الملكة المثاليّة وسكرتيرها - 1
الفصل 1: الملكة غير المثاليّة
ـــ بالإضافة إلى الملكة، يمكن للملك أن يتّخذ محظيّة. غالبًا ما تكون المحظيّة من عامة الشعب، لكنها قد تكون أيضًا سيّدة أو نبيلة أقل من رتبة الفيكونتيسة…
“هاه… لا يعجبني هذا.”
تطاير شعر لينوا العاجيّ الناعم بينما كانت تهزّ رأسها. أغلقت الكتاب الذي كانت مُنغمِسةً فيه، فأحدث صوت ارتطامٍ أعلى من زفيرها المُتضايق بسبب حجمه الكبير وسُمكه.
عبست حاجباها الرقيقان أكثر وهي تحدق في عنوان الكتاب.
「ما هو الملك. 」
منذ اللحظة التي وقع نظرها عليه، بدا العنوان ومظهر الكتاب جامدين لدرجةٍ جعلتها تتردّد في قراءته.
لكن لم يكن لديها خيارٌ سوى قراءته. قد يكون كتابًا لا يثير اهتمام معظم الناس، لكنه كان ضرورةً مُطلَقةً لحاكم البلاد.
لينوا مون سيليستا، هذا كان اسمها الكامل، وقد بلغت العشرين هذا العام. مرّ شهرٌ واحدٌ فقط منذ أن اعتلت العرش. كانت صاحبة السلطة العليا في مملكة سيليستا، وطنها ومسؤوليتها الحاليّة. بكلماتٍ أخرى، كانت الملكة.
بصفتها الابنة الشرعية الوحيدة للملك والملكة السابقين، كان الجميع يتوقّع أن ترث العرش.
لكن كان هناك مرشحٌ آخرٌ لخلافة الحكم. بعد ثلاث سنواتٍ من بداية لينوا في عملية توريث العرش، بعد احتفالها ببلوغها سنّ الرشد، ظهر فجأةً رجلٌ داخل العائلة المالكة سيليستا.
كان الابن الشرعي الوحيد لدوق بلاندي. في زمنٍ مضى، كانت دوقية بلاندي أرفع عائلات النبلاء في سيليستا، بامتلاكها أراضٍ شاسعة والعديد من التابعين.
لكن ذلك كان في الماضي. بسبب حادثةٍ معيّنة، فقدت الدوقية مجدها، وصُودِرَ نصف أراضيها وثروتها من قِبل العائلة المالكة، ولم تعد إلى الساحة السياسيّة بعدها أبدًا.
مع ذلك، منح الملك لقب ‘الدوق الأكبر’ لذلك الابن الشرعي. كان لقب الدوق الأكبر يُمنح فقط لأقرباء العائلة المالكة أو كبار النبلاء، وغالبًا ما كان مُخصّصًا لحالات عدم وجود وريثٍ مباشرٍ مُناسبٍ للعرش.
بدأ الدوق الأكبر الجديد بدراسة شؤون الدولة مثل لينوا، وشيئًا فشيئًا وسّع قاعدته الداعمة، وكأنه يهدف إلى العرش. في الواقع، بدأ بعض كبار النبلاء في دعمه علنًا.
لكنه لم يكن من دمٍّ ملكي، وكان العرش بحاجةٍ إلى شخصٍ واحدٍ فقط ليتولّاه، وكان واضحًا من سيكون ذلك الشخص. في النهاية، وكما توقّع الجميع، كان هو الخاسر.
ومع ذلك، رغم أنه لم يصبح ملكًا، فإنه لا يزال يعيش في القصر الملكي بجانب لينوا.
“…”
فجأة، اجتاحتها ذكرياتٌ قديمةٌ مرّت كنسيمٍ عابر، يغزوها إحساسٌ باردٌ زحف على جسدها. هو وهي. منذ اللحظة التي وطئت قدماهما القصر الملكي حتى الآن، أيُّ علاقةٍ يمكن أن تكون بينهما؟
كلّما فكّرت في ذلك، حتى لوهلة، سال العرق البارد على ظهرها وانقبض صدرها. رغم العيش تحت سقفٍ واحدٍ لثلاث سنوات، كان بينهما جدارٌ لا يُرى.
‘توقّفي عن التفكير في هذا.’
أبعدت لينوا عينيها بسرعةٍ عن الذّكريات نحو الكتاب. هذا الكتاب كان مُخصّصًا لورثة العرش.
