“إيرن، هل تعرف كيف يمكن الهروب من تلك الحشرة؟ إذن ساعدني.
أليس هذا مثيرًا للشفقة؟”
بدا أن هنري قد تعلّق بجوديث، وكأن في داخله شعورًا بالأسى تجاهها بعد انهيارها.
“لا أعرف بالتحديد.
لكنني أعرف شخصًا يعرف كيف.”
“إذن أخبرني من هو، وسأُحضر زوجتي وأعود.
أما أنت، فتابع تنفيذ خطتك.”
لم يبدُ على وجه إيرن أيّ تعبير وهو ينظر إلى أمتعته المكدّسة، لكن في عينيه انعكست أفكارٌ متشابكة ومعقدة.
كان هنري يظن أن سبب اضطرابه هو تعثّر خطته لتعقّب “كليف” وكشف حقيقة وفاته، غير أن الحقيقة لم تكن كذلك.
فبمجرد أن وقعت عيناه على كيس الحرير المألوف، أدرك إيرن غريزيًا أن الأمر ليس محض صدفة.
“إيرن.”
“لا تقلق.
سأتولى الأمر.”
سواء أكان الأمر مصادفةً أم قَدَرًا، كان يمكنه أن يتجاهل كل شيء ويرحل، لكنه لم يستطع أن يصرف نظره عن جوديث.
رغم مرونتها، فإن الشراب الذي حصلت عليه بانكسار كبريائها، والحصان الذي اشترته له كهدية وداع، جعلا إيرن يتردد.
رغم أن اليد التي دفعت الثمن كانت ترتعش، ووجهها بدا وكأنه سيمزّق نفسه من شدة الحرج.
إذا فكّرت في الأمر… أليس في ذلك شيءٌ يُحترم؟ أن تفعل كل هذا رغم كراهيتها الشديدة له؟
…هل يُعد هذا تصرفًا نبيلًا؟ أيمكن وصفه بذلك؟ لقد منحها لقب “الكونتيسة” واسمه العائلي، بل أنقذ حياتها مرتين، فهل من المبالغة أن يتوقع منها حصانًا في المقابل؟
“لكن من هو ذلك الشخص؟ الذي يعرف عن تلك الحشرات؟ هل هو نبيل رفيع المستوى؟”
سأل هنري بقلق ظاهر.
“أظن أن هناك سببًا لعدم ذِكرِك إيانا له منذ البداية.”
“إنها ليست نبيلة رفيعة.
بل امرأة تعيش في أحياء الصفيح، على أطراف العاصمة.”
كان إيرن فقط لا يرغب في رؤيتها مجددًا.
—
صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير صرير—
حككت أذني في نوبة من الغضب، إثر صوت الحشرة التي كانت تقضم بجوار طبلة أذني.
ذلك الشيء الذي ينهشني لا بد أنه نهاية حياتي.
لو تخلصت من هذه الحشرة… ألن أتمكن من النجاة؟ رميت كيس الحرير في المدفأة، فتطايرت شرارات.
مهما بلغت قوة هذه الحشرة المفترسة، هل بوسعها أن تهزم النار؟ حاولت تهدئة قلقي وأنا أضيف الحطب.
لكن بعد ساعات…
“مهما كان منظره قبيحًا، ألا يمكن على الأقل التخلص منه في مكان مناسب؟”
“…هاه؟”
إيرن، الذي غادر في الصباح الباكر، عاد وهو يحمل كيس الحرير الأصفر.
“أحرقتِه؟”
“كان في منتصف الرواق.”
كيف عاد إلى الرواق؟ خطفت الكيس من يد إيرن بسرعة، وألقيت به في جرّة الماء.
مهما كان قويًا، فهو كائن يتنفس.
ما لم يكن سمكة، فسيختنق ويموت.
لكنني كنت مخطئة.
فحين ذهبت إلى المطبخ لأعد الطعام، كدت أن أفقد وعيي عندما رأيت الكيس الحريري يتدلّى من رفّ المطبخ.
كيف عاد إلى هنا؟ لنفترض أن الحشرة زحفت مبتعدة.
وماذا عن الكيس؟
كيف بقي نظيفًا تمامًا دون أي أثر للاحتراق؟
“لو كان من السهل التخلّص منه، هل كانت أسرة الكونت كلها ستباد؟”
“هل سأموت هكذا، يا سير إيرن؟ تُلتهمني حشرة؟”
هناك آلاف الطرق للموت في هذا العالم، فلماذا أختار أن تلتهمني حشرة؟ ليست ذئبًا، ولا دبًا، بل حشرة تشبهني!
هل هذه هي النهاية؟ وضعت قطعة الخبز الملطّخة بالمربى جانبًا، وقد فقدت شهيتي تمامًا.
“لقد وجدت شخصًا يعرف كيف ننجو، وسأنهي هذه القصة.”
“حقًا؟”
“نعم.
سنذهب معًا لاحقًا.”
تنفّست الصعداء، لكن سرعان ما راودتني تساؤلات.
“من هو ذلك الشخص؟”
“شقيق والدتي.”
“يعني خالك؟”
هزّ إيرني رأسه نفيًا.
