“هل حقًّا أذللتِ ذلك النبيل المتغطرس؟”

 

“نعم،

 أولئك الذين لا يملكون سوى ألقابهم لا يُجيدون شيئًا سواها. أليس واضحًا أنّه مصاب بعُقدة نقص؟”

 

حين حلّ المساء وعادت روزالين إلى النقابة التي افتقدتها، جلست على مكتب القاعة الرئيسية باسطةً ساقيها بترفٍ وغرور.

 

وأثناء اجتماعها مع شيون لمراجعة شؤون النقابة، كان هو يُصغي إلى تباهِيها وملامح الضجر مرسومة على وجهه.

 

“وما الذي تتحدثين عنه الآن؟”

 

“عن صغيرنا كاسيوس، طبعًا.”

 

“ماذا؟!”

 

‘صغير’ و’كاسيوس’؟ الجمع بين هاتين الكلمتين جنونٌ بحدّ ذاته.

 

لكن روزالين كانت تمرّر أصابعها بهدوء على كتلة من الفراء الأسود المستلقية فوق بطنها.

 

“القصة ببساطة هي أنّ…”

 

 

—

 

بعد أن أمضت يومها في راحة متذرّعةً بالتواء كاحلها، خرجت روزالين من قاعة العلاج بعد الظهر متوجهةً نحو النقابة.

 

“ربّما يجدر بي أن أُسلِّم على اللورد جيمي قبل أن أذهب. لا شكّ أنّه قلق عليّ.”

 

كان كاحلها في أحسن حال.

توقعت أن يكون جيمي قد غرق في القلق عليها، فذلك الرجل الطيّب لا يُجيد إخفاء مشاعره.

 

وحين سألت أحد الفرسان عن مكانه، أجابها:

“في مثل هذا الوقت يكون عادةً خلف قاعة الطعام.”

 

“وأين تقع القاعة؟”

 

“ابحثي عن المبنى الذي يتصاعد منه الدخان من المدخنة.”

 

ربّما لأنّهم رأوا كاسيوس يدافع عنها سابقًا، صار الفرسان أكثر وُدًّا معها هذه المرة.

 

‘بعد الفوضى التي حدثت في البهو، لا شكّ أنّ القصة انتشرت في كل مكان.’

 

ولمّا وصلت إلى الساحة خلف القاعة، نادت بابتسامة:

“اللورد جيمي! كنتُ على وشك المغادرة، لكنّي خشيت أن تقلق… آه، هذا يعني…”

 

كان جيمي جالسًا القرفصاء، ضخم الجثة على نحوٍ لا يمكن إخفاؤه، وأمامه جروٌ أسود صغير.

 

“…كلب؟”

 

“هيه! ابتعد من هنا، هيه!”

 

لكن الجرو ظلّ يتشبّث به بأنينٍ حزين، رافضًا الابتعاد.

 

‘يبدو كمن ضُبط متلبّسًا بتربية كلبٍ سرًّا.’

 

اقتربت روزالين مبتسمة من المشهد والجرو يتدلّى على ساقَي جيمي.

 

“هل يعضّ؟”

 

“آه، لا. لطيف جدًا، لا يعضّ أحدًا أبدًا.”

 

“وما اسمه؟”

 

جلست القرفصاء وربّتت على رأس الجرو برفقٍ جعل جيمي يتوقّف عن دفعه بعيدًا.

 

“لم أُسمِّه بعد… هل أنتِ بخير؟”

 

“ماذا تعني؟”

 

كان الجرو يهزّ ذيله بفرحٍ طفولي ويقترب منها، فابتسمت وربّتت على رأسه.

 

“إنّه جروٌ أسود، أليس كذلك؟”

 

في تلك اللحظة فهمت سبب تردّد جيمي في الاحتفاظ به.

 

‘الكلب الأسود… رمز النحس واللعنات.’

 

مهما تغيّرت العصور، تظلّ الخرافات راسخةً في النفوس.

