في اليوم التالي، وبينما كانت لاتيل تأكل فطورها بلا شهية وتجبر نفسها على البلع، ثم تجلس في مكتبها، دخل رئيس الخدم الذي عاد إلى القصر في ساعة متأخرة من الليل ثم خرج مجددًا، وكان يبدو أكثر إرهاقًا من المعتاد.

“صباح الخير.”

حيّته لاتيل بعينين غائرتين، فظهر على وجه رئيس الخدم للحظة تعبير :”هل تقصدينها حقًا؟”، بالطبع لم تكن تقصدها، مجرد تحية صباحية فحسب.

أما هو فاقترب منها مباشرة واقترح: “جلالتكِ، يجب أن نرسل بعثة إلى كاريسين فورًا.”

كان الأمر بالأمس صادمًا جدًا، واستُدعي في منتصف الليل فلم يستطع التفكير بوضوح، لكن بعد ليلة تأمل بدا له أن الأمر أكبر بكثير، فكان وجهه جادًا للغاية.

“ماذا قلت؟”

“كما سمعتِ، أي زوج في الدنيا يعلن أنه سيعود إلى وطنه ثم يهرب حاملاً مفتاح المخزن؟، هذه سرقة صريحة.”

كلما تذكر الأمر شعر بالغيظ من جديد، فارتفع صوته قليلاً.

“لكنه كتب بنفسه أنه هو من أخذه.”

دافعت لاتيل عن كلاين بصوت هادئ، لكن رئيس الخدم ظل حادًا.

“وما الفرق؟، لا يزال الأمر غير مقبول على الإطلاق.”

نظرت لاتيل إلى المكتب بهدوء ثم سألت: “لكن لماذا أخذ المفتاح أصلاً؟، ولماذا أعلن أنه هو من أخذه بهذا الوضوح؟”

“السبب لا يهم يا جلالتكِ.”

“أنا أريد أن أعرف، يا سابيل.”

شربت لاتيل رشفة من القهوة، ثم استندت براحة إلى ظهر الكرسي، تقول هذا الكلام وهي تعلم أن تصرف كلاين هذه المرة سخيف إلى درجة الغرابة.

لكن الفرق بينها وبين رئيس الخدم أنها لا تريد أن يقع كلاين في ورطة بسبب هذه الحادثة.

برأيها، كلاين لم يأخذ المفتاح لأنه يريده حقًا، بل لأنه يريد أن تأتي لاتيل بنفسها لاستعادته.

لكن رئيس الخدم ظل يُصرّ على ضرورة إرسال بعثة إلى كاريسين، حتى ضاقت لاتيل ذرعًا وقالت له صراحة أن يصمت ولا يعود إلى الموضوع.

أغلق فمه فورًا، لكنه لم يستطع إخفاء نظرة الامتعاض في عينيه.

“لنبدأ العمل أولاً.”

أخرجت لاتيل الأوراق بسرعة لتتجاهل تلك النظرة.

ليس الأمر أن لاتيل تتصرف هكذا لأنها لا تفكر إلا في كلاين فقط، كان لديها حساباتها الخاصة.

قبل أيام، قال الفارس المقدس إن الإمبراطورة أيني تملك سيف الخصم وقد سحبته منه، ثم أعلن بايكهوا فجأة أن أيني ليست الخصم.

ماذا سيحدث إذًا؟ بالتأكيد ستعلن أيني أنها ستسحب السيف أمام الجميع لتثبت للناس أنها الخصم فعلاً.

لكن من الغريب أن تسحبه هنا، فمن المؤكد أنها ستفعل ذلك في كاريسين، وربما ترسل وفدًا قبلها ليدعو الناس لمشاهدة الحدث.

فكرت لاتيل: ماذا لو ذهبت بنفسها؟

عندها، بعد أن تسحب أيني السيف، تسحبه لاتيل بدورها، فتستمر في القول إن أيني ليست الخصم، وفي الوقت نفسه تلتقي كلاين في كاريسين، تستعيد منه مفتاح المخزن، وتتحدث معه قليلاً.

لذلك أرادت أن تؤجل أي احتجاج إلى كاريسين حتى يأتي الوفد الذي سيعلن عن سحب أيني للسيف.

“جلالتكِ متساهلة جدًا مع ذلك الأمير.”

“ههه، أما أنت يا سابيل فتكره كلاين أكثر من اللازم.”

* * *

في الوقت نفسه تقريبًا.

كان تالا وأمه أناكاشا، اللذان عاشا فترة في القلعة تحت الأرض مع أصحاب أقنعة الحيوانات، قد هربا من هناك بسلام، والآن يقفان قرب قصر عائلة شوبر، عائلة أناكاشا.

