6
بعد ذلك.
ظلّت إيلودي تُقنِع إيزابيل لوقتٍ طويل.
أصغت إيزابيل باهتمامٍ شديد إلى شرح الآنسة سلفًا، وفي النهاية وافقت على أنّ ذلك الاقتراح فعّالٌ للغاية.
غير أنّ المشكلة تكمن في أنّ دور إيلودي في ذلك الاقتراح بالغ الأهميّة.
فإن حدث خطأ واحد فحسب، قد تهوي سمعة إيلودي إلى الحضيض…….
‘لِماذا تُصِرّ آنستي على خلع نعليها والنزول لمساعدتي إلى هذا الحد؟’
تقلّص ما بين حاجبي إيزابيل ودخلت في تفكيرٍ عميق.
إيلودي فون لافانتيس.
سِلفتها، والنبيلة الوحيدة في الإمبراطورية.
وبرغم أنّها لم تكن تُسيء إلى إيزابيل علنًا كما تفعل ماريسا، إلّا أنّ إيزابيل كانت تجد مواجهة إيلودي أصعب بكثير.
فقد وُلِدت إيلودي في طبقةٍ أرستقراطية رفيعة، ولم تُعامل إيزابيل يومًا ولو لمرةٍ واحدة كشخصٍ مساوٍ لها.
ورغم أنّ إيزابيل نفسها منحدرة من أسرةٍ عريقة من طبقة الكونت، فإنّ إيلودي حملت اعتزازًا بلا حدود بنسبها بوصفها “الأميرة الوحيدة للإمبراطورية”.
ولهذا كانت إيلودي تنظر إلى الجميع من علٍ كما لو كان ذلك أمرًا طبيعيًا، وكانت أكثر حدّة حين يتعلّق الأمر بسِلفتها المهمَلة داخل العائلة.
وكان قلب إيزابيل ينقبض في كلّ مرّة تواجه فيها تلك النظرة التي تُهينها كما لو كانت تلك الإهانة حقًا مكتسبًا…….
‘صحيح، لا ينبغي أن أتوقع الكثير.’
وفي اللحظة نفسها، هدأت نظرات إيزابيل.
فهي في النهاية “تلك” إيلودي.
ربما يكون الأمر مجرّد نزوةٍ عابرة.
أو ربما لسببٍ ما لم تكن ماريسا تُعجبها، فأرادت استخدام إيزابيل ذريعة لتعطيلها.
‘عليّ أن أعود إلى عملي.’
أدارت إيزابيل ظهرها لتلك التمنيات الصغيرة المنبعثة داخلها، وتجاهلتها بصعوبة.
وأمسكت القلم الريشي من جديد، وبدأت تغرق في العمل على المستندات.
لكنّها لم تستطع أبدًا كبح خفقات قلبها التي راحت تضرب بإرادةٍ خاصة بها…….
مرّ الوقت سريعًا، وحلّ أخيرًا يوم حفلة الحديقة.
وبفضل الأيام الطويلة التي قضتها إيزابيل في الإعداد، امتلأت حديقة دوقية لابانتيس بنفَس الربيع الأخّاذ.
وكان الأبرز من بين كل شيء هو وفرة أزهار الربيع المتفتّحة في كل زاوية من الحديقة.
ألوانها المتناسقة بدقّة جعلت منظرها بالغ الجمال، حتى بدا المكان أشبه بلوحةٍ رسمها فنان قضى وقتًا طويلًا في إتقان كل تفصيلة.
إلى جانب ذلك وُضِعت مقاعد مريحة، وأطقم مائدة أنيقة، وطُرح الطعام والشراب بوفرة من دون أي تقصير.
لقد كانت حفلة حديقة لا تشوبها شائبة.
غير أنّ ماريسا كانت في تلك الحديقة ذاتها، تتحدّث بنبرة حادّة وهي تلوك السمعة الطيّبة لإيزابيل.
“منذ اللحظة التي خرجتْ فيها لتقدّم نفسها بصفتها مستضيفة الحفل وأنا أعرف أنّ الأمر لن يمرّ بسلام. انظرن إلى هذه الزينة مثلًا.”
لمست ماريسا بأصبعها الزينة الطبيعية الموضوعة على الطاولة، ثم أطلقت ضحكة ساخرة.
“ألا تبدو ريفية إلى حدٍّ يبعث على الشفقة؟”
“آه…….”
تبادلت السيدات الجالسات معها النظرات في ارتباك.
فمن حيث الموضوعية، كانت حفلة اليوم ناجحة جدًا.
لكن ماريسا كانت تتجاهل ذلك كلّه بلا تردّد.
“في النهاية، المرء لا يستطيع إخفاء جذوره. ذاك الذوق الهابط يظهر من تلقاء نفسه.”
والحقيقة أنّ ماريسا لم تكن تملك أي حق في قول ذلك.
فهي ابنة عائلة بارون، بينما تنحدر إيزابيل من أسرة كونت عريقة.
حتى إنّ المدعوين في الحفلة كانوا مزيجًا من نبلاء رفيعي المكانة ونبلاء أقل منزلة.
والحديث باستخفاف عن الأصول في مثل هذا الموقف لم يكن إهانة لإيزابيل فقط، بل لجميع الحاضرين من الطبقات الأدنى أيضًا.
