كاثرين دي باسبور وُلدت كثاني أبناء بليز دي باسبور، كونت باسبور السابع عشر كانت ابنة الكونت من زوجته الثانية، التي تزوجها بعد أن فقد زوجته الأولى في حادث عربة.
أما شقيقها الوحيد، فقد كان الابن الذي أنجبته الزوجة الأولى الراحلة لكن كاثرين لم تعتبر نيكولا دي باسبور يومًا أخًا لها، ليس فقط لأنه كان أخاها غير الشقيق، بل لأن والدته، الزوجة الأولى للكونت، كانت من أصول وضيعة، فقد كانت كورتِزانًا.
القصة التي هزّت أوساط النبلاء في مملكة ليان تتعلق بحب الكونت الشاب الجارف لريان آنفيل، الممثلة المسرحية البارزة في مسرح توارد، والتي كانت أشهر كورتزان في عصرها رغم اعتراض المجتمع النبيل وازدرائه، تزوجها وجعلها كونتيسة، ليكون زواجهما واحدًا من أكبر الفضائح في تاريخ المملكة.
لكن هذا الحب المشتعل لم يدم طويلاً، إذ توفيت ريان آنفيل في حادث بعد عامين فقط من الزواج، ليعود الكونت ويتزوج نبيلة من طبقة مرموقة، وفقًا لما اقتضته الحسابات السياسية والمصالح العائلية.
غير أن بليز دي باسبور لم ينسَ زوجته الأولى قط، حتى بعد زواجه الثاني وحين بلغ نيكولا دي باسبور الخامسة عشرة، أعلن والده أنه وريثه الرسمي دون أي تردد أثار هذا القرار ضجة جديدة في الأوساط النبيلة، وكان بمثابة صاعقة نزلت على كاثرين ذات الأحد عشر عامًا، التي كانت تؤمن يقينًا بأن اللقب سيؤول إليها، بوصفها الابنة الشرعية من زواج نبيل بامرأة نبيلة غير أن تلك الثقة تحطمت في لحظة واحدة.
لكن كاثرين دي باسبور لم تكن ممن يستسلمون بسهولة منذ صغرها، تعلمت أن تنال ما تريده، وتحقق ما تطمح إليه، وترد أي فضل أو ضير مضاعفًا لذا، رغم قضائها سنوات في الظل تحت حكم والدها وأخيها غير الشقيق، لم تتوقف عن السعي.
التحقت بالأكاديمية العسكرية، حيث يستطيع النبلاء، عند تخرجهم بامتياز، الحصول على لقب جديد ظن الكثيرون أنها لجأت لهذا الخيار لتعويض خسارتها، وبالفعل، بعد تخرجها، حصلت على لقب الفروسية وتم تعيينها ملازمًا في الحرس الملكي لولي العهد لكن كاثرين لم تكن تنوي التوقف عند هذا الحد.
في ذلك العام، لم يكن قد انقضى بعد حين اندلع حريق في القصر الشتوي لعائلة باسبور، حيث كان الكونت ووريثه يقضيان إجازتهما.
أسفر الحريق عن موت بليز ونيكولا، بينما كانت كاثرين – التي رُفضت إجازتها بسبب رتبتها العسكرية – والكونتيسة وحدهما من بقيتا على قيد الحياة وهكذا، أصبحت كاثرين دي باسبور الكونتة الثامنة عشرة.
لكن سرعان ما انتشرت الشائعات، فمنذ اللحظة التي تولّت فيها اللقب، بدأ الهمس يدور حول احتمال تورطها في الحريق.
لم تكن كاثرين شخصًا مهملًا، لكنها لم تكن حذرة بما يكفي كان هناك دليل، وفي أحد الأيام، وُضع أمامها مباشرةً، على يد شخص لم يكن سوى ولي العهد، الأمير هنري.
“هل ستدينني، إذن؟” سألت، محاولة كتم ارتباكها.
فضحك الأمير هنري، ضحكته الواثقة المعتادة، قبل أن يجيب:
“مستحيل.”
كان معروفًا عنه أنه لا يلقي بالكلام جزافًا كاثرين، وإن شعرت بالارتياح، لم تخفض حذرها، بينما واصل ولي العهد حديثه:
“لقد نفذتِ العدالة بحق والدك الذي خان شرف النبلاء، وبحق ذاك الدخيل الذي التصق به ولم تفعلي ذلك إلا لاستعادة حقك الطبيعي وأنا، يا كونتيسة أُقدّر شجاعتك وقدرتك العالية جدًا.”
استعادة الحق.
شجاعة وقدرة عالية.
