“قبضة من حديد،
أهي؟”
في النهاية، أليست كلها متشابهة؟
حين أطلق إيرن ضحكة ساخرة، كان كين قد بلغ ذروة الغضب، فانقضّ موجّهًا لكمة عنيفة نحو خصمه.
ورغم جسده الضخم، تحرّك بخفة لافتة.
تفاداها إيرن بانحناءة بسيطة لعنقه، ثم اندفع للأمام، رافعًا ركبته ليصيب كين في معدته، قبل أن يعرقله حين ترنّح إلى الخلف.
ارتطم كين بالأرض بعنف، وحين حاول النهوض، عاجله إيرن بركلة قوية إلى جانبه، ثم ثبت قدمه على صدره، مانعًا إياه من الحراك رغم مقاومته.
“الحكم!”
“عشرة… تسعة… ثمانية…”
طوال العدّ التنازلي، حاول كين أن ينهض، لكن عناده لم يُفلح.
“واحد.”
أعلن الحكم نهاية الجولة، بينما كان كين يلهث غاضبًا، يضرب الأرض بقبضتيه في خيبةٍ لا طائل منها.
كان الأمر بمثابة صدمة له، أما إيرن، فقد كان واثقًا من فوزه منذ اللحظة الأولى.
ومع ذلك، لم يتوقع أن يشعر بهذا القدر من الرضا… بل إن فرحته المفاجئة كانت غريبة عليه.
شعر، بطريقةٍ ما، بسعادة خفيفة.
لم يتصور أنه سيبتسم بعد نزال نتيجته محسومة مسبقًا، لكنه فعل.
وسُرّ.
“رائع!!”
صدحت هتافات جوديث في أرجاء المدرج، الذي عمّه الصمت بعد سقوط “كين القبضة الحديدية”.
التفت إيرن نحو الصوت، فرآها تقفز فرحًا وتلوّح له وسط جمهور من العجائز أنهكتهم الحياة.
أن تضحك بهذا الصخب؟!
حدّق فيها بدهشة، وكأنها توشك على الانهيار من فرط الحماسة، وقبل أن يستوعب الموقف، صدح صوت الحكم مجددًا:
“الفوز للضعيف النحيل!”
“…من هذا بحق الجحيم؟!”
—
واصل الرجل النحيل تقدمه.
“ههه…”
اتسعت ابتسامتي حتى لامست صدغَي رأسي.
إيرن فاز في أول ثلاث مباريات متتالية، ورهاني البسيط الذي بدأ بعشر قطع فضية، تضاعف إلى مئة، ثم ثلاث عملات ذهبية.
“الفوز للنحيل!”
رفع الحكم الراية مجددًا، معلنًا فوز إيرن، لكن ملامحه لم تُظهر أي فرح.
“أيها الحكم، أنا اللاعب رقم ٣٦.”
قالها إيرن محتجًا وهو يمدّ الرقم الذي حصل عليه عند التسجيل.
“أعرف، أيها النحيف.”
أتعرف فعلًا؟ لا يبدو الأمر كذلك…
“هل تراني نحيفًا؟!”
حتى في طفولته البائسة، حين كان ينام جائعًا، نما جسده بسرعة.
بل كان يُعد ضخمًا بين الفرسان.
فكيف يُقال له الآن إنه نحيف؟!
“لا تغضب، كل من يشبهك يُلقّب هكذا هنا.”
“كل من يشبهني؟”
غمغم إيرن بضيق واضح.
“إذن، سأدعوك الوسيم.”
مرّر يده على عرقه، فكشف عن ملامحه الحادة: عينان باردتان، جبين عريض، وأنف مستقيم بارز.
“…يا للغباء، حظي سيء.”
حتى خصمه الملقى على الأرض قالها.
أن تسمعها من رجل قبيح أمر معتاد، أما من رجل وسيم؟ فذاك شيء آخر.
“اخرج، أيها النحيل.”
ربما شعر الحكم بنفس الإحساس، لذا تجاهل وسامته عمدًا.
“تغار؟ يا لك من بشع.”
غمز إيرن ساخرًا، ثم غادر الحلبة غير مكترث بشتائم الحكم واللاعبين.
ما حيلتي؟ وُلدت وسيمًا.
في غرفة الانتظار، خلع قميصه الملطخ بالعرق ودماء خصومه.
رغم بساطة القتال، كانت حرارة التنافس تتسلل إلى عضلاته المتوترة.
وبينما كان يُجفف جسده، انفتحت الستارة فجأة، واقتحمت جوديث المكان.
“إيرن!”
أرتمت عليه بعناقٍ مفاجئ، دافئ، التصق بجسده العاري تمامًا.
“هَي، ما الذي تفعلينه؟!”
أمسك بكتفيها محاولًا إبعادها، لكنها كلما دفعها، زادت تشبثًا.
من أين لها بهذه القوة؟
يمكنها خوض المعركة بدلًا عنه بهذا العزم!
“كنت أعلم أنك ستنتصر.
هيهي.”
مع كل نفس يلامس بشرته، كانت عضلات صدره تنتفض.
“أجل، فهمت.
لذلك كفي عن الضحك بهذه الطريقة.”
“اهدأ.”
دفعها بعيدًا بحسم.
“أنت متعرق.
مقرف.”
“مقرف؟ أنت من تقاتل من أجل المال.
دعيني أغسلك إذًا.”
“كلا.”