فتلبّدت وجوه السيّدات بتعابير مربكة.
لكن ماريسا واصلت، بل زادت في حدّتها.
“وفوق كل ذلك، تخيّلن أنّها صرفت كل نفقات الحفل من دون أن تستشيرني حتى.”
أصدرت ماريسا صوتًا مستنكِرًا وهي تنقر لسانها.
“أليس هذا تجاهلًا صريحًا لكبيرة العائلة؟”
“أوه، صحيح؟”
“لا بدّ أنّ الأمر أزعجكِ كثيرًا.”
رغم أنّ السيدات وافقنها شفهيًا، فقد ظهر التوتر في تعابير وجوههن.
فمهما كانت ماريسا الأم بالتبنّي للدوق الحالي وكبيرة العائلة اسمًا، إلا أنّ كلامها كان يتجاوز الحدود.
فهي ليست ربّة البيت الرسمية كي تحتاج الأسرة إلى موافقتها على الميزانية.
والأهم أنّ الشؤون الداخلية مسؤولية زوجة الدوق، أي إنّها من صميم حقوق إيزابيل.
“إيزابيل لا تصلح أن تكون ربّة بيت الدوقية. ينقصها الكثير.”
“هكذا إذًا.”
“صدقًا، لقد هدّني التعب من محاولة تغطية نقائصها.”
تابعت ماريسا بنبرة متضايقة.
“ومن حسن حظّها أنّني أتحمّلها. ومع ذلك، لا تعرف قيمة الجميل.”
ثم ارتشفت من فنجانها، وأردفت بفخر مصطنع:
“وفوق ذلك، ألم تلاحظن أنّها حتى الآن لم تقم بأبسط واجبات ربّة البيت؟”
“أبسط واجباتها؟”
“نعم. إنتاج وريث للدوقية.”
شهقت السيّدات بخفوت.
وماريسا لم تتوقف.
“لا أدري متى تخطّط لإنجاب طفل. لكنّ الأرض التي لا تنتج… لا يمكن إصلاحها.”
كانت الإهانة صريحة، فبادل السيّدات بعضهن نظرات حذرة.
والحقيقة أنّ ماريسا نفسها لم تُنجب وريثًا للدوقية.
وفي تلك اللحظة.
“آه، ما ذاك؟”
اتّسعت عينا إحدى السيدات بدهشة.
فقد ظهرت في الطرف الآخر امرأة شقراء جميلة بشعر مرفوع بإتقان.
لكن الأمر كان غريبًا.
إذ إنّ رمز اللون المتّفق عليه اليوم هو الأصفر.
وقد ارتدى الجميع ذلك اللون بالفعل.
لكنّ إيزابيل……
“إنّها… ترتدي فستانًا أخضر؟”
قالتها السيدة الأولى بنبرة متوترة.
كانت إيزابيل ترتدي فستانًا أخضر داكنًا يُشبه تمامًا لون عينيها.
وقد بدا مظهرها كعذراء غابة خرجت لتوّها من بين الأشجار.
لكن…
“يا إلهي، ألم يُحدَّد لون الفساتين اليوم؟”
“كيف يمكن للمضيفة نفسها أن تتجاهل ذلك؟”
“حقًا… هذا غير لائق.”
همست السيّدات بصوتٍ منخفض.
وهو تمامًا ما كانت ماريسا تنتظره.
‘أحسنتِ يا إيزابيل.’
ارتفعت زاوية شفتي ماريسا في رضًا، وأشارت نحو إيزابيل.
“انظرن إليها. حتى لو كانت المضيفة، ألا يبدو واضحًا أنّها فقط تريد لفت الأنظار؟”
لكن في تلك اللحظة.
تعالت همسات أخرى.
“انتظرن… ألا تكون تلك… لابانتيس الفتاة النبيلة؟”
“لكن… الفستان الذي ترتديه…”
توسّعت عينا ماريسا أيضًا.
فقد كانت قد أبلغت إيلودي مسبقًا بموضوع لون الفستان من خلال جودي.
فلماذا إذًا…
‘لماذا تبدو إيلودي بتلك الهيئة أيضًا؟!’
تركّزت الأنظار على إيلودي.
وبرغم ذلك، تقدّمت بخطوات ثابتة لا تهتز.
وامتدّ فستانها الفضي الذي اختارته بعناية لأجل هذا اليوم بسلاسة تحت قدميها.
وكانت الأقراط الصغيرة من الألماس تتلألأ كالنجوم على أذنيها.
ومن رأسها حتى قدميها، لم يكن هناك أثرٌ واحد للّون الأصفر الذي كان يجب الالتزام به.
فراح المدعوون يتهامسون بينهم.
“لِمَ لم تلتزم كلتاهما باللون المتّفق عليه؟”
“حقًا… هل حدث شيء ما؟”
فلو كانت إيزابيل وحدها هي التي خالفت اللون، لكان بالإمكان فهم الأمر كما قالت ماريسا: أنّها فقط تودّ لفت الأنظار.
لكنّ خروج كلًا من سيّدتي الدوقية عن قاعدة اللون…
كان أمرًا يثير الريبة بالفعل.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"