 

“لا بأس، أنا لا أؤمن بتلك الترهات.”

 

فبينما كان الناس هنا يعبدون الخرافات كما لو كانت حكام، لم تكن روزالين من المؤمنين بها.

 

‘ابنة العصر الحديث لا يمكن أن تصدّق مثل هذا الهراء.’

 

“وأنت يا لورد جيمي، ألا تخاف أن تُصيبك لعنة؟”

 

“حسنًا… هو مجرد جرو صغير. وإن كان يحمل لعنة، فلن تكون أقوى منّي بالتأكيد، لذا لا بأس.”

 

لم يُبقِه جيمي بدافع التمرّد على الخرافات، بل لأنّ قلبه لم يحتمل ترك مخلوقٍ ضعيف وحيدًا.

 

“حقًّا رائع. لوردٌ مثلك لن تمسّه أيّ لعنة أبدًا.”

 

احمرّ وجه جيمي وهو يحكّ مؤخرة رأسه بخجلٍ ظاهر.

 

“لا، لستُ بتلك الجرأة. لا أستطيع أخذه إلى البيت، فزوجتي وأطفالي سيخافون منه…”

 

“إذن تتركه هنا؟”

 

“الأمر أنّ أحد الفرسان عثر عليه بجانب أمّه الميتة أثناء الدورية. كان الوحيد الذي بقي على قيد الحياة.”

 

“لو علم القائد فسنقع في ورطة، لذا لا يعرف بالأمر سوى قلّةٍ منّا.

ولأنّه كلب أسود، لم يجرؤ أحد على تبنّيه، فخبأناه مؤقتًا خلف القاعة.”

 

“العاملون في المطبخ يُطعمونه أحيانًا، ويبدو أنّه يأكل جيدًا.”

 

رمقت روزالين الجرو وهو يحتكّ بها بمودّة، ثمّ رفعته فجأة بين ذراعيها.

 

“أيها الصغير، هل تودّ المجيءَ معي؟”

 

“هاه؟”

 

قالت وهي تحتضنه برفقٍ وابتسامة:

“إن لم يكن له من يأخذه، فهل أستطيع أنا؟”

 

“لا مانع… لكن…”

 

وقبل أن يُكمل كلامه، نهضت روزالين بحماسٍ وقالت:

“لقد وجدتُ له اسمًا بالفعل!”

 

“اسمًا؟ ما هو؟”

 

نظرت إلى الجرو الأسود بين ذراعيها وقالت بابتسامة عريضة:

“كاسيوس.”

 

“ماذا؟!”

 

 

—

 

ثمّ توجّهت روزالين مباشرة إلى كاسيوس قائلةً بثقة:

“وجدتُ هذا في الطريق، فهل أستطيع الاحتفاظ به؟”

 

كان وجود جروٍ في مقرّ القيادة ضربًا من الجنون، لكن وقاحة روزالين المعتادة لم تترك مجالًا للرفض.

 

‘وجدته وسآخذه، فماذا ستفعلون؟’

 

لم تطلب من أحد العناية به، بل أعلنت أنّها ستربيه بنفسها.

فلم يجد كاسيوس بُدًّا من الموافقة على مضض، وهكذا أخذته إلى النقابة.

 

“لم تكتفِ بالتقاط كل ما تجديه حتى التقطتِ كلبًا أسود…”

 

“ولِمَ يا شيون؟ أأنت أيضًا تؤمن بتلك الخرافات السخيفة؟”

 

رفعت روزالين ذقنها بفخرٍ متعجرف، فتنهد شيون استسلامًا.

 

كانت في الحقيقة قد أحضرت الجرو متحديةً تلك الخرافة بعينها.

 

‘لقد قاسى شيون من الخرافات ما يكفيه مدى الحياة.’

 

كان والده يضربه بسبب خرافةٍ حمقاء، إذ وُلد في ليلة قمرٍ أحمر، فعدّه طفلًا ملعونًا.

