نفس المواجهة، لكن أحدهما يبتسم والآخر متوتر.

كان من الواضح من النظر إلى وجهيهما من هو في المقدمة.

إذا تُرك الأمر هكذا، سيُصاب كارلين، فتقدمت لاتيل عمدًا إلى منتصف المسافة وحاولت تهدئتهما:

“كفى.”

لكن ذلك لم يُجدِ نفعًا كبيرًا. رغم تدخلها في المنتصف، قفز الاثنان فوق رأسها وبدآ يهاجمان بعضهما.

“!”

حتى شعر لاتيل اهتز من سرعة حركتهما.

رفعت لاتيل عينيها بدهشة. كانا على وشك الاصطدام فوقها مباشرة، ثم تحركا جانبيًا، لكن سرعتهما المذهلة التي تتجاوز عشرات المرات البشر البصر جعلت من المستحيل تتبع كل شيء.

“هكذا يتقاتل مصاصو الدماء إذًا…”

ابتلعت لاتيل ريقها من السرعة المرعبة التي لم تتخيلها.

لم تكن تدرك بوضوح من يفوز، لكن إذا ركزت جيدًا، كانت ترى لقطات متفرقة من القتال، وفي كل مرة كان كارلين هو من يتلقى الضربات بوضوح.

كان جرجول يضرب كارلين بإناء الزهور الذي يحمله بطريقة خسيسة.

“هل أتدخل؟”

راقبت لاتيل بعينين حادتين اللحظات التي يصطدم فيها جرجول بكارلين ثم ينفصلان. شدَّت قبضتها وفتحتها مرات عديدة.

لكن الأمر لم يكن سهلاً. كانت هناك لحظات كثيرة يمكن التدخل فيها، لكن سرعة مصاصي الدماء كانت المشكلة. في مثل هذا الوضع، إذا قفزت لاتيل بينهما، فستتلقى الضربات من الجانبين.

“أنا جسمي بشري… إذا وقعت بينهما وتلقيت ضربات من الجهتين، سأموت.”

في النهاية، أحضرت لاتيل قوسًا ووضعت السهم. كانت تفضِّل السيف على القوس، لكن مثل معظم النبلاء، كانت تعرف كيف تطلق السهام.

على أي حال، لم تكن تنوي مهاجمتهما. وحتى لو طار السهم، فمصاصو الدماء سيهربون منه بسهولة. الهدف هو أن يتهربا فيتوقفا عن القتال. شدَّت لاتيل الوتر.

لكن قبل أن تطلق السهم مباشرة، ظهرت فجأة في السماء طائران عملاقان بحجم يستطيع كل منهما حمل شخص بالغ بكامل جسمه، فخطفا جرجول وكارلين وألقيا بهما في اتجاهين مختلفين.

“!”

نظرت لاتيل بدهشة، فكان جيستا واقفًا في منتصف الطائرين تمامًا، عابسًا.

كان يمسك في يديه خيوطًا تشبه خيوط الدمى، لكنها كانت مقطوعة في المنتصف ولا دمى معلقة عليها.

بمظهره الغريب هذا، حذَّر جيستا بصوت منخفض ومظلم لا يتناسب مع وجهه النقي البريء: “كفى… جلالتها ستخاف…”

بصراحة، لاتيل خافت من جيستا أكثر. فغرت فمها من الدهشة.

كان قد ألمح سرًا أن لديه هوية مخفية، بل في الآونة الأخيرة ألمح علانية، لكنها ظنت أنه من طرف اللورد، إذًا ليس عدوًا. لكن ما هذان الطائران العملاقان؟

تجمدت لاتيل، لكن جرجول بدا مهتمًا، فابتسم بدلاً من مواصلة الهجوم وقال: “يبدو كلقاء خريجين قدامي؟”

عبس جيستا: “إذا كان لقاء خريجين، فأنت طالب من مدرسة أخرى.”

حرَّك جيستا أصابعه، فبدأ الطائران العملاقان يدوران حول كارلين وجرجول بتهديد، كانت مخالبها كافية لكسر رقبة إنسان بسهولة.

خفض جرجول يده مبتسمًا: “لا تقلق. أنا هادئ الآن.”

نظر جيستا إلى كارلين، فأومأ كارلين مترددًا. عندما بدا أنهما لن يستمرا، خفض جيستا يده أخيرًا.

ما إن خفض يده حتى اختفى الطائران العملاقان كأنهما لم يكونا موجودين أصلاً.

