“لا أستطيع الخروج من هذه الدوامة… كل الطرق تؤدي بي إلى نفس النقطة.”
كان بييتشي يعرض العلاج الذي صنعه على جوديث وإيرن، بعد أن عاد الاثنان إلى القصر.
ملامحه المرهقة ووجهه الشاحب لم ينبئا بخير.
قالت جوديث باقتراح حذر: “ماذا لو بدأنا بفك رموز كل مادة على حدة؟”
هزّ بييتشي رأسه بتعب: “لو أزلنا السموم الناتجة عن دهون الجثة أولاً، ستستمر الطفح في التفاقم بسبب النيكار.
أما إذا بدأنا بتطهير آثار النيكار، فستزداد الحكة سوءًا بسبب سموم الجثة، ولن تلتئم الجروح، بل ستبدأ بإفراز القيح.”
العلاج يجب أن يكون متزامنًا…
لكن كل محاولات الجمع بين العقارين باءت بالفشل.
كان على وشك فقدان صوابه.
تدخلت جوديث بلطف: “لماذا لا تستشير أطباء آخرين؟”
ثم أومأت برأسها مضيفة: “قد يكون من المفيد الاطّلاع على وجهات نظر جديدة.”
رغم أن معرفتها الطبية كانت محدودة، فقد أرادت المساعدة بأي طريقة، وقد طمأنها بييتشي قائلاً إن الكتب الطبية التي أحضرتها له كانت ذات فائدة عظيمة.
أثناء حديثهم، كان إيرن يحدّق في القارورتين الموضوعتين على المكتب.
قال متسائلًا: “لكن هذه جرعة سائلة، وتلك مرهم؟”
لم يكن إيرن طبيبًا، لكنه استطاع التمييز بين ما يُشرب وما يُدهَن.
“إذاً، ببساطة يمكن تناول واحدة ودهن الأخرى.”
تجمّد بييتشي في مكانه، مذهولًا من بساطة الفكرة.
فتح فمه، لكنه لم ينطق.
“…هاه؟”
كان على وشك رفض الفكرة باعتبارها ساذجة، لكن…
ربما؟ هل يمكن فعلًا أن تنجح؟
قفز فجأة، التقط القارورتين وقال باندهاش: “واحدة للشرب وأخرى للدهن؟ لماذا لم أفكر في هذا من قبل؟! الدواء إما يُتناول أو يُستخدم خارجيًا!”
—
“أجل… الأمر أفضل بكثير.”
في البداية، لم يكونوا واثقين من نجاح العلاج، فقد تظهر آثار جانبية خفية.
لكن السير هنري قرر تجربته بنفسه.
حتى لو كان سُمًّا، فهو أهون من هذه المعاناة.
تناول ترياق النيكار الذي حسّنه بييتشي، ودهن المرهم المصنوع من مستخلصات التنين والصبار.
كان يستخدمه ثلاث مرات في اليوم، وبحلول اليوم التالي بدأت بوادر التحسّن تظهر على وجهه.
سألته جوديث: “كيف هي الحكة الآن، يا سير هنري؟”
“تحسّنت كثيرًا.
لا أقول إنها اختفت، لكنها لا تُقارن بما كنت أعانيه قبل يومين.”
نبرته باتت أكثر حيوية.
حتى الأخ لوهمان، الذي تلقى العلاج نفسه، أظهر تحسّنًا ملحوظًا خلال يومٍ واحد فقط.
وبعد يومين من الاستخدام، بدأت قشور تظهر على وجه هنري، ما يعني أن النزيف والصديد قد توقفا، وبدأ الجلد الجديد بالتكوّن.
جاءت أنباء مشجّعة من الإخوة لوهمان أيضًا، فقد بدأوا بالتعافي.
بييتشي وجوديث قرّرا التريّث أسبوعًا واحدًا قبل طرح الدواء في السوق.
قال بييتشي: “حضّرت أيضًا علاجًا لالتهاب المفاصل. أحتاج لمتطوّع لتجربته.”
وبما أن علاجات التجميل أثبتت فعاليتها، فمن المرجّح أن ينجح علاج المفاصل أيضًا.
أخذت جوديث وإيرن الدواء الجديد وتوجها إلى كاين ليسألاه إن كان من بين ضحايا التهاب المفاصل من يرغب في تجربته.
لكن عند مدخل مركز الشرطة، صادفا شخصية مألوفة من الرواية الأصلية…
رجل ذو شعر أبيض، لحية بيضاء، ووجه مجعّد يحمل وسامة رجولية وهيبة لا تليق إلا بالقادة.
إنه القائد العام لفرسان الفرقة الأولى، شرف الإمبراطورية: جيلارد.
“إيرن راينلاند.”
“مضى وقت، يا عجوز.”
نظر إليه جيلارد متفحّصًا، ثم قال بسخرية: “وجهك يلمع أكثر من ذي قبل.”
هو ذاته الذي طرد إيرن من الفرقة الأولى منذ اليوم الأول، فقط لأنه رآه يحمل براعم صفراء – رمزًا للضعف أو الفساد.
عبس إيرن ما إن رآه، لكن جيلارد تظاهر وكأن اللقاء ودي.
“قالوا إن ركبتيك تؤلمانك، ومع ذلك تتجوّل كأنك في ريعان الشباب.”
رمق إيرن ركبتيه وأضاف بسخرية:
“لو كنت مريضًا حقًا، لجلست ترتاح في بيتك.
ما الذي جاء بك إلى مركز الشرطة؟ لتضايق ماركيز موزلي مثلاً؟”
أجاب جيلارد بابتسامة باردة: “سمعت أن الماركيز يتسكع معكم مؤخرًا.
وأنكم قبضتم على ذلك الرجل، روام.
