“علينا إقامة طقس تأبيني”
“بالطبع، ومتى يمكننا إحياء احتفال الألف يوم؟”
“يمكننا ذلك في أي وقت، ولكن الأمر هنا مختلف؛ فهو يتعلق بالسيد إيرن…”
توقف الوسيط الروحي عند هذه النقطة، لكن هنري وجوديث أدركا مغزى كلامه.
حاولت جوديث أن تحافظ على تماسك تعابير وجهها وهي تسأل:
“ما حجم الإخلاص الذي ينبغي أن أظهره؟”
“سأكتفي بقطعتين ذهبيتين”
قطعتان ذهبيتان؟
مبلغ كهذا يكفي لصنع مئتي شمعة!
“سأمنحك ذلك!”
يا لكرم سيد هنري! يبدو أنه يمتلك مالًا وفيرًا.
نظرت إليه جوديث بنظرة جديدة وهو يوافق دون أي تردد.
“من الأفضل أن نقيم المراسم الليلة”
وافق الوسيط الروحي، محدّقًا نحو السماء وكأن المال الوفير لم يكن مغريًا له.
“عليكما التطهر والانتظار حتى منتصف الليل”
تم تحديد موعد إقامة الطقس التأبيني عند منتصف الليل.
أشار الوسيط إلى أنه سيخرج لبعض الوقت ليحضر شيئًا ما.
“بعد أن تنظفا نفسيكما، ابقيا في غرفكما، ولا ينبغي لكما أبدًا أن تريا تحضيراتي”
اغتسلت جوديث وصنعت الشموع، منتظرة حلول منتصف الليل.
“أتمنى ألا يكون الوسيط محتالًا”
مر الوقت ببطء حتى دقت الساعة منتصف الليل.
بطرقات هادئة على الباب، استدعى الوسيط هنري وجوديث.
كانت نوافذ الغرفة التي يرقد فيها جسد إيرن وأبوابها مفتوحة على مصراعيها، واختفى القماش الذي كان يغطي الجسد.
كانت هناك أربع دوائر كبيرة مرسومة حول السرير، وفي كل دائرة شمعة سميكة مضاءة.
“سنفتح اليوم أبواب الجسد لنطلق الروح”
بإشارة من الوسيط، اقترب هنري وجوديث من السرير.
“الروح بطبيعتها تنجذب إلى الحياة”
أوضح أن جسد إيرن يحتاج إلى الدم الحي والنابض لكل من هنري وجوديث.
فكرة سحب الدم من إنسان حي كانت مرعبة، لكن إذا كان الحل يكمن في قطرة دم واحدة، فلا بأس.
“سيدتي، اقتربي قليلاً”
كان موضعها قريبًا من الجسد السفلي لإيرن.
كان ضوء القمر مشرقًا بشكل غير معتاد، منسابًا على جسد إيرن العاري.
رغبت في التزام الاخلاق واللباقة، لكن الأمر كان صعبًا للغاية؛ فجسد إيرن المميز كان لافتًا للنظر رغم إرادتها.
بدايةً، وخز الوسيط طرف إصبع هنري بالخنجر، ليسمح لقطرة دم بالانسياب نحو جبين إيرن.
ارتعشت رموش إيرن بخفة، مما جعل جوديث تميل برأسها متسائلة.
“إلى حيث ستذهب، سترحل.
هذا المكان ليس وجهتك.
بقاؤك في هذه الدنيا سيجلب لك العذاب”
التفت الوسيط نحو جوديث ومدت يدها.
شعرت بألم حارق في إصبعها.
قطبت حاجبيها قليلاً، وقرّبت إصبعها الذي يسيل منه الدم نحو أسفل جسد زوجها.
وفور أن سقطت قطرة الدم على جلده، انقبضت عضلات فخذه.
في تلك اللحظة، امتدت يد بسرعة خاطفة وأمسكت بمعصمها.
تملكها الذهول، فقد كان الوسيط وهنري كلاهما يغطيان فميهما، فمن إذن هو صاحب هذه اليد؟
“أنتِ… من تكونين؟”
إنه إيرن راينلاند.
كان صوته مبحوحًا، وكأنه يصارع أثر صمت طويل.
“ماذا فعلتِ بي؟”
نظر بعينين خضراوين عميقتين تماثل أوراق الشجر في الغابات الكثيفة إلى جسده العاري، ثم إلى جوديث.
ارتسمت على ملامحه علامات الاستفهام.
“هل كنا … نفعل ذلك؟”
تجمدت جوديث مكانها من هول المفاجأة.
تطلعت إلى هنري الذي كان مذهولًا على الأرض.