فور هروبهما من القلعة تحت الأرض، بدآ يبحثان عن جرجول.

كانا يعتقدان أنه إذا وقفا إلى جانب جرجول والخصم، فسيستطيعان قلب الأوضاع مجددًا، والانتقام من أصحاب أقنعة الحيوانات، والعودة إلى الحياة الطبيعية تحت الشمس.

لكن البحث عن جرجول كان أصعب بكثير مما تخيلا، ولم يعرفا حتى من أين يبدآن.

جابا كل الأماكن التي قد يذهب إليها، فتّشا محيط القلعة تحت الأرض بتمعن، لكن دون جدوى، فبدآ يفقدان الأمل تدريجيًا، حتى نفدت قواهما تمامًا، فعرضت أناكاشا أخيرًا.

“البحث عن جرجول مهم، لكن إذا صادفنا أحد أصحاب الأقنعة قبل أن نجده فقد تنتهي خطتنا، من الأفضل أن نذهب إلى قصر عائلتي ونخطط من هناك.”

وهكذا وصلا إلى هنا، لكن عندما اقتربا من القصر، شعر تالا بالخوف من الدخول، ماذا لو رآه الناس فركضوا منه مذعورين…؟

“أمي، أليس من الأفضل أن تذهبي أنتِ وحدك؟”

“وماذا لو اضطررنا للهرب فجأة؟ سنفترق في الطريق، أليس ذلك أسوأ؟”

بإقناع أناكاشا وصلا إلى محيط القصر، لكن تالا كان لا يزال مترددًا.

خشيت أناكاشا أن تضغط على ابنها أكثر فتجعله ينهار تمامًا، فتقدمت هي أولاً نحو الحراس الواقفين أمام البوابة.

كان الحراس يتثاءبون، فلما رأوا وجه أناكاشا اتسعت أعينهم وسألوا: “السيدة أناكاشا؟!”

كانوا قد سمعوا عنها كل أنواع الشائعات: انتحرت، قُتلت، ماتت مرضًا أو صدمة، أو أنها لا تزال حية وبخير، الآن وقفت أمامهم بكل بساطة، فلم يملكوا إلا الذهول.

“أين والدي؟”

دخلت أناكاشا القصر بمرافقة أحد الحراس، وتبعها تالا مرتديًا قبعة ضخمة تغطي وجهه بالكامل داخل عباءة طويلة.

كان الحارس يلقي نظرات فضولية على الشخص المقنّع، لكنه لم يجرؤ على سؤال أناكاشا مباشرة.

في هذه الأثناء وصلت أناكاشا إلى صالة الاستقبال، وكان ماركيز شوبر يهرع نزولًا على الدرج بعد أن تلقى الخبر عاجلاً.

ما إن انصرف الحارس حتى اقترب الماركيز بعينين محمرّتين، وعانق ابنته فجأة وصاح.

“أناكاشا! إنكِ حية حقًا!”

جلست أناكاشا بجانب والدها، وروت له كل ما مرّت به، فاستمع الماركيز بانتباه وهدوء.

فلما وصل الحديث إلى تالا، رفع تالا ببطء قبعته التي كان يخفي وجهه بها.

“سمو الأمير؟”

ما إن رأى الماركيز وجه حفيده حتى فغر فمه، ثم التفت إلى أناكاشا بنظرة ‘كيف يكون هنا بتلك الحال؟’، كأنه نسي تمامًا ما قالته له أناكاشا قبل قليل عن إحياء تالا على يد الأعداء.

“تعال يا تالا.”

نادته أناكاشا بصوت أكثر حنانًا من المعتاد، فاقترب تالا مطيعًا وأسند رأسه إلى كتفها، فأمسكت يده بقوة ونظرت إلى والدها بعينين دامعتين.

“منذ صغرها وهي تكرهه بشدة، لم أتوقع أبدًا أن تصل الأمر إلى هذا الحد يا أبي، أرجوك ساعدنا.”

نظر الماركيز إلى ابنته الباكية، فتألم قلبه وسأل: “ماذا أستطيع أن أفعل؟”

* * *

في الوقت نفسه، كانت لاتيل تعبس وتكتب شيئًا بجد وهي جالسة أمام مكتبها، فدخل أحد السكرتيرين بحذر وقال: “جلالتكِ، وصل وفد من كاريسين.”

