الحلقة عشرون.
في زاوية الممر المعتم، ظهر جسد منحني في العتمة، شعاع من ضوء القمر المتسلل عبر النافذة ألقى بظله على من كان جالسًا هناك، خصلات الشعر الأشقر الطويلة تألّقت بوميض فضي خافت.
شعر ريهارت وكأن تأثير الخمر قد تلاشى من رأسه دفعة واحدة.
“لي… لي؟”
نطق باسمها كما لو كان مسحورًا، عندها، ارتجف الشعر الأشقر الذي كان يغطي الجسد المنكمش، وارتفع رأس صاحبته ببطء.
“آه…”
كانت ليليتا جالسة هناك بملابس نومها، وقد اتخذت لنفسها مكانًا في الممر، وملامحها كانت شاردة على نحو غريب، تمتمت بخفوت، كأنها ما زالت في عالم آخر:
“… آه… إنه ريهارت أوبّا، أليس كذلك…”
تجمد ريهارت في مكانه عند سماعه تلك الكلمة… “أوبّا”… لقب لم يسمعه منها منذ عشر سنوات، ثم هرع إليها، يركض بخطوات متعثرة.
“لي، لي… ماذا… ماذا تفعلين هنا؟”
“فقط…”
أسندت ليليتا جبهتها إلى ركبتها المثنية وسندت رأسها بذراعها، خرج صوتها مشوشًا كأنّه أنين.
“لا شيء… سأعود إلى غرفتي قريبًا، لذا… اذهب أنت أيضًا، نم.”
وضغطت بيدها على رأسها الذي ينبض بألم خافت، ثم تنهدت تنهيدة ثقيلة.
لكن هذه المرة، ريهارت رأى بوضوح ما لم يستطع تجاهله.
وجه شقيقته كان شاحبًا، كأن الحياة انسحبت منه.
تدفقت إلى ذاكرته تلك الليلة التي لا ينساها، الليلة التي ندم عليها آلاف المرات.
الليلة التي صلى فيها مرارًا وتكرارًا، لو فقط يستطيع العودة بالزمن، لكان على استعداد لفعل أي شيء.
جلس القرفصاء أمامها بهدوء.
كانت تلك الليلة أيضًا، هادئة وصافية كهذه ضوء القمر والنجوم المتسلل عبر إطار النافذة ملأ المكان حيث جلس الأخ وأخته في الممر، وجهاً لوجه.
همس بصوت خافت:
“هل رأيتِ كابوسًا؟”
لم تجب ليليتا.
“هل… رأيتِ شيئًا غريبًا في الحلم؟”
أدرك ريهارت أن صوته كان يرتجف، ينكسر بشكل فاضح.
لكن لم يكن بوسعه التوقف عن الحديث.
“ليلي… أنا…”
رفعت ليليتا رأسها الذي كانت تخفيه، نظر إليها ريهارت بعينين تملؤهما الانكسار، وجهه تشوه من فرط الألم.
“هل… هل يمكنني البقاء إلى جانبك… حتى تنامي؟”
عيناه البنفسجيتان، نفس عينيها، امتلأتا بالدموع، رغم أنه حاول جاهدًا أن يكبحها، إلا أن دمعة أفلتت، وسقطت بصمت.
ريهارت، باكيًا، سألها:
“ليلي… هل يمكنني البقاء معك حتى تنامي من جديد؟”
عندها فقط، أدركت ليليتا ما الذي تعنيه هذه اللحظة.
لم يكن بجانبها الآن حليف يفهمها، أو صديقة تشاركها الخوف، أو أحد تثق به.
لكن، بدلًا من ذلك…
عاد إليها ذلك الشيء الذي نسيته منذ زمن طويل: العائلة.
ذاك الإحساس الطفولي بالأمان، عندما تحب دون خوف وتُحَب دون شروط.
“ليلي” الصغيرة.
فتحت فمها لتتحدث، ثم أغلقته، أنزلت عينيها، ثم رفعتهما ببطء، وأخيرًا همست:
“أتعلم، ريهارت أوبّا…”
“نعم؟”
“رأيت كابوسًا مرعبًا…”
“نعم…”
“هل ستبقى بجانبي هذه المرة؟”
انهار ريهارت، يضمها بكل كيانه، بصدر يهتز من البكاء.