انتزع المنشفة من يدها، بعدما حاولت سرقتها خلسة.
خلف الستار، دوّت ضحكات اللاعبين.
“هل هي زوجتك؟ أم حبيبتك؟”
“لا.”
“أ أنت محرج، أيها النحيل؟”
“لست نحيفًا!!”
كانت جوديث، التي فاضت جيوبها بالمال، في مزاج بهيج أكثر من المعتاد.
لكنها على الأقل بدت خجلة قليلًا.
—
عشر عملات ذهبية… كم من الوقت كنت سأحتاج لصنع مئة فضية لأحصل على هذا المبلغ؟ لقد راهنت، وربحت.
عشر فضيات صارت عشر ذهبيات، وقد تصبح مئة!
ولو راهنت بمئة؟ ربما أربح ألفًا…
لم يعد سداد الدين البالغ 200 مليون مجرد حلم.
“إيرن…”
عادت جوديث إلى القصر، وأسندت رأسها إلى باب غرفته.
“هل هناك ما تشتهيه؟”
ليأكل جيدًا… ليقاتل أفضل.
ابتسمت بهدوء.
لقد بدا إيرن مفيدًا جدًا اليوم.
حتى وسامته أشرقت أكثر.
“ما بكِ؟ تصرفي بطبيعتك.”
هل تغيّرت فقط لأنه جلب المال؟ تنهد، لكن ابتسامتها لم تتبدل.
“هل ترغب بطعام خاص؟ أم أدلّك جسدك المتعب؟”
“هل تحقّقين رغباتك الأنانية؟”
“أنانية؟ يا سيدي، أنانيتي واحدة: المال.”
لم يجد ردًا على صدقها العفوي، رغم أنها لم تتناول مصل الحقيقة!
“أرجوك، كرر إنجازك غدًا.”
“هاه، وسأُلقب بالنحيف مجددًا.”
“دعك منهم، هذا غيظ من وسامتك.
الجميل مثلك لا بد أن يُحسد.”
هل أصبحت بارعة في المديح فجأة؟! لطالما رمقته بنظرات حانقة حين يتفاخر…
أما الآن؟ فقد غمره التحوّل المفاجئ.
“ابتعدي.”
لوّح لها بيده ليصرفها.
“ستلجأ للنوم؟”
“بل سأغوص في فلسفة المال لدى البشر.”
لكن جوديث لم تبتعد، بل بدأت تعبث بكتفه.
“هل هذا وقت الفلسفة؟ علينا التفكير كيف نجعل القتال أكثر إثارة، والرهانات أعلى.”
“لستِ من سيتقاتل غدًا.”
“وإن فعلتُ، فاعلم أنني أعتزل.”
وضعت يدها على بطنها، وانحنت قليلًا ثم غادرت.
لن تفعلها.
لا أعلم ما الذي لن تفعله، لكنها لن تفعلها.
استلقى إيرن على السرير، وأصغى إلى أصوات جوديث من خلف الباب المفتوح جزئيًا.
مدّ يده، وخدش صدره حيث لامس شعرها جلده، فشعر بوخزٍ غريب.
القتال معتاد، والنصر متوقع.
لكن… هل سبق أن أسعد فوزه أحدًا؟
خاض عشرات المعارك، وربحها، لكن لم يشاركه أحد فرحته… حتى اليوم.
لم يكن ذلك غريبًا سابقًا، لكنه الآن يشعر بالغربة من فرحة جوديث.
إن فاز غدًا، هل ستفرح مجددًا؟
خطرت ابتسامتها في باله، فارتجف.
هل أصبحت تعنيه فعلًا؟
تنهد ضاحكًا.
“ربما اعتدت وجودها… كوننا نعيش تحت سقف واحد.”
هكذا هي الألفة، تُخدع بها تدريجيًا.
حتى امرأة ترسل زوجها لساحة قتال غير شرعية، قد تبدو مثيرة للشفقة إن ابتسمت.
“هل أنا طبيعي؟”
بدأ إيرن يشك في سلامة عقله.
—
“نعم… نعم، إيرن، لا، سيدي إيرن… لقد انتهى الأمر!”
كانت جوديث تحتضن كيس الذهب، تحدّق به بعينين دامعتين.
مرّت خمسة أيام منذ دخوله الحلبة، ولم يخسر مرة واحدة.
رهاناتها كانت رابحة، وجيوبها امتلأت.
مرّ أحد اللاعبين بجانبه وقال:
“ستفوز مجددًا، أيها النحيل!”
تجهّم إيرن.
“إن كان ينتصر دائمًا، فلماذا لا يزال لقبه ‘النحيل’؟ لماذا لا يُقال له ‘القوي’ أو ‘الفائز الدائم’؟”
“ما هذا، أطفال؟”
“أم أن ‘النحيل’ يناسبه؟”
“أفضل من ‘القذر’.”
أليست هذه مبالغة؟! لم يختر هذا اللقب أصلًا!
لكن جوديث لم تعبأ باعتراضه، بل اندفعت نحو منصة الرهان بعينين تلمعان بالحماسة.
“سنفوز بهذه المباراة أيضًا، إيرن!”
قبضت بيديها بحماسة وانطلقت بخفة.
هل ستتحوّل إلى نسخة من شقيقها؟ يا للأسف…
وبينما كان إيرن يدخل غرفة اللاعبين، سمع صوتًا غريبًا خلفه:
“قالوا… إنها جثة خالدة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 32"