‘لماذا ينظر إليها هكذا؟’ 

كانت النظرة غريبة جدًا حتى بالنسبة للاتيل، لم تكن نظرة ودية ولا عدائية.  

حتى من وجهة نظر لاتيل، الطرف الثالث، بدت النظرة غير عادية، فكيف لدوميس، الشخص المعني، ألا تتأثر بها؟  

“السيد كارلين…؟”  

تمتمت دوميس بحذر، اقترب جرجول وهو يبتسم، لاحظ تعبير كارلين متأخرًا، ولوّح بيده أمام عينيه.  

“مهلًا، ما الذي تفعله؟”  

قبل أن يرد، خرجت فتاة ترتدي فستانًا أرجوانيًا فاتحًا ببطء من العربة الثانية.  

بمساعدة أحدهم، نزلت من العربة، وما إن وضعت قدميها على الأرض حتى أخذت تتلفت، وعندما رأت جرجول وكارلين، اقتربت منهما بابتسامة مشرقة.  

“كارلين، جرجول، ماذا تفعلان؟”  

تقدمت الفتاة وفستانها المنفوش يصدر صوتًا مقرمشًا، وتحدثت إليهما بود مألوف، ثم أمالت رأسها كما لو أنها رأت دوميس للتو وسألت: “هل تعرفان هذه الخادمة؟ لمَ تقفان هكذا؟”  

نظرت دوميس إلى المرأة وفكرت للحظة: ‘إنها تشبه أمي’، لكنها لم ترَ فيها شيئًا آخر يذكّرها بأمها بالتبني.  

من خلال ما رأته لاتيل من ذكريات دوميس، لم يبدُ والدا دوميس بالتبني من طبقة نبيلة أو لديهما ثروة تؤهلهما ليُعتبَرا “ضيفي شرف” لدى الإقطاعي، لذا، لم تربط دوميس، ولا لاتيل، بين هذه الفتاة ووالديها بالتبني.  

لكن قبل أن يرد كارلين أو جرجول، سُمع صوت: “أنيا، نسيتِ قفازاتكِ مجددًا.”  

جذب انتباه دوميس امرأة تتبعها من العربة، تتحدث بنبرة رقيقة تنم عن العتاب الحنون، نظرت دوميس إلى المرأة النبيلة ثم استدارت بسرعة نحو مؤخرة العربة.  

كانت سيدة بفستان أخضر أنيق قد نزلت للتو، ممسكة بزوج من القفازات البيضاء المرصعة باللؤلؤ، وخلفها، نزل رجل يرتدي ملابس فاخرة بشكل مبالغ فيه.  

لم تتعرف عليهما لاتيل فورًا بسبب تغير مظهرهما الكبير، لكن دوميس عرفتهما على الفور.  

‘أمي؟ أبي؟’

‘تقصدين ذلك الأب صاحب الفأس؟’

حتى وهي تسمع أفكار دوميس، شككت لاتيل في أنهما والداها بالتبني، لكن رد فعلهما أكد صحة ظن دوميس، اتسعت عيناهما للحظة ثم عادتا إلى طبيعتهما بسرعة، أبعدوا أنظارهم عن دوميس ونادوا على ابنتهما الحقيقية، متظاهرين بعدم رؤيتها.  

“أنيا، خذي قفازاتكِ.”  

لو لاحظت لاتيل تعابير والديها منذ البداية، لربما رأت شيئًا مريبًا، لكن أنيا النبيلة كانت منشغلة بالنظر إلى كارلين، ولم تلحظ ذعرهما، عندما استدارت أنيا وهي تبتسم لكارلين، رد والداها بابتسامة مماثلة.  

“لا أفهم لمَ يجب أن أرتدي قفازات.”  

“لستِ مضطرة لارتدائها، فقط احتفظي بها.”  

“لمَ أحتفظ بها إن لم أرتديها؟”  

تذمرت أنيا وهي ترتدي قفازًا واحدًا، وأشارت إلى دوميس، التي كانت تكبح دموعها بصعوبة. 

“أغراضي هشة، فكوني حذرة عند حملها.”  

عندما لم تجب دوميس فورًا، تجعّد وجه أنيا.  

“ماذا؟، هل تتجاهلني خادمة؟”  

تحول وجه والدها بالتبني إلى تعبير قاسٍ كما لو كان يحمل فأسًا، فأخرجت دوميس صوتًا متقطعًا بالكاد: “نعم… سيدتي.”  

***

بينما كانت دوميس، التي نقلت أمتعة أنيا، تسير ببطء في الممر، اقتربت منها أنيا الخادمة، التي كانت تمر بمهمة أخرى، وسألت: “ما الخطب؟ ماذا قالوا لكِ؟”  

“والداي بالتبني هنا.”  