“نعم… نعم، سأكون هنا… سأبقى بجانبك يا ليلي… أنا آسف… آسف جدًا… شكرًا لك… هذه المرة، سأحميك… هذه المرة… بالتأكيد…”
احتضنها بذراعين ترتجفان، بكل ما أوتي من قوة، صوته المختنق بالبكاء ارتجّ في أذنها.
أغمضت ليليتا عينيها واتكأت على صدر أخيها، شاعرة وكأنها عادت إلى طفولتها، حين كانت مجرد طفلة صغيرة تُحمى من كل شيء.
آه… هذا ليس ذاك المكان.
هذا… منزلنا.
عندها فقط، توقفت أصوات الانفجارات التي كانت تمزق عقلها.
***
حين فتحت ليلتا عينيها صباحًا، كان أول ما شعرت به هو رائحة الخمر المختلطة برائحة نتنة.
بجانب سريرها، كان هناك رجل ذو شعر أحمر، غارق في نومه وهو يمسك بيديها بكلتا يديه كما لو أنه يتمسك بحبل نجاة.
حدقت طويلًا في يديه اللتين تقبضان على يدها كما لو أنها حياته، ثم جلست ببطء.
مالت بيدها الحرة، كما لو أنها ستربّت على رأسه، لكنها ابتسمت فجأة، وبخفة مشاكسة، أمسكت بأنفه بقوة.
“كوخ!”
اختنق ريهارت واستفاق فجأة، متلمسًا وجهه.
سحبت ليليتا يدها منه وهي تزم شفتيها وتقول بازدراء:
“ريهارت أوبّا.”
“هـ، هاه؟”
“تنبعث منك رائحة كريهة.”
“… هااه؟”
نظر إلى نفسه، مذهولًا من منظره، أما ليليتا، فوضعت إصبعين على أنفها بتمثيل مبالغ فيه.
“كم شربت من الخمر، بالضبط؟ ثم لم تستحم حتى، أليس كذلك؟”
“أه… آه، يعني، ذاك…”
“مقزز، ومخجل.”
“ريهارت أوبّا الذي كنت أعرفه لم يكن هكذا، كان نظيفًا وأنيقًا، أما الآن… مقرف ومُخزٍ، لا تقل للناس إنك أخي، رجاءً.”
“هيه! ليلي!، أنتِ!”
قفز ريهارت واقفًا، وجهه يحمر بغضب.
“أنتِ… هل تعلمين لمن كنت في هذا الحال…! فقط انتظري، سأستحم فورًا وأعود!”
وهرع خارج الغرفة بكل حماسة.
ابتسمت ليليتا، ثم وجهت نظراتها إلى النافذة.
كانت الطيور تزقزق، وأشعة الشمس تتلألأ صباح منعش وجديد قد بدأ.
***
“ريهارت أوبّا، يقولون إنك لا تفعل شيئًا غير شرب الخمر، صح؟”
“من قال هذا؟ من؟! أنا فارس مقدس، سيف الشاه، حامي شاديّا!”
“وهل يُسمح للسكارى بأن يكونوا فرسانًا مقدسين؟ ألست مطرودًا بسبب الخمر؟”
“أه، لا، لا! هذا كله سوء تفاهم! أنا لست بذلك السوء!”
“لو كان مجرد سوء تفاهم، لما فاحت منك رائحة الخمر بهذا الشكل منذ الصباح، ريهارت أوبّا الذي كنت أعرفه لم يكن هكذا، هل أنت مزيف؟ أين الحقيقي؟”
“آه، يا فتاة، قلت لك إنني آسف لأنني قلت إنك مزيفة! وأنتِ أيضًا ظننتِ نفسكِ مزيفة أليس كذلك؟ بحق السماء، أقسم أنني لن ألمس الكحول مجددًا!”
الأصوات المتداخلة، المزاح العائلي، والسخرية اللطيفة كانت تملأ أرجاء غرفة الطعام.
ليونهارت وقف عند مدخل الغرفة، يشعر وكأنه يحلم، بجانبه، كانت الدوقة تتأمل المشهد بذهول.
