“أشعر بانقباض غريب… هل كان عليّ أن آخذك معي؟”
حاول إيرن تهدئة القلق الذي يعصف في ذهنه، واندفع خلف الرجال المتوجهين إلى نقطة الاتصال.
لم تكن جوديث فتاة صغيرة، بل امرأة ناضجة يُفترض بها أن تكون قادرة على البقاء ساكنة في هدوء.
“أين نقطة الاتصال؟”
“جميعهم وصلوا.”
بعد نحو عشر دقائق من المتابعة، توقف الرجلان عند مفترق طرق يصل الغابة بقرية صغيرة.
“تلك الشجرة.”
أشار سائق العربة إلى شجرة ميتة عند المفترق، كان جذعها مائلًا.
تقدموا نحوها وبدأوا الحفر فجأة.
“هذا يكفي، كفى.”
قال الرجل الضخم وهو يُسقِط مجرفته، ثم أخرج كيسًا من المال، فتحه وأخرج قطعتين نقديتين.
“أخي، إن استمررت في هذا الطريق، وابتسم لك الحظ السيئ وعلم الأخ الأكبر، فستكون نهايتك مأساوية.”
“ولم يحدث أن كُشِفنا من قبل.”
ابتسم الرجل الضخم ابتسامة باهتة ورمى بقطعة نقدية نحو السائق.
“لا يجب أن أفعل هذا…”
تمتم الأخير، لكنه التقط العملة ووضعها في جيبه.
ثم وضعوا كيس المال في الحفرة وردموها بالتراب.
بعدها، كسروا غصنًا ضخمًا إلى نصفين وغرسوه بشكل مائل بجوار الموضع الذي دُفن فيه المال.
بدا أنهم لا يحتاجون أكثر من مجرفة لإتمام صفقة تبادل المال…
لكنني سمعت بهذه الطريقة من قبل.
كان إيرن يسترجع ما في ذاكرته بينما بدأ الرجال يدندنون بنغمة خفيفة، وقد بدا أنهم أنهوا مهمتهم.
“هيا بنا نتناول شرابًا، بمقابل هذه الخدمة.”
“نعم، لنذهب.”
اتجه الرجلان نحو القرية، بينما بقي إيرن في مكانه برهة.
وبما أنهم ذكروا أن اليوم هو موعد تسلّم المال، فلا بد أن أحدًا سيأتي لجمعه لاحقًا.
—
في تلك اللحظة التي انطلق فيها إيرن خلف من دفنوا المال…
كانت جوديث جاثية في عمق الغابة، تحبس أنفاسها.
من بعيد، رأت وهج النار التي أشعلها الرجال.
إن اقتربت قليلًا من هنا، فلن ينتبه أحد لوجودي.
كانوا غير متيقظين تمامًا.
وبالنسبة لأشخاص فارّين بعد تنفيذ عملية احتيال، فقد بدا سلوكهم مريبًا في هدوئه.
في الحقيقة، كانوا قد نفذوا نفس الاحتيال في الجنوب، وأعادوه في العاصمة خلال فرارهم…
وبما أنهم لم يُقبض عليهم حينها، فقد بدت عليهم الثقة بأنهم لن يُكشفوا هذه المرة أيضًا.
“أيها الوغد الصغير!
قلت لك أن تشتري مستخلص بريسيلا، ولم تفعل!”
شقّ صوت غاضب سكون الغابة.
تحركت جوديث بحذر لتقترب أكثر، محاولة فهم ما يجري.
تحت ضوء النار، بدا الرجل كظل، وكان يرتدي مئزرًا وخرج من الخيمة غاضبًا.
“قلت لك مرارًا إن المنتج سيتعفن من دونه!
إنه أهم مكون في الخلطة.”
كان يصرخ بانزعاج شديد، يكاد يصل إلى حد الشتائم.
“اهدأ… يمكنك الذهاب لشرائه الآن.
لا داعي للصراخ، هيا نذهب سويًا.”
حاول الرجل الطويل تهدئته.
“لنشترِ مستخلص بريسيلا، ونأخذ قسطًا من الراحة مع مشروب لطيف.
لا يزال هناك وقت قبل تنفيذ المهمة التالية، فلا داعي للعجلة.”
وبعد أن اقتنع، عاد الرجل الذي كان يرتدي المئزر إلى الخيمة، ثم خرج من جديد وقد نزعه.
سار الاثنان معًا وغابا عن الأنظار.
وعندما تأكدت جوديث من ابتعادهما التام، اقتربت من الخيمة.
كانوا أربعة.
اثنان دفنوا المال وذهبوا للشرب، والآخران خرجا لشراء نوع من الإكسير.
أي أن الخيمة الآن خالية تمامًا، ولن يعود أحد لفترة.
كنت قد سمعت عن وجود وصفة الدواء في الداخل، أليس كذلك؟
إذا حصلت عليها، فستتمكن من صنع الترياق.
وبما أنهم غادروا بعجلة، فمن المرجح أن الورقة لا تزال هناك.
قال إيرن ألا أقدم على تصرف متهور…
تنهدت جوديث بعمق.
لكن الحصول على الوصفة كان ضرورة ملحّة، والخيمة خالية دون حراسة.
كانت فرصة لا تُفوّت.
خرجت جوديث من بين الأشجار، متأكدة من أن لا أحد يراها.
وعندما لم تسمع صوتًا، اندست داخل الخيمة بسرعة.
“آه…”
غطّت فمها فورًا، إذ هاجمها رائحة نتنة خانقة.