“لا يمكن أن يكون…”
“أنا لا أحب هذا النوع من الأمور”
قال إيرن بنبرة متبرمة، وعيناه تسألان جوديث عن تفسير لما حدث.
ما الذي يمكنها أن تقوله؟ كيف تخبره بأنه قد عاد إلى الحياة؟ هل يجب أن تبدأ بالقول:
“مرحبًا، أنا زوجتك”؟
“آه… عزيزي؟”
لكن دون شك، إيرن كان أكثر ارتباكًا بكثير من العبارة التي تفوهت بها بعد أن تخلت عن كل محاولات الشرح.
—
لقد قالوا إن الطقس كان يهدف إلى إطلاق الروح، فلماذا إذن عاد الجسد إلى الحياة؟
هرب الوسيط الذي كان من المفترض أن يجيب عن السؤال، بينما وقفت جوديث وهنري في حيرة أمام إيرن الذي عاد للحياة.
“تبًا”
جوديث ضغطت شفتيها بتوترٍ متصاعد، وهي تغرق في دوامةٍ من أفكارٍ مُفزعة.
أسوأ كابوسٍ راودها كان أن يبقى جسد إيرن كما هو، دون أن يُظهر أدنى علامة على التحلل، حتى بعد دفنه.
لكن، هل يُعقل ذلك؟ أهو حي؟ حيٌّ فعلاً؟
“لماذا؟ لماذا لازلت على قيد الحياة؟”
كأنك رسولٌ ملعون أُرسل لبعثرة الأرواح.
إن كنتَ رسولًا، فخذ من تشاء وارحل، لكن لماذا تُحيي الموتى؟
والأسوأ، لماذا تُعيد إيرن راينلاند بالتحديد؟!
في الحكاية الأصلية، لم يكن إيرن سوى تجسيدٍ للجنون في أعين الجميع.
كانوا يطلقون عليه ألقابًا بشعة كـ”الكلب المسعور” أو “المجنون”، وأخرى لا تُقال إلا همسًا.
لم يكن ذلك من فراغ؛ فقد كان إيرن رمزًا للفوضى والانفجار، رجلًا لا يُبالي إلا بلحظته.
إذا التقط سيفه، اشتعل كالعاصفة، لا يفرق بين قريبٍ أو بعيد، حليفٍ أو خصم.
لكنه لم يكن مجرد فوضوي؛ بل كانت طُرقه عنيفة، بعيدة كل البُعد عن أي شكل من أشكال التحضر.
لو لم يكن يمتلك مهاراتٍ مبهرة إلى جانب شخصيته العنيفة، لما استمر يومًا في صفوف فرسان الإمبراطورية.
لكنه، مع ذلك، كان أحد أعظم فرسانها.
هو البطل الذي حوّل المستحيل إلى نصر، وخلّف وراءه إرثًا لا يُمحى.
ورغم هذه الشهرة الممزوجة بالخوف، وجد إيرن نفسه يعمل في قصر الإمبراطورة، ضمن الجوانب المظلمة للرواية الأصلية.
كانت مهمته الرسمية “حماية” ابنة أخت الإمبراطورة، البطلة.
لكنها في الواقع كانت رقابة مشددة، أشبه بعينٍ لا تنام.
في القصة الأصلية، تسللت البطلة إلى القصر الإمبراطوري لتنفيذ مهمة سرية:
إلقاء لعنةٍ على ولي العهد بأمرٍ من الإمبراطورة.
لكن خطتها انحرفت حين وقعت في حبه.
رغبت البطلة في إنقاذ ولي العهد، لكن عقبةً كبيرة وقفت في طريقها، وهي إيرن.
لم تستطع التحرك خطوة دون أن تتسلط عليها عيناه الحادتان.
وفي لحظة يأسٍ، ألمحت البطلة إلى أن الإمبراطورة تخطط لإغراق الإمبراطورية في فوضى لا نجاة منها.
لكن إيرن، كما لو أنه حجر صلد، تجاهل كلماتها وكأنها لم تُقال.
حتى ولي العهد، ورغم مكانته وسلطته، لم يستطع ثني إيرن عن قراراته.
إيرن لم يكن يبحث عن المال، ولم يكن طامعًا في المجد.
بدا وكأنه مهووس بشيء أعمق، شيء لا يستطيع أحد فهمه.
أحد مساعدي ولي العهد اختصر شخصيته بكلماتٍ مقتضبة: “إنه مجنون، لا أكثر ولا أقل”
لكن، عندما نصف شخصًا بالجنون، ألا يكون ذلك لأنه يعاني من شغفٍ مفرطٍ بشيء ما؟ كالمال، أو السلطة، أو حتى الحب؟
إيرن، على عكس ذلك، لم يكن يعاني من اضطراب نفسي، ولم يكن أسيرًا لهوسٍ معين.