جلالة الإمبراطور مدحكم كثيرًا.”
ثم أردف بنبرة حيادية، وكأن ما قاله سابقًا لم يكن تهكمًا: “وقيل أيضًا إنك تزوجت زواجًا ناجحًا.”
ارتبك إيرن.
لم يعرف كيف يرد على هذا الكلام الغريب.
لم يستطع إنكاره مباشرة، فخسر الجولة.
في تلك اللحظة، انحنت جوديث بأدب وقالت: “أشكرك على الإطراء.”
نظر إليها إيرن بدهشة.
هل أدركت ما قالته؟!
الآن يبدو وكأنه فعلًا زوج ناجح! وهو من هزم روام؟!
في حين كان إيرن غارقًا في تساؤلاته، تابع جيلارد حديثه مع جوديث متجاهلًا إيرن تمامًا.
“الكونتيسة هنا لها ظروفها الخاصة، تختلف تمامًا عن زوجها.”
ثم وجّه نظرة باردة إلى إيرن وأضاف:
“كيف انتهى بك المطاف إلى الزواج من شخص كهذا؟”
كان يرى في إيرن مجرد وغد لا يستحق الاحترام. لكن، بعد سماعه من كاين عن جوديث، المرأة التي تسدد ديون زوجها بنفسها وتدعمه، بدأ يرى أنها أسمى من أن تكون بجانبه.
قال إيرن بسخرية:
“من هذا النوع؟! تشعر بالأسى لمجرد سماعك عني؟”
“أجل، أين ستجد شخصًا مثلي بسهولة، أيها العجوز؟”
رد جيلارد بازدراء:
“ربما لا يوجد مثلك كثيرون، لكن المؤكد أن هناك من هم أفضل منك.
لقد وقعت في الحفرة فوجدتك فيها.”
نقر جيلارد لسانه بأسى، ثم أردف:
“أقول هذا لأنني أعتبرها كأنها حفيدتي.
ماركيز موسلي سيكون خيارًا أفضل بكثير.”
لم يكن غريبًا أن تصدر مثل هذه التصريحات في رواية مصنفة للكبار.
كل شخصية فيها تتحدث بحرية لافتة.
قالت جوديث بابتسامة هادئة: “أشكرك على النصيحة.
سأفكر بالأمر.”
رغم تصنيف الرواية، ظلّت جوديث حكيمة.
احترمت الشيخ ورفضت اقتراحه بلطف غير مباشر.
لكن، لسوء الحظ، لم يلتقط إيرن الرسالة بذات الفهم.
نظر إليها مستفهمًا، وكأنه يطلب منها توضيحًا، لكنها لم تلتقط نظرته هذه المرة.
أمالت رأسها باستغراب، بينما قال جيلارد: “ما الذي جاء بكِ إلى مركز الشرطة، سيدتي؟”
أما إيرن، فلم يعد يُحسب له حساب.
ردّت جوديث: “حضّرت علاجًا لالتهاب المفاصل يثير اهتمام الكثيرين.
جئت لأرى إن كان أحد الضحايا يرغب في تجربته.”
فقال جيلارد على الفور: “إذن، لا حاجة للدخول.
أنا سأجربه.”
“نعم؟!”
قيل إن القائد العام للفرقة الأولى كان أحد ضحايا أدوية التهاب المفاصل.
قال بيأس: “إذا لم تعد الركبتان تعملان، فالأفضل لي أن أتقاعد.”
“هل أبدو كشخص يعتمد على الدواء؟ كانت هدية من ابنة أختي.”
ثم مدّ يده إلى جوديث قائلاً: “إن كنتِ ستجرّبينه، فليكن على جسد يحتضر.”
أعطته جوديث زجاجة الدواء مع شرح مفصل لطريقة الاستخدام، وأوصته بإبلاغها بأي أعراض جانبية أو مؤشرات تحسّن.
قال لها: “سنفعل.”
ثم أثنى على جهودها، قبل أن يوجّه إلى إيرن نظرة ازدراء.
“تسك تسك…”
لم يقل أكثر من ذلك، لكنه خلّف وراءه أثرًا يفوق أي إهانة.
غلى دم إيرن.
قال بغيظ:
“لماذا لا نخلع الرتب ونتبارز، أيها العجوز؟!”
أمسك مقبض سيفه، لكن جيلارد رفض التحدي، ثم صعد إلى عربته.
“وما الفائدة من أن يهزم شابٌ عجوزًا؟”
أغلق باب العربة، وتحركت ببطء، كأنها تتعمّد استفزاز إيرن.
تابعها بعينين تقدحان شررًا، ثم التفت فجأة إلى جوديث.
“ماذا؟ لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
لكنه لم يشرح لها أبدًا مغزى تلك النظرة.
وبعد يومين، وصلت أخبار من جيلارد تفيد بأن العلاج كان فعالًا للغاية في تخفيف الألم.
—
“انظر، يا بييتشي.”
“…اهدئي، آنسة هارينغتون.”
تراجع بييتشي بخوف من نظرة جوديث.
ابتسامتها كانت دافئة كنسيم الربيع، لكن عينيها اشتعلتا برغبة تفوق حرارة شمس الصيف.
“قل لي، ماذا تشمّ؟”
كانا في غرفة فارغة بالقصر، لا رائحة فيها سوى الغبار، ومع ذلك تظاهر بييتشي بأنه يشمّ شيئًا.
“ماذا تشم؟”
“لا شيء.”
“اشتم جيدًا… إنها رائحة المال.”
“…آه؟”
“ألا تشمّ عبق النجاح؟
رائحة دوائك الذي سينفد من الأسواق؟
هذه الغرفة ستمتلئ قريبًا بعملات الذهب!”
التعليقات لهذا الفصل " 85"