والآن بعد أن فكّرت في الأمر، خلال فترة تدريبها كوارثة، عندما درست قواعد الإتيكيت والتاريخ مع العديد من المُعلِّمين، لم يكن غريبًا أن تختلط دروسهم بميولهم الشّخصيّة. حتى اليوم السابق لتتويجها، كان المربّون الملكيّون الذين علّموها يبتسمون لها قائلين:
‘عندما تصبحين ملكةً وتتلقّين الوثائق الوطنيّة، قومي بتمرير شؤون الدولة إليه، آنسة لينوا.’
كانوا يتحدّثون بالفعل عن زوج الملكة، الشخص الذي سيتلقّى الوثائق الوطنيّة، رغم أن لينوا لم تكن مخطوبةً حتى. لم تفكّر يومًا فيمن سيمسك يدها خلال التتويج.
صحيحٌ أن معلّميها كانوا داعمين لها، لكن حينما يتعلّق الأمر بزوجها المستقبلي، كان اهتمامهم الأساسي يُنصّب على العرش الذي ستجلس عليه.
كانوا يؤمنون أن العرش يجب أن يكون لرجلٍ، لا لها، هي المرأة.
‘هل أنا مجرّد ملكةٍ مؤقّتة؟’
أخبروها أنها الوريثة الشرعيّة، وأن عليها أن تصبح ملكة، ثم قالوا إنها يجب أن تسلّم شؤون الدولة لزوجها بمجرد زواجها.
كان هذا تناقضًا واضحًا.
لهذا السبب، كثيرًا ما كانت لينوا تتنهد سرًّا أثناء مراجعتها ودراستها بمفردها بعد انتهاء الدروس.
بعد قراءة الأجزاء السياسيّة الجافة، شعرت ببعض الراحة عندما انتقلت إلى قسم التقاليد الملكيّة، الذي كان أسهل نسبيًّا. المقطع الذي قرأته للتو كان في الصفحة الأولى من هذا القسم. كانت هذه المعلومات موضوعيّةً بلا شك.
لكن من وجهة نظرها، كان هناك خللٌ.
“كلُّ شيءٍ عن ‘الملوك’.”
الملك، الملكة، المحظيّة—هذا السطر، هذه الصفحة، وهذا الكتاب بأكمله كُتب من منظور مَلكٍ.
قرأت لينوا الكتاب بتركيزٍ شديد، بل ودوّنت ملاحظاتٍ عن الأجزاء المهمة منذ الصفحة الأولى، ومع ذلك، لم تجد أيّ ذكرٍ لـ’الملكة’ أو ‘الوثائق الوطنيّة’ على الإطلاق.
والأسوأ من ذلك، أنها كانت تقرأ هذا الكتاب منذ أسبوع، وعلى وشك إنهائه، ولم يكن هناك أيُّ مؤشّرٍ على أن هذه الموضوعات ستظهر لاحقًا.
نشأت لينوا وهي تستمع إلى قصص الحكّام السّابقين لمملكة سيليستا كما لو كانت حكاياتٍ خرافيّة، منذ أن كان والداها على قيد الحياة. صحيحٌ أن الملوك كانوا الأغلبيّة، لكن هذا لم يكن يعني أنهم الوحيدون.
إذا كان الملوك يُشكّلون ٨٠٪، فإن الملكات شكّلن ٢٠٪ على الأقل.
على مرّ التاريخ الطويل، كانت هناك ملكاتٌ حكمن المملكة بالفعل. وبما أن الأميرة لينوا أصبحت الوريثة الرسميّة، كان من حقّها أن تصبح ملكة، وها هي الآن ملكةٌ بالفعل.
ومع ذلك، كان هذا الكتاب مليئًا بأمثلةٍ عن الملوك، ممّا يعني أن لينوا وكل الملكات السابقات قرأنه أيضًا.
‘ماذا كنّ يفكّرن عندما قرأن هذا المقطع؟’
فتحت لينوا الكتاب مجددًا. وبينما كانت تقرأ بلا تفكير، استوقفتها جملةٌ فجأة. تألّقت عيناها البنفسجيّتان بلمعانٍ خفيف.
ـــ حاكم الدولة هو إنسانٌ أيضًا، لذا لا يمكن أن يكون مثاليًّا، ولا يحتاج إلى أن يكون كذلك.
‘أوه، أحببتُ هذه العبارة.’