“والداكِ بالتبني؟ آه، اللذان طرداكِ؟ لمَ جاءا فجأة للبحث عنكِ؟”  

“لا، ضيفا الشرف هما والداي بالتبني… مع ابنتهما الحقيقية.”  

“ابنتهما الحقيقية؟ ألم تقولي إن اسمها مثل اسمي؟”  

أومأت دوميس، كانت أنيا الخادمة على وشك قول شيء بدهشة، لكن اقتراب والدي دوميس وأنيا النبيلة إلى درج الممر قاطعهما.  

أمسكت أنيا الخادمة بنظراتهما الباردة وهزت رأسها بسرعة لتمنعها.  

عندما اقتربا، تنحت دوميس جانبًا.  

“انتظري هناك.”  

لكن ما إن تحركت وبدأت تنزل الدرج، تبعتها لانا، نظرت دوميس إليها بأمل، لكن لانا قالت ببرود: “لدي مهمة لك”، وطلبت منها إحضار ماء.  

لم يظهر كارلين ولا جرجول في الأنحاء.  

“سأعود حالًا، سيدتي.”  

تمتمت دوميس بيأس وهربت من الغرفة.  

ذهبت إلى المطبخ لإحضار إبريق ماء، لكن عندما استدارت، رأت لانا.  

فوجئت دوميس عندما أشارت لها لانا: “إلى هنا”، ثم اتجهت إلى مكان خالٍ من الناس، كاسرة تعبيرها القاسي.  

“دوميس، ابنتي.”  

تمتمت لانا بحزن، ثم لمست وجه دوميس بيديها وشرحت: “اتضح أن لدينا قريبًا ثريًا جدًا، وجدنا وكلاؤه، وبما أننا لسنا أقرباء مباشرين، لم يتمكنوا من التواصل معنا فورًا.”  

“أنا سعيدة أنكِ بخير…”  

“نعم، نحن بخير جدًا.”  

أخرجت لانا منديلًا ومسحت عينيها، ثم ابتسمت لدوميس.

“لقد كبرتِ جيدًا أيضًا، أنا سعيدة أنكِ تبدين بخير.” 

‘لستُ بخير، الخادمات اللواتي كنتُ أشاركهن الغرفة، والخدم الذين كنتُ أتناول العشاء معهم، قد يختفون فجأة، أنا قد أختفي بعد ذلك، كيف أكون بخير؟’

لم تستطع لانا قراءة قلب دوميس المتألم، ربما لم ترغب في ذلك.  

اكتفت بالقول إنها مرتاحة لرؤية دوميس بخير.  

أخذت لانا كوب الماء من دوميس، شربت رشفة، وابتسمت كما لو أن الحديث وحده يسعدها.  

“أنيا كبرت جيدًا أيضًا، إنها سيدة نبيلة بكل المقاييس، عندما تمر، يعاملها الجميع كسيدة نبيلة، بالطبع.”  

“…”  

بعد ابتسامة سعيدة، نظرت لانا إلى دوميس بحزن وقالت: “أنا آسفة تجاهكِ، لكن… لا أريدكِ أن تخبري أنيا أنكِ كنتِ أختها يومًا، لا تتذكر أنيا شيئًا تقريبًا، زارنا جرجول وكارلين بعد مغادرتكِ بوقت قصير.”  

عند سماع اسمي جرجول وكارلين، شعرت دوميس وكأن قلبها يُجفف تمامًا، كانت “الشخصية المميزة” التي وجدوها هي أنيا، أختها بالتبني، التي تخلوا عنها ليقولوا إنها ليست مميزة كما يحتاجون.  

والداها بالتبني، كارلين، وجرجول، جميعهم توجهوا إلى أنيا.  

كانت تعلم أنها لم ترتكب خطأ، لكن الحزن كان عميقًا، كان هناك مقدار محدد من الحظ بينهما، لكن أنيا أخذته كله ولم تترك لدوميس شيئًا.  

مسحت لانا دموعها مجددًا.  

“حاولت العثور عليكِ دون علم والدكِ، لكن لم ينجح الأمر، آخر ما عرفته أنكِ ركبتِ سفينة.”  

“المكان…”  

“ها هو.”  

أخرجت لانا يدها من عباءتها وحملت حفنة من الأكياس الصغيرة، عندما لم تأخذها دوميس، وضعتها على الصينية التي تحملها وسكبت بعض محتوياتها.  

سقطت جواهر ملونة على الصينية.  

“كبرياء أنيا قوي، لأنها عاشت كسيدة نبيلة فقط، سيهين كبرياءها معرفة ماضينا، وبصراحة، أنا آسفة لقول هذا، لكنكِ لستِ من دمنا، لذا لا يمكنكِ أن ترثي.”  

“لم أفكر في ذلك حتى…”  

“لكنكِ كنتِ ابنتي، أليس كذلك؟”  

“!”  

