كلامه، وأشار بعينيه إلى مساعده الذي يرتدي قبعة منخفضة ليكشف عن القماش الذي يغطي التمثال، لكن المساعد تردد ونظر إلى هيسينت، فحدق التاجر فيه بغضب، أزال المساعد القماش على مضض، فظهر تمثال أبيض صغير بأجنحة.
ابتسم التاجر برضا وبدأ يشرح دون أن يُطلب منه ذلك، “هل ترى هذه الأصابع الرقيقة، انظر إلى الأظافر وحركة الأصابع، أليس ذلك رائعًا، وهذا التعبير، كذالك ثنيات الثوب”
“بالفعل”
أومأ هيسينت وسأل، “ما عنوانه”
“‘ملاك يتردد في إطلاق السهم’”
بعد أن وضع العمال التمثال على المنصة، كشف التاجر عن تمثال آخر بجواره وشرح، “وهذا بعنوان ‘تجسيد كلب غاضب لأن صاحبه لم يعطه قهوة يريدها’”
“حقًا”
“نعم، أليس التعبير معبرًا جدًا، انظر إلى هذه العينين”
“بالفعل”
واصل التاجر كشف التماثيل وشرحها، ومع اهتمام هيسينت المتوسط، ازداد حماس التاجر واستمر في الشرح.
ثم توقف فجأة أمام تمثال معين، وابتسم بفخر ورفع صوته أكثر، “هذا التمثال مميز جدًا، جلالتكَ، ستذهل عند رؤيته، إنه عمل النحات العبقري الأسطوري مينيلان، الذي استغرق خمس سنوات لإكماله، وهو تحفة من تحفه النادرة التي تظهر مرة كل قرن”
“هوه، حقًا، ما موضوعه”
“‘ابتسامة ملاك الجمال بلايت’”
“مثير للاهتمام، أرني”
“حاضر”
ابتسم التاجر بعرض وكشف القماش بحماس، متوقعًا مكاسب كبيرة لتجارته من هذا العرض الناجح، لكنه شهق واتسعت عيناه كالجوز.
“ما هذا”
نظر التاجر إلى التمثال بذهول وهو يفتح فمه ويغلقه، لم تكن هناك ملاك الجمال، بل تمثال غريب لم يره من قبل، حتى أنه بدا كتمثال يمكن تسميته “شخص عابر” بدلاً من “ملاك الجمال”
نظر التاجر إلى هيسينت بحيرة، مترددًا بين تغطية التمثال مجددًا أو تركه.
“هوه”
رفع هيسينت حاجبًا، وكأنه يرى أن العنوان لا يتناسب مع التمثال، وقال.
“يبدو حيًا جدًا، قد لا يكون ملاك الجمال بلايت، لكن يبدو أن مينيلان عبقري حقًا، ألا يشبه شخصًا حيًا”
“نـ، نعم، بالطبع”
تلعثم التاجر وأشار بعينيه إلى مساعده المرتجف.
‘ما هذا، أين تمثال بلايت ومن أين جاء هذا التمثال الغريب’
هز المساعد رأسه بقوة نافيًا معرفته، وبدا مشبوهًا جدًا، لكن التاجر لم يستطع استجوابه الآن.
“لكن، أيها التاجر”
“نعم، نعم، جلالتكَ”
“حتى لو كان ‘ملاك الجمال’ مقبولاً كعنوان، فلماذا ‘ابتسامة’، التمثال لا يبتسم”
“ماذا”
حاول التاجر الحفاظ على رباطة جأشه وفحص تعبير التمثال، كما قال هيسينت، كان التعبير غامضًا، إذا أردنا الدقة، كان يبتسم، لكن ابتسامته أقرب إلى تعبير معذب يصرخ “أنا أضحك حتى ينفصل فكي”
“هذا، أمم”
بينما كان التاجر يتلعثم، أدرك هيسينت شيئًا بنفسه وأومأ برأسه.
“أفهم الآن، ملاك الجمال وابتسامتها هما مجرد أوهام خلقها الناس، أليس كذلك، الشخص الذي يحاول رسم تلك الابتسامة يعاني من ألم عضلي شديد في داخله، هذا عميق”
كلام غير منطقي، لكن التاجر وافق فورًا وصفق بحماس، “بـ، بالطبع، أكيد”، لم يفهم ما يحدث، لكن طالما فسر جلالته الأمر بنفسه، فقد كان ذلك كافيًا ليشعر بالامتنان.
فجأة، “همم”، عبس هيسينت وأمال رأسه، فتسارعت دقات قلب التاجر معه.
“أيها التاجر”
“نعم، نعم، جلالتكَ”
أجاب التاجر بسرعة وهو يكتم رغبته في البكاء، أشار هيسينت إلى التمثال.
“هذا التمثال”
“نعم”
“ألم يتحرك للتو”
“ماذا”
كان تغيير التمثال كافيًا ليصيبه بالجنون، فهل يعقل أن يكون به صدع أو أنه يتحرك لأنه سينهار، أصيب التاجر بالذعر وقال إن ذلك مستحيل.
“لا، أنا متأكد أنني رأيته يتحرك”
اقترب هيسينت من التمثال مقتنعًا بما رآه، بينما كان التاجر يدور حول نفسه في الخلف ويحتج صامتًا على مساعده والعمال.
اقترب هيسينت من التمثال مباشرة، ورأى ذراعه البيضاء التي تبدو بشرية رغم لونها، فدفعه الفضول للضغط عليها بإصبعه وهو يتمتم.
“صُنع بطريقة واقعية جدًا”
فغاصت المنطقة التي ضغط عليها كاللحم.
“!”
تفاجأ هيسينت، رفع رأسه بسرعة بعد أن ضغط بنفسه وذُهل بنفسه، لماذا يوجد لحم في تمثال
في تلك اللحظة.
“هذه أنا، لاتيل”
تمتم التمثال، رفع هيسينت عينيه إلى التمثال بذهول.