ارتسمت ابتسامةٌ خفيفةٌ على شفتيها.
الجميع أرادها أن تكون ‘مثاليّة’.
العامّة، النّبلاء، وحتى والداها الملكيّان—مع أنهما كانا أقلّ صرامةً في توقّعاتهما.
لكن على عكسهم، مؤلف هذا الكتاب قال إنها لا تحتاج إلى أن تكون حاكمةً مثاليّة.
كانت عبارةً مُوجزةً لكنها قويّة. في لحظة، شعرت لينوا بتحسّن. كما أنها أُعجبت باستخدام المؤلّف لكلمة ‘حاكم’ بدلاً من ‘ملك’، مما شمل الملوك والملكات على حد سواء.
‘همم؟ هناك تكملةٌ للجملة.’
ـــ كل حاكمٍ يتأثّر بالأفعال التي يتّخذها فور اعتلائه العرش.
هذا هو التبرير للعبارة السابقة.
كلما تعمقّت في القراءة، بدأت ابتسامتها تتلاشى تدريجيًا. هذه الجملة ذكّرتها بأوّل قرارٍ اتّخذته بعد أن أصبحت ملكة.
‘اعتبارًا من اليوم، أُعيّن الدوق الأكبر كايران بلاندي سكرتيرًا لي.’
تعيين كايران بلاندي، المُرشّح الآخر للعرش، كسكرتيرٍ لها.
أمرها هذا أحدث اضطرابًا مفاجئًا في قاعة الحكم.
كان بالفعل أفضل خيارٍ مُمكن.
بجعل الدوق الأكبر بلاندي تحت سلطتها المباشرة وقريبًا منها بصفته ‘سكرتيرًا’، راعت مصالح الطرفين، ووضعت قيودًا في الوقت نفسه.
بعض الحاضرين أُصيبوا بصدمةٍ جعلتهم يرتجفون، بينما اكتفى آخرون بهزّ رؤوسهم بصمت. وسط كل هذا، لم تتمكّن حتى من رؤية وجه الشخص المعني بالأمر.
لكنه، بلا شك، تكلّم.
‘سأحترم رغبات ملكتي العزيزة.’
عندما صعد إلى المنصة، أمسك بيد لينوا الممدودة بلطف، وقبّل قفازها برقّة.
كانت مجرد إيماءةٍ رسميّةٍ لقبول المنصب، لكنها تركتها في حالةٍ من عدم الارتياح.
لقد تلقّت منه قبلاتٍ على يدها أكثر من مرّةٍ أو مرّتين.
لحسن الحظ، كانت ترتدي قفازات.
في النّهاية، أصبحت هي الملكة، وهو أصبح سكرتيرها.
كان هذا أوّل استخدامٍ لها لسلطتها كملكة، لذا كانت كلمات الكتاب منطقيّةً إلى حدٍّ ما.
لكنها لم تستطع الموافقة على فكرة أن هذا القرار سيؤثّر على كل ما سيحدث لاحقًا.
إذا اعترفت بذلك، فكأنها تعترف بوضعها الحالي معه.
‘آه، هذا ليس الوقت المناسب لهذا التفكير.’
التفتت لينوا لتنظر إلى ساعة الحائط. كانت الثالثة عندما بدأت القراءة، لكنها الآن أصبحت تقارب الخامسة والنصف. تسلّلت أشعة الغسق الخافتة عبر النافذة.
‘لقد أوشك المساء على الحلول. يجب أن… أرتاح قليلًا.’
وقفت لينوا واقتربت من النافذة. فتحت النافذة الكبيرة، المؤطّرة بألماس متألّق، فداعب النسيم وجنتيها. كان الفصل الحالي هو أوائل الربيع، بعد الشتاء مباشرة. تسلّلت رائحة الربيع الباردة إلى أنفها، مما منحها إحساسًا لطيفًا.
كانت لينوا، المسحورة بلمسة الطبيعة، تتكئ على النافذة وتتأمّل المشهد الخارجي. كان أخذ استراحةٍ خلال جدولها الشّخصي أحد هواياتها الصغيرة.
حين نظرت إلى الخارج، رأت الفرسان يتدرّبون بحماسٍ أكثر من المعتاد. كما رأت الخادمات يركضن على عجل.
غدًا هو اليوم الذي ستزور فيه بعثة مملكة ميرزن، حليفة سيليستا. كان العاملون في البلاط الملكي منهمكين في التحضيرات بجد، لضمان ألا تكون هناك أيُّ ثغراتٍ قد تلاحظها البعثة.