“رائحة جثة متحللة…”
لسوء الحظ – أو ربما لحسن الحظ – كانت الرائحة مألوفة لها.
فقد كانت السبب في عجزها سابقًا عن افتتاح متجرها.
رائحة لم تعتد عليها قط.
كادت تتقيأ، لكنها صفعت خدها لتستعيد تركيزها.
“ليس وقت التقيؤ… ابحثي عن الوصفة أولًا.”
غطّت أنفها وتجولت بنظرها داخل الخيمة.
في المنتصف، قدور ضخمة تغلي على موقد بدائي من الطوب.
“لن تكون هنا…”
نظرت إلى الجهة الأخرى، حيث طاولة خشبية طويلة، وأمامها رف ومكتب يعمّه الفوضى.
“أظن أن هذه هي الجثة التي جلبوها مؤخرًا.”
كان شيء ما مغطى بقطعة قماش سميكة على الطاولة الخشبية.
“…لكن لماذا تنزف الجثة؟”
قطر… قطر…
سائل أحمر داكن تساقط من حافة الطاولة.
وكانت الأرضية تحته رطبة، كما لو أنها امتصت ذلك السائل.
قطرى… قطرة… قطرة…
بلعت جوديث ريقها بصعوبة.
“ربما أخطأ أثناء نقلها…”
تتبعت عيناها مسار القطرات حتى توقفت عند شيء على الأرض… كومة من الحطام القديم الملطخ، لكنها منتفخة من الداخل.
مصدر الرائحة كان هناك.
“لن تكون هناك.”
أدارت وجهها على الفور.
لا شك أن الوصفة ستكون على الرف أو المكتب المزدحم بجانبه.
اقتربت منه.
صوت القطرات خلفها بدأ يرسل قشعريرة في عنقها.
مسحت رقبتها بتوتر.
“ركّزي… فكّري في السير هنري، المسكين هنري…”
بدأت تبحث بدقة بين أكوام الورق والقمامة على المكتب، لكن لا أثر للوصفة.
عندها رأت مئزرًا معلقًا بإهمال على ظهر الكرسي. بدا أنه المئزر الذي كان يرتديه الرجل قبل قليل.
اقتربت منه وبدأت تبحث في الجيوب.
من المنطقي أن يحتفظ بوصفة التجميل معه، ليراجعها أثناء التصنيع.
وكان حدسها صحيحًا.
وجدت الورقة داخل الجيب.
“رائع.”
فتحتها على المكتب بحذر، وأخرجت الورق والفحم اللذين كانت قد أعدّتهما مسبقًا، وبدأت تنسخ المكونات.
سرقة الوصفة قد تثير الشبهات، لذا اكتفت بنقل أسماء المكونات المهمة فقط.
“ليتران من مستخلص بريسيلا، عشر حزم من البقلة الجافة، زجاجتان من زيت غوليس…”
كانت هذه مكونات تُستخدم فعلاً في مستحضرات التجميل.
فالبقلة تُهدئ البشرة، وزيت غوليس يرطّبها.
كانت جوديث قد درست هذه المواد أثناء بحثها عن بدائل لصناعة البخور.
“هل أُخفّف ليترًا من نيكار وأضيفه؟
أليس هذا مزيلًا للدم؟
يا للرعب!
كيف يُوضع منظف قوي كهذا على الوجه؟”
وكان هناك مكون أغرب… منظف دموي ضمن وصفة تجميل! نقرت جوديث لسانها استنكارًا.
“وأخيرًا… رطلان من الدهن؟”
هل يقصدون شحم الخنازير؟ أمالت رأسها وهي تكتب باقي المكونات، ثم قرأت التعليمات:
“بعد إزالة الدهن، يُوضع على قماش قطني، يُصفّى منه الدم، ويُترك ليجمد.
ثم يُغسل الشحم المجمد بمحلول مخفف من نيكار.
كلما كان الشحم طازجًا، كانت الجودة أفضل.
لا تستخدم شحمًا من جثة تجاوز موتها ثلاثة أيام، لأن الرائحة تصبح فظيعة…”
قطرة… قطرة…
تساقط الدم من الجثة، والعرق البارد بدأ يبلل جبين جوديث.
“أيها المجانين…”
هل كانوا يصنعون مستحضرات تجميل من دهون الجثث؟
شعرت بمعدتها تنقلب وكأن الخبز الذي تناولته قبل قليل على وشك العودة.
غطّت فمها بيدها بسرعة.
أعادت الورقة إلى جيب المئزر بأيدٍ مرتجفة، وصوت الدم المتساقط ينهش أعصابها.
لماذا لا يزال الدم يقطر من الجثة…؟
لا، لا يجب أن أتصوّر شيئًا الآن.
لا يجب أن أفكر في الأمر.
عضّت على شفتيها محاولة الخروج من الخيمة. حينها سمعت صوت الرجلين العائدين من الشرب.
وكانا قريبين جدًا.
“…لأن…”
“…لا حاجة لذلك…”
كانا يقتربان.
تراجعت جوديث خطوة إلى الخلف.
لقد وقعت في ورطة كبيرة…
لم يكن في الخيمة أي مكان للاختباء، ولا مخرج خلفي.
حاولت رفع طرف الخيمة، لكنها كانت مُثبتة بإحكام بالأرض.
وفي تلك اللحظة…
رأت قطعة قماش ممزقة تتراقص في الهواء أمام عينيها.
“…لماذا من بين كل الأماكن… يكون الحل هناك؟”
التعليقات لهذا الفصل " 81"