كان لغزًا غامضًا، يتحرك بدافعٍ لا يفهمه أحد.
في تلك الأثناء، عُوقبت البطلة وسُجنت بعد أن اكتشفت الإمبراطورة أنها تحمل طفلًا في أحشائها.
حينها، أدركت البطلة أن محاولاتها لإقناع إيرن كانت عبثًا.
لكن بطريقة غريبة، وجدت نفسها تعترف له بكل شيء. ربما أرادت أن تُخفف عن نفسها عبء الأسرار.
قالت له إن ولادتها لهذا الطفل ستعني موتها،
وإن الإمبراطورة ستستغل الطفل كأداة لتحقيق طموحاتها.
للمرة الأولى والأخيرة، أظهر إيرن رد فعل مختلفًا.
وكأن شيئًا انكسر داخله، ساعدها على الهروب.
لكنه فعل ذلك بطريقته الخاصة، بأسلوبٍ دمّر حياتها وجسدها في آنٍ واحد.
أحد المساعدين كرّر تعليقًا آخر:
“إنه ليس مجنونًا فحسب، بل لديه قناعة راسخة”
إيرن كان رجلًا يتحرك بدافع القناعة وحدها.
“وهذا هو الأمر الذي يجعل منه خطرًا مضاعفًا”
لم أستطع فهم ما الذي يدفعه لاتخاذ قراراته.
“بشخصية كهذه، سيطلب الطلاق فورًا”
بالنظر إلى الظروف، كان أي شخص طبيعي سيفعل ذلك.
من سيقبل بالاستمرار في زواجٍ قسري أُجبر عليه وهو يواجه شبح الموت؟
السيناريو الأسوأ كان أمامي.
لو كنتُ أعرف أن الأمور ستنتهي بهذا الشكل، لما تجرأت على استخدام لقبه كضمان لدَيني.
ماذا لو طلب إيرن الطلاق؟
اللقب النبيل ملكٌ له بلا شك.
وبما أن زواجنا كان قصيرًا، فلا حق لي في المطالبة بأي جزء من الممتلكات.
هذا يعني أنني سأُطرد خالية الوفاض، محاطة بديونٍ تصل إلى 200 مليون ذهبية، دون أي فرصة للنجاة.
“هل ينبغي أن أطلب منه تأجيل الطلاق حتى أتمكن من بيع المنزل بسعر معقول؟”
حتى لو بِعت المنزل بنصف قيمته، يمكنني تجاوز الأزمة.
لن يكون هناك ربح، لكن على الأقل لن أجد نفسي مطاردة من المرابين.
“ربما كان يضعف أمام دموع النساء؟”
في القصة الأصلية، كان إيرن يستجيب فقط إذا توسلت البطلة إليه وهي تبكي.
ربما لديه نقطة ضعف عاطفية مخفية.
حتى الكلب المسعور للإمبراطورية لا بد أن يحمل شيئًا من الإنسانية.
“حسنًا، يبدو أن الوقت قد حان لتجربة خطة إثارة التعاطف”
—
إيرن لم يكن إنسانًا سويًّا؛ بل كان رجلًا حُطّمته الحياة.
لكن، متى بدأ كل هذا الانكسار؟
أكان عندما حاولت والدته التي أنجبته من علاقة غير شرعية خنقه قبل أن تتخلى عنه؟
أم حين أدرك أن أمه، التي قبضت المال من الكونت وسلمته له، ماتت قبل أن تنفقه؟
أو ربما عندما ظهر والده بعد سنوات طويلة فقط ليستخدمه كوسيلة للفرار من الحرب؟
أم عندما رفض قادته الإنصات لتحذيراته بسبب أصوله، مما أدى إلى كارثة انتهت بإبادة وحدته بأكملها؟
أو ربما عندما حاولت الكونتيسة الوحيدة التي عاملته بقدرٍ من اللطف التخلص منه عند عودته منتصرًا من الحرب، خوفًا من أن يُطالب بإرثٍ لا تريده له؟
نعم، ربما كانت هذه هي اللحظة التي رسمت نهايته.
إيرن عاش في عالمٍ مليء بالخيانات ومحاولات الاغتيال، لدرجة أنه نسي طعم النوم العميق.
ألا يصاب الإنسان بالجنون حين يُحرم من الراحة؟ ربما كان هذا ما حوّله لما هو عليه الآن.
التعليقات لهذا الفصل " 6"