‘الجميع يعمل بجدّ.’
لكن، مهما بذلوا من جهد، إن كانت هي نفسها مُقصِّرةً غدًا، فسيذهب كل ذلك سدى. فالحاكم هو وجه البلاد، والانطباع العام عن المملكة بأسرها سيتحدد بناءً على مظهرها غدًا.
“….”
شعرت لينوا بثقل المسؤولية، فخفتت تعابيرها.
لقد فقدت والدها بعد أن فقدت والدتها. ولم يكن لديها وقتٌ للحزن، إذ اضطرّت إلى تكثيف دروسها في إدارة الدولة دون أيّ فرصةٍ للراحة. ورغم أن الأمور باتت أفضل الآن، إلا أنها ما زالت مشغولةً ومُرهَقة. على الأقل، في الماضي، كان والدها يتولّى شؤون الحكم.
أما بعد وفاته المفاجئة، فلم تُطبّق معرفتها إلا بالكاد في الواقع. كانت مهام الملكة، كما تعلّمتها من الكتب والتعليم، مختلفةً تمامًا عن ممارستها الفعلية.
طرق، طرق.
كانت لينوا غارقةً في أفكارها وهي تحدّق في الفراغ عبر النافذة، وعيناها محمرّتان، لكن صوت الطرق على الباب أعادها إلى الواقع، سارعت بمسح دموعها بأصابعها.
“سيدة لينوا، أنا بيتيير. هل يمكنني الدخول الآن؟”
“تفضّلي.”
ما إن سمعَت صوت الطارق، حتى هدأ قلبها المضطرب، وارتسمت ابتسامةٌ لطيفةٌ على شفتيها.
بيتيير كانت خادمتها الشّخصيّة ورئيسة خدم القصر الملكي. كانت بمثابة أختٍ لها، وكانت الثقة بينهما عميقة.
دخلت بيتيير بحذرٍ حاملةً طقمًا فاخرًا للشاي.
“كنتِ مندمجةً للغاية في القراءة، لم أجد الوقت المناسب للدخول. لكن مهما درستِ، سيدتي لينوا، يجب أن تهتمّي بنفسكِ أولًا.”
“هوهو، أهذا صحيح؟ شكرًا لكِ، كما هو الحال دائمًا، بيتيير.”
وضعت بيتيير طقم الشاي على الطاولة حيث كانت لينوا تجلس، وبدأت في تحضير الشاي. كان يبدو طازجًا وقد تم غليه حديثًا، إذ تصاعد منه البخار برفق.
كان شاي البابونج المفضّل لدى لينوا. لم يكن هناك أحدٌ يعرف تفضيلاتها بهذه الدقّة سوى بيتيير.
في مثل هذه اللحظات التي كانت تقضيها وحدها مع بيتيير، كانت لينوا تُشاركها أحداث يومها. كانت بيتيير أفضل مُستمِعةٍ لها، وكانت أحيانًا تتفاعل معها بشعورٍ مماثل، فتفرح أو تغضب معها.
عندما كانت تتحدّث معها، كانت لينوا تستطيع أن تكون نفسها، لا الملكة.
نسيَت أن الوقت قد دخل في المساء، لكنها أخذت تفكّر للحظةٍ في موضوعٍ يمكنها مناقشته مع بيتيير. خطر لها أن تتحدّث عن الكتاب الذي كانت تقرأه سابقًا، والذي وضعته جانبًا عندما أحضرت بيتيير الصينية. كان موضوعًا مناسبًا تمامًا.
وبينما كانت على وشك الدخول في نقاشٍ حماسي…
صرير.
فُتح الباب دون طرق، واخترق صوتٌ باردٌ اللحظة بينهما.
“جلالتكِ. حان وقت العشاء.”
“……!”
كادت لينوا تُسقط فنجان الشاي من يدها. نظرت بسرعةٍ إلى صاحب الصوت.
شعرٌ أحمرٌ داكن، وعينان بلون البنفسج العميق. كان يومًا ما أحد المُرشّحين للعرش، لكنه لم يُختَر. والآن، كان يعمل كسكرتيرٍ للملكة، ودوقًا كبيرًا يقيم في القصر الملكي.
كان كايران بلاندي يُحدّق بها ببرودٍ من خلف الباب المفتوح.