“جلالتكِ، لماذا هذا الشخص هنا؟”

لكن آثار وضع أشخاص علاقاتهم سيئة في قصر واحد لم تتوقف هنا. عندما التفتت لاتيل إلى الصوت الغاضب، كان مراديم يحدق في جرجول بعينين مخيفتين.

من أين أتيتَ أصلاً؟ أين كنتَ؟ لماذا الآن بالذات! ارتفع ضغط دم لاتيل وهي تشتكي داخليًا.

ابتسم جرجول بهدوء رغم الجو المضطرب: “صحيح، لقاء خريجين.”

بدأ الجو الذي هدأ بصعوبة يتوتر مجددًا.

رفع جيستا يده، فعادت الطيور العملاقة لكن بثلاثة هذه المرة، ودخل كارلين أيضًا في هالة مصاص دماء حقيقي.

بدأ شعر مراديم يهتز لوحده رغم عدم وجود ريح، وبدأت قطرات ماء تتجمع حوله.

زاد العدد، لكن الجميع كانوا يعادون جرجول وحده. ورغم ذلك، ظل جرجول يبتسم بهدوء.

إذا تغلب الثلاثة على جرجول مشكلة، وإذا تغلب جرجول عليهم مشكلة، وإذا تحول القتال إلى فوضى مشكلة. لم تعد لاتيل تتحمل، فشدَّت وتر القوس وأطلقت سهمًا بدقة نحو منتصفهم.

اصدر صوت “بينغ”، فغرز سهم صغير في الأرض في منتصف الأربعة تمامًا. التفت الجميع أخيرًا إلى لاتيل.

أمرت لاتيل بجدية: “كفى، وعودوا جميعًا.”

لكن بدلاً من الطاعة، قال جرجول بنبرة حزينة: “هذا السلاح لطيف جدًا، يا آنسة.”

قبل أن تغضب لاتيل، أظهر كارلين أنيابه، وكان جرجول على وشك الرد بضحكة، فأطلقت لاتيل سهمًا نحو إناء الزهور الذي يحمله جرجول.

صوت “بوك”، تشقق الإناء، فاختفت الابتسامة عن وجه جرجول لأول مرة.

كما يتسرب الماء من الإناء المتصدع، اختفت ابتسامته تدريجيًا، خفضت لاتيل القوس وأمرت مجددًا: “عودوا جميعًا.”

كانت خائفة قليلاً من وجهه الذي يفقد الابتسامة تدريجيًا، لكنها لم تُظهر ذلك.

كانت تعتمد على كلام جرجول أنه لا يستطيع قتل اللورد بنفسه، لا تعرف السبب، لكنه قال ذلك بنفسه.

“……”

“……”

“……”

“……”

بعد صمت قصير، كان كارلين أول من خفض يده وأجاب بطاعة: “حاضر.”

عندما عاد إلى مظهر ملك المرتزقة المثير، خفض جيستا يده ببطء واختفت الطيور ما عدا الذي يمسك جرجول.

“أخفِ الطائر المتبقي أيضًا، جيستا.”

أضافت لاتيل عندما رأت ذلك، فاختفى الطائر الثالث.

لم يستطع مراديم الاستمرار وحده، فكبح قوته رغم أنه حدَّق في جرجول ببرود. هدأ شعره المهتز تدريجيًا، فكان واضحًا.

لحسن الحظ، ضحك جرجول بخفة وقال “حسنًا، حسنًا”، وضم الإناء بقوة وسد الماء المتسرب باليد الأخرى.

كان آخر من كبح قوته، لكنه أول من استدار وغادر. ما إن اختفى حتى تفرق الآخرون.

أراد كارلين وجيستا البقاء مع لاتيل، لكنها هزت رأسها رافضة، فكان أمرًا صامتًا بالعودة.

ما إن اختفى الأربعة حتى خفضت لاتيل القوس، أزالت السهم، ومسحت عرقها البارد.

“خطر جدًا عندما يجتمعون.”

الآخرون يمكن السيطرة عليهم، لكن ما إن يختلط جرجول حتى يفسد كل شيء ويصعب السيطرة على البقية.

المشكلة أنه إذا أرسلته إلى مكان آخر، فسيقلقها أيضًا. لأنها لا تعرف ماذا سيفعل هناك.

* * *

“……”

رفع الكاهن الأعظم جفنيه فجأة أثناء الصلاة.

كان تركيزه شديدًا أثناء الصلاة كما في التمرين.