كلمات لم يسبق لأحد أن قالها لها بهذه الصراحة من قبل، ومع ذلك، نطق بها ولي العهد وكأنها من المسلّمات ثم مدّ يده إليها، ولم يكن بوسعها أن تنسى ذلك أبدًا.
“ كونتيسة ، ألا تصبحين أحد إتباعي ”
في ذلك اليوم، وأمام ولي العهد الذي وقف في مواجهة غروب الشمس، أقسمت كاثرين دي باسبور له بالولاء الأبدي.
الأبدية نعم، الأبدية.
لكن ثقل الأبدية لا يتلاشى فجأة لمجرد أن أحد الطرفين مات ميتةً عبثية.
واليوم، عادت كاثرين دي باسبور من ذكرياتها الحنينية إلى حاضرها الفوضوي كان العالم في حالة خراب جمهوريون وضيعون أطاحوا بالإمبراطور وأعلنوا الجمهورية، بل وذهبوا إلى حد إعدام العائلة الإمبراطورية بوحشية في برجهم الصغير لا تزال تذكر بوضوح تلك الصورة في الصفحة الأولى لجريدة “لا فينيت”، تلك الصورة التي جعلتها تصرّ على أسنانها من الغضب.
لن تغفر لهم لن تسامحهم أبدًا.
أولئك الجمهوريون المتعجرفون سيدفعون الثمن غاليًا.
سألها البعض: “وماذا بعد النصر؟”
لكن كاثرين لم تهتم الماضي المنهار أمامها كان أهم من المستقبل المجهول مقارنةً بعهد الولاء الذي قطعته، ما أهمية ما سيحدث لاحقًا؟ لم يكن إخلاصها شيئًا واهنًا يمكن للزمن أو الظروف أن يثنياه عن مساره.
وقبل ساعات، تلقت مكالمة طال انتظارها.
“جلالته يوافق،” أخبرها الصوت على الطرف الآخر “وسيدعم بكل ما أوتي من قوة إعادة النظام والعدالة إلى العالم بالإضافة إلى ذلك…”
لم يكن الرد مفاجئًا، لكن الجزء الأخير من الرسالة لم يكن متوقعًا.
بالطبع، لم يكن الخطر محدقًا بها وحدها.
⚜ ⚜ ⚜
لم يؤدِ اكتشاف ليونارد للحقيقة إلى استعادة علاقته مع أنيس بشكل درامي كانت النتيجة الوحيدة لانقشاع سوء الفهم هي إصلاح العلاقة بصعوبة قبل أن تصل إلى أسوأ مراحلها، لتعود إلى ما كانت عليه قبل مقتل العائلة الإمبراطورية.
ولكن، لم يكن ذلك يعني العودة إلى اللحظة التي التقيا فيها لأول مرة في جنازة مارسيل بلمارتييه، ولا إلى اليوم الذي ذهب فيه ليونارد لأول مرة للبحث عن أنيس، ولا حتى إلى تلك السنوات العشر الطويلة التي أمضياها معًا.
العودة إلى ما قبل مقتل العائلة الإمبراطورية تعني العودة إلى اللحظة التي كانت فيها أنيس بلمارتييه ثورية جمهورية، وكان ليونارد أنطوان دي شارلوا هو الأمير الثاني الطامح إلى العرش تلك النقطة التي أصبح فيها ليونارد يسير نحو العرش ولم يعد يزورها سرًا، بينما صعدت أنيس إلى منصة خطابات الجمهوريين.
عادت علاقتهما إلى نقطة وسط، لا إلى نقطة البداية.
نقطة وسط لا يمكن التوفيق بينها، لأن أحدهما كان ثوريًا جمهوريًا، والآخر أميرًا.
— “سيد سيرديو، سأقوم بالتنظيف، لذا هل يمكنك تحضير العشاء مع مارسيل؟”
— “لا، آنسة بلمارتييه أفضّل أن تبقي جالسة على السرير وألا تتحركي على الإطلاق.”
— “أجل، آنسة سمعت أنك ما زلت بحاجة إلى الراحة وفقًا لما قاله الأطباء في المستشفى لا تقلقي، لن يكون العشاء سيئًا إلى درجة لا تُحتمل.”
لكن في المقابل، وللمرة الأولى، أصبح بإمكانهما اتخاذ خطوة أولى كجيران حقيقيين، وذلك فقط لأن أنيس لم تعد تعتبر نفسها ثورية جمهورية، ولم يعد بالإمكان أن يُدعى ليونارد أميرًا.
جلست أن يس على السرير وهي تراقب ليونارد أثناء محاولاته غير المتقنة للتنظيف، تقضم أظافرها بقلق.
