لا شيء يُضاهي متعة تذوق الحلوى في لحظات الفراغ القصيرة، حين تتبقى ثلاثون دقيقة فقط قبل أن تستأنف الحياة زخمها. وما يتربع على عرش تفضيلاتي هو…
“لا بد أنه الآيس كريم، أليس كذلك؟”
“جلالتكِ لا تزالين كما عرفتكِ. إن كان آيس كريمًا، فدعيني أتشرّف بتقديمه لكِ اليوم أيضًا.”
ارتسمت ابتسامة دافئة على ملامح جون، كأنه يستحضر ذكرى عزيزة من أيامنا القديمة، حين اشترينا الآيس كريم معًا من سوقٍ شعبيٍ متواضع.
اتجهنا نحو متجر آيس كريم قريب من موقع الحادث، خطواتنا تتردد على حجارة الشارع المرصوف. ما إن عبرنا عتبة الباب، حتى استقبلنا موظفٌ ضخم البنية بابتسامةٍ مشرقة كالشمس.
“أهلًا وسهلًا بكما!”
“إذًا… أي نكهة تختارين؟”
عند سؤال جون، ألقيتُ نظرةً متفحصةً على واجهة العرض. في أوعيةٍ مغمورةٍ بالثلج، تراصت النكهات بألوانٍ زاهية، كأنها لوحةٌ فنيةٌ تُغري الحواس وتُبهج الروح.
شعرتُ بلعابي يتدفق لرؤية تلك الكنوز المثلجة.
“أظن أن نكهة الليمون ستكون اختيارًا مثاليًا!”
“عجبًا! كنتُ متأكدًا أنكِ ستميلين إلى الفانيليا، كما اعتدتِ دائمًا.”
“من يدري؟ اليوم أشتهي انتعاش الليمون.”
ربما دفء الطقس الصيفي دفعني إلى شغفٍ بالطعم الحامض المنعش بدلًا من الحلاوة المألوفة. ابتسم جون بلطفٍ وطلب نكهتين: “واحدة فانيليا، وأخرى ليمون!”
ردد العامل الطلب بصوتٍ جهوري، ثم بدأ يكشط الآيس كريم بذراعيه المفتولتين، كأنما خُلق لهذا العمل بالذات. كل حركةٍ منه بدت كعرضٍ للقوة الممزوجة بالرشاقة.
“آه! يبدو أننا نفدنا من الملاعق. لحظةً من فضلكما…”
اندفع يبحث في الخزائن بنشاطٍ محموم، لكن الوقت طال قليلًا، وبدأ جون يبدي قلقًا خفيفًا، خشية أن تذوب المثلجات تحت وطأة شمس الظهيرة.
“هل انتهيت؟”
“أعتذر، سيدي. أنا جديد هنا. آه، ها هي!”
أخيرًا، عاد جون حاملًا الآيس كريم، وناولني كأس الليمون بنظرةٍ متسائلة.
“هل لاحظتِ شيئًا غريبًا؟”
“أراقب فقط.”
تذوقتُ قضمةً من آيس كريم الليمون، وما إن انفجرت نكهته الحامضة في فمي، حتى ارتسمت ابتسامةٌ عفوية على وجهي.
“إنه ساحرٌ حقًا!”
كانت النكهة كرقصةٍ منعشةٍ على لساني. لكن عينيّ ظلتا مثبتتين على الزقاق خارج المتجر.
“همم.”
سعل جون فجأة، ثم أشاح بنظره نحو النافذة، وقد بدا طرف أذنه متورّدًا، ربما من حرارة الجو أو من شيءٍ آخر. اقترب مني وهمس:
“هل تنتظرين عربة التموين؟”
“نعم، أريد التأكد إن كانت تمر في هذا التوقيت يوميًا.”
كنا في قلب شوارع نوروود النابضة، حيث تموج الأزقة بالمارة والعربات حتى في لحظات الهدوء. واصلتُ مراقبة الحركة خارج المتجر بعينٍ لا تفوتها التفاصيل.