 

‘قمرٌ أحمر يعني خسوفًا، لا لعنة! أيُّ جهلٍ هذا؟’

 

ومنذ ذلك الحين، صارت الخرافات جرح طفولته الذي لا يندمل.

 

وفي النهاية قال مستسلمًا:

“حسنًا، فلنُربِّه. ما أسوأ ما قد يحدث؟ سيُرعب الأعضاء قليلًا فقط.”

 

قليلًا؟ بل كثيرًا.

 

لكن روزالين تجاهلت اعتراضه وأخذت تمسح على الجرو بفرحٍ طفولي.

 

“يا كاسيوسنا الصغير، كم أنت رائع!”

 

“أحقًّا اخترتِ هذا الاسم؟” قال شيون بامتعاض.

 

“ألا ترين أنّ إطلاق اسم قائد الفرسان على جروٍ لطيف كهذا نوعٌ من الإساءة؟”

 

“بل الاسم مثالي. الكبير أسود، وهذا الصغير أسود أيضًا.”

 

كان شعر كاسيوس الأسود وبدلته السوداء سببًا كافيًا لتشابهٍ طريف.

 

ثمّ استعاد شيون جديّته وقال:

“سأجمع مزيدًا من المعلومات عن آل ديلان. لدينا بعض الأمور، لكن سأعرف حتى عدد الشموع في غرفته.”

 

“أعتمد عليك يا شيون، فلن أسمح لهذا الأمر أن يمرّ.”

 

كانت قد أهانت كاسيوس في الميدان، لكنّها لم تكن ممن يكتفون بنصف نصر.

 

‘النبلاء يكرهون أن يتفوّق عليهم العاميون… حسنًا، سأُريهم الجحيم ذاته.’

 

وبينما كانت تفكر في ذلك وتداعب الجرو غنّت بسعادة، ثم توقفت فجأة.

 

“بالمناسبة، ماذا حدث؟”

 

“ماذا تعنين؟”

 

“تقرير كاسيوس.”

 

ما إن ذُكر الاسم حتى نظر شيون نحو الجرو الأسود المستلقي على بطنها.

 

رفع الجرو رأسه وكأنّه استجاب لاسمه.

‘مجرد صدفة…’

 

قال شيون بهدوء:

“لا جديد.”

 

“حقًّا؟”

 

“نعم، لا شيء جديد على الإطلاق.”

 

تغيّرت ملامح روزالين إلى الجديّة.

صحيح أنّها لم تمنح القادة سوى نصف يوم، لكن ألّا يظهر أي تقدّم؟

 

“ولا حتى تفصيل صغير؟”

 

“لو وُجد شيء، لكان على مكتبك منذ الأمس.”

 

نظرت إلى مكتبها الخالي المخصص لتقرير كاسيوس، الذي ظلّ فارغًا لليوم الثالث.

 

“هل يُعقل أن… لا يكون إنسانًا؟”

 

“من يدري، ربما شبح حربٍ أو روحٌ تائهة.”

 

“هذا مملّ، يا شيون.”

 

تأفّفت من مزاحه، لكن في داخلها كان القلق يتنامى.

‘هل سأُضيّع حقًّا الألف ساعة كلّها؟’

 

مستحيل. الألف ساعة يمكن أن تُغيّر العالم.

 

أنزلت قدميها عن المكتب وعدّلت جلستها بعزمٍ تلألأ في عينيها الحمراء.

“اتصل بالنمر. أريد رؤيته.”

 

“أحقًّا نحتاج لهذا؟”

 

“نعم، يبدو الطريق الأسرع.”

 

“حسنًا، سأبلغه حالًا.”

 

النمر — الاسم الرمزي الذي منحته روزالين لأحد عملائها السريّين.

‘رغم إزعاجه، إلا أنّه قد يحمل بعض المعلومات التي نحتاجها.’