النظافة هي الأولوية الأولى والثانية في هذا المكان، الذي أغلق مؤقتًا كمستشفى لكنه سيعود للعمل في المستقبل ومع ذلك، لم يكن ليونارد بارعًا في هذا الأمر على الإطلاق؛ كان يثير الغبار ويسعل، ويفشل في إعادة الأشياء إلى أماكنها الصحيحة، بل وكان على وشك تحطيم بعض الأواني وزجاجات الأدوية، كما كاد يسقط المزهرية على الطاولة—لحسن الحظ، أمسك بها في اللحظة الأخيرة—بل حتى كسر المكنسة أثناء الكنس لم يكن بإمكانها الجلوس والاسترخاء ببساطة.
أما مارسيل، الذي كان يطبخ في المطبخ لكنه يطل بين الحين والآخر ليراقب المشهد، فقد كان يضحك بسخرية، مما زاد من استيائها لم تكن تفهم كيف انتهى بها الأمر في هذا الموقف الغريب والمريح في الوقت ذاته، وهو الأول من نوعه منذ وصولها إلى دينان.
كل هذا بدأ بسبب اقتراح ماري، التي أصرت على إقامة حفلة احتفال بعودة “الطبيبه ” بناءً على طلبها، قرر الأشقاء بلانك و”ليو سيرديو” تناول العشاء معًا في منزل أنيس، الذي تم تحويله إلى مستشفى مؤقتًا.
في البداية، رفض ليونارد قائلًا:
— “هل من الضروري أن أكون هناك؟”
لكن ماري أصرت قائلة:
— “أعتقد أن ذلك سيسعد الطبيبة.”
وبما أن ليونارد لم يكن يستطيع رفض طلبات ماري، التي كانت شديدة التعلق بالطبيبة فقد انضم إليهم في النهاية.
وهكذا وجد نفسه في هذا الموقف الغريب.
كسره للمكنسة منح مارسيل فرصة مثالية للضحك بصوت عالٍ، مما أزعجه، ومع ذلك، شعر بالراحة.
كان لا يزال لديه الكثير من الأسئلة التي أراد طرحها على أنييس، والكثير من الإجابات التي كان بحاجة إلى سماعها لكن إن كان بإمكانهم الاستمرار على هذا النحو، فقد شعر للحظة أنه لا بأس في تأجيل تلك الأسئلة، وربما نسيانها تمامًا الحياة البسيطة في دينان—حيث كان يساعد الآخرين دون التفكير في شيء آخر، ويقضي أمسيات هادئة كهذه—لم تكن سيئة كما تخيل.
ظل الشعور بالضياع يرافقه، لكنه وجد نفسه يفكر بأن الطريق الذي ضلّه قاده إلى مشهد جميل كهذا.
— “ الطبيبة … أخي…”
ما إن خطرت هذه الفكرة في ذهنه، حتى قاطعه صوت ماري المرتجف، وكأن كل شيء سينهار مرة أخرى.
نظر الجميع نحو الباب بذهول، حيث كانت ماري واقفة وهي تنزف من ركبتها.
— “ماري!”
كان ليونارد أول من ألقى الخرقة جانبًا وركض نحوها، يتفحصها بقلق بدا أنها سقطت أثناء اللعب في الحديقة، ولم يكن هناك جروح خطيرة أخرى نهضت أنيس بسرعة لتحضر صندوق الإسعافات الأولية، بينما ركض مارسيل من المطبخ باتجاههم.
— “هل سقطتِ أثناء اللعب؟” سألتها أنيس.
أومأت ماري برأسها والدموع تملأ عينيها عندها، تنهد ليونارد بارتياح وجلس على الكرسي، بينما بدأت أنيس بتنظيف الجرح ووضع المطهر عليه.
كان بإمكانهم سماع صوت شهقات ماري الصغيرة وهي تراقب العملية.
— “عندما جرحت رأسها في المرة السابقة، لم تبكِ أبدًا يبدو أنها لم تكن تشعر بالألم حينها لأنها لم ترَ الجرح بنفسها.”
ابتسمت أنييس، وهي تكتم ضحكتها، وأكملت وضع الضمادة بحذر على ركبة ماري.
“ليت هذا هو النوع الوحيد من الجروح التي أراها في حياتي.”
خطرت لها هذه الفكرة للحظة، لكنها سرعان ما صُدمت عندما أدركت أنها فكرت في مستقبلها، وكأنها تتوقع البقاء على قيد الحياة كان هذا الإدراك غريبًا عليها، مما جعلها تطرف بعينيها عدة مرات، ثم فجأة، دون أن تدرك، عانقت ماري بقوة.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 27"