ثم سألني جون:
“هل تعلمين شيئًا؟”
“ما هو؟”
“عندما تطاردين لغزًا، تتوهج عيناكِ ببريقٍ لا يُضاهى، كأنهما نجمان في سماءٍ صافية.”
“مستحيل…”
صحيحٌ أن فكّ الألغاز يُشعل فيّ شغفًا يفوق دروس الحكم الإمبراطورية، لكن… هل بلغتُ حدّ التألق؟ شعرتُ بحرجٍ خفيف، لكنني حاولتُ تجاهل إطرائه.
وفجأة، التفت جون نحو النافذة.
“ها قد وصلت العربة.”
كانت الساعة الثانية ظهرًا بالضبط.
توقفت عربة التموين في نفس موقع الحادث. راقبناها بصمتٍ مشدود. ترجّل شابٌ من العربة وبدأ يفتح صندوق الشحن الخلفي.
تابعته بعينٍ ثاقبة. بدأ ينقل الصناديق إلى مطعمٍ قريب.
“لا شيء مريب حتى الآن…”
ضيّقتُ عينيّ، أحلل كل حركةٍ بعناية.
في يوم الحادث، كانت العربة متوقفة هنا، تليها عربة الضحية، ثم سقط السائق من مقعده… وتجمّع الناس ليجدوه ميتًا.
القاتل ضرب رأسه واختفى كالظل. لكن وسط تلك الفوضى، أين ذهب السلاح؟ الجرح كان عميقًا، لا بد أن الأداة كانت ثقيلةً وقوية.
وبينما أنا غارقةٌ في التفكير، انطلق صوتٌ من المطبخ الخلفي للمتجر.
“بوك! اذهب لاستلام المكونات، وتخلّص من الثلج القديم أيضًا.”
“حاضر!”
رنّ جرس الباب، وخرج الموظف الضخم، بوك، حاملًا دلوًا ممتلئًا بالثلج.
في تلك اللحظة، اجتاحني شعورٌ غريزي، كومضةٍ كهربائية، دفعني لتحويل نظري من الزقاق إلى هذا الرجل.
سكب الثلج على الأرض أمام المتجر، ثم اتجه نحو العربة واستلم صندوقًا من الفاكهة.
“…!”
فجأة، تجمّعت خيوط اللغز في ذهني كأحجيةٍ اكتملت أخيرًا.
نقطة عمياء مُحكمة، عربةٌ تظهر في توقيتٍ دقيق، كتلٌ من الثلج في ذروة الصيف، وموظفٌ جديد بقوةٍ لا تُبررها وظيفته…
كل شيء أصبح واضحًا كالشمس.
“جون.”
“نعم، جلالتك؟”
“حان الوقت لنضيف لمسةً من القوة إلى تحقيقنا.”
“قوة؟ ضد من؟”
أشرتُ بإصبعي نحو بوك، الذي عاد يخطو نحو المتجر. اتسعت عينا جون بدهشة.
“لا تقصدين أن المشتبه به هو…”
“أنتَ قادرٌ على التعامل معه، أليس كذلك؟”
أجبتُ بابتسامةٍ واثقة تخفي خلفها شغف اللحظة.
بعد قليل – أمام زنزانة إدارة التحقيقات
وقفتُ إلى جانب جون، وابتسامةٌ ساخرة ترتسم على شفتيّ.
“ها نحن مجددًا أمام زنزانة.”
“يكفي أن جلالتكِ لم تُرمَ خلف القضبان هذه المرة.”
“وأنتَ كدتَ تُزجّ بدلًا عني.”
تبادلنا المزاح بمرحٍ خفيف، بينما كان الرجل داخل الزنزانة يزمجر غيظًا.