كانت العلاقات مع كاريسين متوترة مؤخرًا، فتردد السكرتير في إخبار الإمبراطورة العابسة، لكن لاتيل، ما إن سمعت اسم كاريسين حتى ابتهجت وجهها وسألت: “حقًا؟”

‘أخيرًا!’

صاحت في سرها ونهضت.

لم يفهم السكرتير سبب فرحها، لكن لاتيل كانت قد خرجت إلى الممر بالفعل.

سارعت لاتيل نحو القاعة التي ينتظر فيها الوفد، وتبعها السير سونوت ورئيس الخدم.

“بالتأكيد جاؤوا بشأن الأمير كلاين، سيقولون إن شخصيته هكذا منذ الأزل فاصفحوا عنه.”

سمعت لاتيل تذمر رئيس الخدم فضحكت.

“لن يكون الأمر كذلك.”

“ماذا؟”

عبرت الممرات والأروقة حتى دخلت القاعة الكبرى، فرأت وفد كاريسين مجتمعًا في مكان واحد، فلما دخلت لاتيل تفرقوا قليلاً وانحنوا لتحيتها.

توجهت لاتيل مباشرة إلى مقعد الإمبراطورة الأعلى، وتخطت التحايا الرسمية وقالت فورًا:.”ما الذي أتى بكم؟”

تقدم رئيس الوفد خطوتين، انحنى، ثم قال: “إن قائد فرسان المعبد الذي تحتفظ به إمبراطورة تاريوم قد قال كلامًا أغضب جلالة الإمبراطورة أيني كثيرًا.”

تظاهرت لاتيل بأنها لا تعرف وسألت: “أي كلام؟”

أجاب رئيس الوفد ببرود وهو يعلم أنها تعلم: “الإعلان بأن جلالة الإمبراطورة أيني ليست الخصم.”

“آه، ذاك الكلام.”

هزت لاتيل كتفيها كأنها تذكرته لللتو وتمتمت: “مجرد رأي، لماذا تأخذونه على محمل الجد إلى هذا الحد؟”

لو قالته أيني لكان مقبولاً، لكن أن تقوله إمبراطورة تاريوم… لم يكن هذا كلامًا يليق بها، فغضب رئيس الوفد لكنه كظم غيظه وتابع.

“لذلك قررت جلالتها أن تسحب علنًا السيف الذي استخدمه الخصوم عبر الأجيال، وقالت إن تاريوم يمكنها أن ترسل شخصًا موثوقًا ليشهد ذلك.”

كان كل شيء يسير تمامًا كما توقعته لاتيل، فارتفعت زاوية فمها في ابتسامة، فشعر رئيس الوفد بالقلق دون سبب واضح، لماذا تبتسم؟.

* * *

في البداية لم يفهم أحد في تاريوم سبب ابتسام لاتيل.

“ماذا؟ جلالتكِ ستذهب بنفسها؟!”

لكن سرعان ما فهم البعض السبب.

أعلنت لاتيل فجأة أنها ستذهب شخصيًا لتشاهد لحظة سحب الإمبراطورة أيني لـسيف الخصم.

“ليس أمرًا يستدعي أن تتعب جلالتكِ نفسها وتسير أيامًا كاملة من أجله.”

ارتبك رئيس الخدم ولم يستطع ترتيب كلامه، ثم حاول إثناءها بصعوبة.

في الحقيقة، لم يكن يهمه من الخصم، فلم يفهم لماذا تريد لاتيل أن تسافر أيامًا لتشاهد ذلك.

لكن ما إن رأى ابتسامتها المشرقة حتى فهم نصف النوايا وتنهد: “تريدين زيارة الأمير كلاين، أليس كذلك؟”

“شيء من هذا القبيل، لو أرسلنا وفد احتجاج الآن لوقع كلاين في موقف محرج، أريد فقط أن أتحدث معه.”

كانت لاتيل تصرّ على رأيها نادرًا، فانتهى الأمر بأن تقرر الدولة رسميًا أن تنضم الإمبراطورة إلى الوفد المتجه إلى كاريسين.

هذه المرة زيارة رسمية، فلن يكون هناك مجال لأن يأتي شخص مزيف بدلاً منها.

لكن أثناء التحضير لزيارة كاريسين، حدث شيء لم تتوقعه لاتيل على الإطلاق.

“هل لي أن أرافقكِ أيضًا؟”

جاء رانامون بنفسه إلى غرفة لاتيل، هو الذي نادرًا ما يأتي أولاً بسبب كبريائه، وطلب هذا الطلب.

“أنت أيضًا؟”

سألت لاتيل بدهشة، فأجاب رانامون بغموض: “هناك أمر يقلقني قليلاً.”