“سأساعدكِ بهدوء، طالما لا تؤذين أنيا، إذا كنتِ في مشكلة، أخبريني.”  

أعطتها لانا عنوان منزلها الجديد، نظرت حولها، وخفضت صوتها لتطلب مجددًا: “إذا علم والدكِ، قد يغضب، إذا زرتِ، تأكدي من أنني وحدي، مفهوم؟”  

بدأت دوميس تنتحب، تشعر بمزيج غريب من الامتنان والحزن.  

بينما كانت لانا على وشك مسح دموعها، سُمع صوت طقطقة خلفها.  

كان كارلين عند الباب.  

عندما رأته، بدت لانا مرتبكة للحظة، ثم ابتسمت وقالت: “أنتَ.” أشارت بعينيها نحو دوميس.  

“يبدو أنكما تعرفان بعضكما.”  

“آه، إنها الخادمة التي كانت لدينا سابقًا، لم أعلم أنها هنا.”  

ضحكت لانا وابتعدت، مخفية المنديل الذي كانت ستمسح به دموع دوميس.  

عندما غادرت، أصبحت دوميس أكثر حزنًا وحدقت في كارلين.  

‘كارلين، عانقها، عانق دوميس وقل لها أن تتشجع!’ فكرت لاتيل.  

لكن بدلًا من عناق دوميس، كان على وجه كارلين تعبير مشابه لما كان عليه عندما نزل من العربة ورآها لأول مرة منذ سنوات—تعبير ارتباك.  

ثم تحول إلى رغبة في مواساة هذا الشخص.  

عندما أدركت ذلك، حاولت دوميس الابتسام وقول إنها بخير.  

“أنا بخي-”  

“أشعر بالسوء لأنكِ تبكين.”  

قاطعها صوت كارلين البارد.  

عندما تلعثمت دوميس: “ماذا؟”، مد كارلين أصابعه البيضاء الطويلة، لف الجواهر المتناثرة على الصينية بين أصابعه، وتمتم: “لم أرَ أحدًا يبكي مثلكِ يُشعرني بالسوء.”  

***

غرامب غرامب غرامب!

غاضبة، مدّت لاتيل يديها نحو وجه كارلين، معتصرة خديه كما لو تعجن عجينًا.  

فجأة، ظهرت عينان خضراوان تختفيان خلف رموش ذهبية باهتة.  

“أوه، يداي تتحركان.”  

أصيبت لاتيل بالذعر، فركت خدي كارلين، ثم أسقطت يديها بسرعة وصرخت: “كارلين؟”  

لم تكن يداها فقط تتحركان؛ كانت هذه غرفة نوم لاتيل، وليس خلف الحديقة حيث كانت دوميس تتعرض لكلمات قاسية من كارلين.  

استيقظت دون أن تدرك.  

بينما كانت تصرخ مفاجأة من مداعبتها لوجهه، سأل كارلين بحيرة: “ما هذا، سيدتي؟”  

“لا، ظننت أن يدي لن تتحركا، لأن هذا ليس حقيقيًا.”  

“؟”  

“لا، لكن كيف وصلت إلى هنا؟”  

أشار كارلين إلى النافذة المفتوحة على مصراعيها، والستائر ترفرف، كانت مرتفعة جدًا بحيث لا يمكن لـ”إنسان” أن يمر منها.  

“لم تعد تحاول تقليد البشر حتي.”  

بينما تمتمت لاتيل لنفسها، جلس كارلين على حافة السرير وسأل: “هل رأيتِ كابوسًا؟”  

لقد اختفى كما شاء، ولم يعد رغم كل ما قالته عن أنها لا تخافه مرات عديدة، ومع ذلك، كان سلوكه طبيعيًا، كما لو أنه رآها بالأمس ويراها اليوم.  

بعد تأمل تساهله للحظة، لم تجب لاتيل، بل أمسكت خديه مجددًا وتوسلت: “كارلين، دعني أصفعك مرة واحدة.”  

“!”  

كانت هناك أمور كثيرة أرادت مناقشتها عند لقائهما، لكنها لم تتذكرها الآن.  

في اللحظة التي أومأ فيها كارلين برأسه بطريقة غامضة، استيقظت لاتيل تمامًا من ذكريات الماضي، فأمسكت بعنقه وسحبته، ملصقة شفتيها بشفتيه.  

حتى مع أنفاسه، كان فمه باردًا، كما لو تمرر لسانها على جليد مثلج.  

عندما ضغط بيديه على خصر لاتيل، محتضنًا جسدها، شعرت ببرودة بديه عبر ثوب النوم الرقيق.  

أمسكت لاتيل وجهه بيديها وغمرت شفتيه وخدوده بالقبلات، مبتعدة عندما شعرت بانفعاله، مبتسمة برضا.  

“أرأيت؟ لم أعد أخافك.”