“تبًا لكما…”
كان بوك جالسًا، يداه موثوقتان، يحدّق بنا بعينين تلتهمان الغضب، ووجهه متورمٌ من آثار المواجهة.
قبل ساعات، فهم جون نواياي على الفور. تحرك بسرعة البرق، وسيطر على بوك بمهارةٍ عسكرية. قاوم بوك بشراسة، وظن صاحب المتجر أنها مشاجرة عشوائية، فاستدعى إدارة التحقيقات.
وعندما وصل ليستريد، كاد يعتقل الاثنين، حتى كشفتُ عن هويتي. صُعق المحقق، ونجا جون من الحجز، بينما بقي بوك خلف القضبان.
همس جون:
“عندما أمسكتُ به، شعرتُ أن حركاته ليست عادية. ليس مجرد موظفٍ عابر.”
“بالضبط. تلك العضلات لم تُبنَ من كشط الآيس كريم.”
ضحكتُ بسخرية، ورفعتُ حاجبي. زأر بوك غاضبًا:
“أنتم واهمون! تهينون رجلًا بريئًا!”
“احترم مقامك!” صرخ ليستريد، ثم انحنى أمامي بوقار. “جلالتك، غرفة التحقيق جاهزة. لكن… هل أنتِ واثقة أنه القاتل؟”
“واثقةٌ كالشمس في كبد السماء.”
أولًا: المشهد كان مُعدًا بعنايةٍ فائقة، لا يمتّ للصدفة بصلة.
ثانيًا: لم يُرَ سلاح الجريمة، ولم تُترك أية بقايا. لكن التوقيت يتطابق مع لحظة إلقاء الثلج.
كتلة ثلجٍ ضخمة تصلح كسلاحٍ مثالي: تصيب الهدف بدقة، ثم تذوب تحت شمس الظهيرة كأنها لم تكن.
وأخيرًا: بوك موظفٌ جديد، ربما وُظّف خصيصًا لهذه المهمة.
اقتيد بوك إلى غرفة التحقيق، فجلستُ مقابله، عيناي تلتقيان بعينيه بنظرةٍ لا تعرف التراجع.
“سيد بوك، لك الحق في الصمت والاستعانة بمحامٍ.”
حدّق بي كأنني أتحدث بلغةٍ من عالمٍ آخر. في هذا العالم، لا وجود لهذه الحقوق بعد، فالتعذيب لا يزال وسيلةً شائعةً لانتزاع الحقائق. سعلتُ بخفةٍ لأخفي الحرج، وتابعت:
“عندما توقفت عربة الضحية خلف عربة التموين، خرجتَ متظاهرًا باستلام الصناديق، أليس كذلك؟”
[صمت]
“ثم هاجمتَ السائق بكتلة ثلجٍ في النقطة العمياء.”
[صمت]
“وقبل أن ينتبه أحد، سرقتَ صندوقًا من العربة واختفيت.”
بدأ وجهه يتشنج، فواصلت:
“الناس ظنوا أنه صندوق طعامٍ عادي.”
[صمت]
“وهكذا، بدت الوفاة كحادثٍ طبيعي.”
“تبًا… تتحدثين وكأنكِ كنتِ تشاهدينني.”
أخيرًا، همس بنبرةٍ مكتومة بالغضب. ثم أردف:
“وإن كنتِ تعرفين كل شيء، فلماذا جئتِ بي إلى هنا؟”
“لأنني أريد الحقيقة. ما الذي كان في ذلك الصندوق؟ وأين هو الآن؟”
ساد صمتٌ ثقيل، ثم… فتح بوك فمه ببطء، كأن الحقيقة تكافح لتجد طريقها إلى النور.
✼════ ∘ ❃ ° ✼ ° ❃ ∘ ════✼
ترجمة : ستيفاني
انستا : Salmaessam_3
واتباد : Viminve
✼════ ∘ ❃ ° ✼ ° ❃ ∘ ════✼
التعليقات على الفصل "132 || القصة الجانبية⁵"