عندما فتح عينيه فجأة أثناء الصلاة، سأل بيكهوا الذي يخدم بجانبه متعجبًا: “ما الذي حدث؟”

عبس الكاهن الأعظم واستدار نحو النافذة: “شعرتُ بطاقة شريرة… ظهرت ثم اختفت.”

“طاقة شريرة؟”

“وليست بعيدة.”

مال بيكهوا برأسه ثم أعجب به : “حقًا الكاهن الأعظم مذهل. لم أشعر بشيء.”

اعتبر توبه ذلك تملق، لكنه لم يعلق.

نهض الكاهن الأعظم دون تغيير في تعبيره رغم المديح، ومشى ببطء إلى النافذة.

ثم فتح فمه وهو يحدق خارج النافذة: “يجب أن أخبر جلالتها بهذا.”

لكنه بعد خطوات قليلة، توقف واستدار إلى توبه بقلق: “توبه… ماذا لو رفضت جلالتها رؤيتي؟”

* * *

كيف تسيطر لاتيل على الرجال الخطرين جدًا بما فيهم جرجول، وماذا تفعل بمراديم الذي يحاول الانضمام للحرم؟ عادت لاتيل إلى غرفتها غارقة في التفكير.

لكن عندما انتهت من الاستحمام وكانت على وشك النوم، اقتربت الوصيفة وأخبرتها: “جلالتكِ، الكاهن الأعظم جاء.”

“جايسين؟ في هذا الوقت؟”

“نعم.”

نظرت لاتيل إلى الساعة، العاشرة والنصف مساءً. ليس وقتًا يزورها فيه عادةً.

كانت تستدعيه ليلاً عندما لا تريد كوابيس، لكنها في الآونة الأخيرة تحاول رؤية ذكريات دوميس عمدًا، فقلَّت تلك الاستدعاءات. فما الأمر؟

“أدخليه.”

“حاضر.”

خرجت الوصيفة، ودخل الكاهن الأعظم كأنه يحل محلها.

كادت لاتيل أن ترحب به بابتسامة، لكنها لاحظت أنه يتلفت، فاستغربت: “ما بك؟”

سألته من الفضول لأن تصرفه غير معتاد، فتابع الكاهن الأعظم التلفت وسأل: “بسبب رفضي طلب جلالتكِ سابقًا…”

“ماذا؟”

تذكرت لاتيل فورًا، لكن الأمر حُلَّ بفضل تدخل بايكهوا، فنسيتْه تمامًا.

الأهم تبين أن أيني الخصم الحقيقي، بالطبع تنوي إنكار ذلك.

على أي حال، شعرت لاتيل بالذنب لأن جايسين لا يزال يقلق بشأن أمر نسيته هي.

“كنتُ منفعلة حينها.”

“هل كان أمرًا مهمًا؟”

“آه؟ لا، لم يكن مهمًا جدًا…”

‘كان يجب أن أقول إنه مهم… الآن أبدو تافهة جدًا؟’

لكن إذا قالت إنه مهم، سيستمر في الحزن، فقررت لاتيل أن تكون هي التافهة وضحكت: “بالمناسبة، ما الذي أتى بك في هذا الوقت؟ ليس للحديث عن ذلك الأمر بالتأكيد.”

ربتت لاتيل بجانبها علي الفراش عمدًا: “لم تنم معي منذ زمن، تريد النوم بجانبي؟”

“هل أفعل؟”

اقترب جايسين فورًا، لا يفوت مثل هذه الفرص، فضحكت لاتيل وتحركت جانبًا واستلقت بقربه.

“في يوم من الأيام سأتحقق حقًا من قوانين الكهنة.”

“إنها معقدة نوعًا ما.”

“أظن ذلك، لكن ما الأمر الحقيقي؟”

لعبت لاتيل بشعر جايسين بيد واحدة، ثم تذكرت أن جرجول كان يفعل الشيء نفسه فسحبت يدها.

رتب جايسين وسادته واستلقى وأجاب بطبيعية: “يبدو أن هناك كائنات شريرة داخل الحريم، يا صاحبة الجلالة.”

كلام لا يمكن تجاهله.

تجمدت ابتسامة لاتيل، كيف عرف؟

“لماذا تعتقد ذلك؟، بسبب تلك الكائنات الغريبة التي خرجت من البحيرة سابقًا؟”

“لا، اليوم أثناء الصلاة شعرتُ فجأة بطاقة غريبة.”

‘حاد الإحساس’ 

“إذا سمحت جلالتكِ، هل أقوم بعملية تطهير شاملة؟”