رأى الأخوان الصغيران واقفين هناك، يتحدثان بلا حذر، يضحكان بلا خوف.
ليليتا كانت تبتسم وسط ضوء الشمس، وريهارت كان قد تأنق ووقف بانحناءة خفيفة.
“صباح الخير، أمي.”
تركت الدوقة ذراع ابنها الأكبر، وتقدّمت بخطوات بطيئة نحوهم، وكلما اقتربت، تلاشى منها مظهر المريضة، وعادت لتكون السيدة النبيلة الأنيقة التي كانتها قبل عشر سنوات.
“أخيرًا أراك مرتبًا، ريهارت.”
“أمي، لا تقولي هذا أمام ليلي، ستفهمك خطأ.”
“أوه، وما الخطأ في الحقيقة؟”
قالت ذلك ممازحة، ثم اتجهت إلى المقعد الفارغ بجوار ليليتا وجلست، مدت يدها المرتجفة نحو ابنتها وسألتها بصوت متهدج:
“هل نِمتِ جيدًا، ليلي؟”
“نعم.”
وضعت ليليتا يدها على يد والدتها المرتعشة برفق، وأجابت بابتسامة دافئة:
“وأنتِ، ماما؟ هل نِمتِ جيدًا؟”
“… نمتُ بعمق… لأول مرة منذ زمن طويل.”
كاد ليونهارت يبكي من المشهد العادي والبسيط هذا، عضّ على شفته حتى لا تنهار دموعه.
ولاحظه ريهارت، فبادره مازحًا:
“هيه، انظروا إليه، الأخ الكبير يبكي.”
“أنا لا أبكي، ريهارت.”
“ما هذا التماسك الزائف؟ ابكِ براحتك! أنا أصلاً بكيت كالطفل أمام ليلي الليلة الماضية.”
“ليلة أمس؟ لا تقل إنك ذهبت إليها وأنت في حالة الثمالة تلك؟”
اقترب ليونهارت منه بنظرة مرعبة، فارتعب ريهارت ورفع يديه مستسلمًا.
“كان خطأ، أقسم! لم أكن أقصد! لم أدر كيف حصل هذا! لن أشرب مجددًا!”
“أنت؟ لا تشرب؟ وهل تتوقع مني أن أصدق ذلك؟”
“هذه المرة أنا جاد، ليلي عادت، أليس كذلك؟”
ضحك ورفع يديه، وهو يضيف بثقة:
“لا تقلق، أخي، لا حاجة لي بالكحول بعد الآن، لم أعد بحاجة إلى الهروب.”
حدّق فيه ليونهارت ، في ملامحه التي طالما ظللها الحزن، الآن، تلك الظلال قد تلاشت.
مهما حصل في الليلة الماضية، يبدو أن ليليتا قد غيّرته.
تمامًا كما كانت تهدّئ ريهارت الصغير حين ينعزل في الحديقة، وكما كانت تُصلح الخلافات بين الوالدين بكلمات بسيطة.
كانت تفعل ما لا يستطيع هو فعله.
إنها معجزة الطفلة الصغرى، بعد غياب طويل.
نعم… هذه هي عائلتنا كما كانت دومًا. لا تكتمل إلا بوجود ليلي.
ابتسم، وسحب الكرسي ليجلس، ثم قال بهدوء:
“أصدقك، ريهارت.”
“حقًا؟! شكرًا، أخي!”
ثم التفت إلى ليليتا بابتسامة مختلفة تمامًا، أكثر رقة ودفئًا:
“صباح الخير، ليلي.”
“صباح النور، ليون أوبّا.”
وهكذا… بدأت وجبة الفطور بهدوء وسلام.
في قصر البتولا، عاد الدفء بعد عشر سنوات.
“ليلي، جربي هذا أيضًا، تحبينه، أليس كذلك؟”
“عزيزتي، هذه التفاحة، المفضلة لديك.”
“ليلي، هل أعجبك الطعام؟”
رغم أنهم كانوا ثلاثة، إلا أن اهتمامهم كلهم كان منصبًا على شيء واحد: أن تأكل ليليتا جيدًا.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 20"