“إذن خالتك؟ لا، أعني… ما اسم شقيقة الأم؟”
بردت نظرات إيرني فجأة. لم تكن علاقته بها وثيقة بما يكفي ليسميها “خالة”.
لم تكن حتى غريبة… بل أسوأ من الغريبة.
—
هل كنت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري؟
كان ذلك العام الذي نال فيه إيرن لقب الفارس، وتم تعيينه في فرقة الفرسان.
أُرسل منفردًا للتحقيق في منزل يُقال إنه مسكون بالأشباح.
كانت طقوسًا تقليدية يُمارسها الفرسان القدماء على المجندين الجدد.
لم يكن إيرن يؤمن بالأشباح، فضحك وذهب بكل ثقة.
المنزل الذي يُشاع أنه مسكون، كان كوخًا صغيرًا عند أطراف الغابة.
بسيط ونظيف.
مهجور فقط، فانتشرت عنه الشائعات.
ولأنه كان يتحايل على المهمة، بدأ يفتح الأدراج والخزائن، إلى أن وجد كيسًا من العملات الذهبية تحت الأرضية.
كيس حرير أصفر بحجم جذعه.
كان داخله سبيكة من الذهب.
فملأه دون تفكير.
ظنّ أن ما وجده من ذهب يمكنه أخذه لنفسه.
ثم نسي الأمر تمامًا.
وبعد عدة أشهر، وفي يوم تسلّمه مكافأة مالية ضخمة، سعل إيرن دمًا لأول مرة.
ثم بدأ يضعف يومًا بعد يوم.
ينزف من أذنيه، أنفه، ويسعل الدم.
وأخيرًا طريح الفراش، لا يتوقف نزيفه.
ظن أنه يحتضر.
حينها فقط تذكّر والدته.
رغم أن ذكرياته عنها كانت مليئة بالسكر والشتائم، ورغم صراخها المستمر: “لقد دمرتَ حياتي”، إلا أنه كان يريد رؤيتها لمرة أخيرة قبل الموت.
أخذ كل ما ادّخره وذهب لرؤيتها.
فقد كان يعلم أنها لن ترحب به إن جاء صفر اليدين.
وما نفع المال إن كان الموت قريبًا؟
اعتبر ذلك بمثابة نفقة أخيرة.
نوع من ردّ الجميل للكونت الذي أنجبه ثم تركه يتربى في البؤس والبغضاء لثماني سنوات.
ذهب إلى المنزل الذي عاش فيه معها أثناء مرضه، لكنه لم يجدها.
بل وجد جدّته، وعمّته، وكاميلا.
ومنذ ذلك اليوم، عاش إيرن على حافة الموت.
لا يدري كم مضى من الوقت، حتى استفاق ليجد كاميلا تطرده بغضب:
“ارحل، ولا تعد مجددًا.”
طُرد من دون تفسير.
لكن الغريب… أنه شُفي تمامًا بعد أيام قليلة.
ولم يبحث عن والدته بعدها أبدًا.
ثم، قبل عامين، قبيل تمرد الإمبراطورة، أتت كاميلا لزيارته.
كان واضحًا أنها تطلب المال.
فأعطاها دون كلام، فقابلته بوقاحة وقدمت له ورقة كُتب فيها عنوان منزلها.
“إن أردت أن تسمع القصة، تعال وابحث عني.”
قصة؟ عن والدته؟ أو جدّته؟ لم يكن يهتم.
فوجه والدته قد أصبح باهتًا في ذاكرته، فما فائدة نبش الماضي؟ اعتبر ما فعله مجرد ردّ جميل لإنقاذ حياته يومًا ما.
لكن عندما رأى كيس الحرير الأصفر مجددًا في قصر راينلاند، أدرك أن “القصة” التي تحدّثت عنها كاميلا، لم تكن عن أمه… بل عن تلك الحشرة الغريبة.
عندما سمع عن مذبحة آل راينلاند، خطرت له لمحة من ذلك الكيس وتلك الحشرة الذهبية.
لم يكن يعلم ما الذي قد يحدث إذا قتلتك حشرة، لكنه لم يتخيل قط أن الحشرة ستكون في قصر الكونت راينلاند.
كيف وصل كيس الحرير الذي التقطه طفلًا إلى هذا المكان؟
شاء أم أبى، حان وقت سماع السبب.
—
منزل كاميلا.
أتيت هنا طلبًا للنجاة، لكنني شعرت وكأنني أجلس على فراشٍ من الشوك.
كنت قد خمّنت أن علاقتها بإيرن ليست وطيدة، ولكن أن تبلغ هذا الحد؟
حتى أثناء دخولنا، لم يتبادلا التحية.
بدلًا من السلام، أخرج إيرن كيس الحرير ورماه نحو كاميلا، التي عبست قليلًا ثم أومأت برأسها.
عينان خضراوان، تشبهان عيني إيرن، حدّقتا في الكيس.
“كنت أعلم أنك ستعود بسببه، لكني لم أتوقّع أن أراه مجددًا.”
كان في صوتها شيء ينذر بالسوء، تمتمت بكلماتٍ لم أُميّزها… دعاء أم تعويذة؟
“هل تعرف ما هذا؟”
لم يذكر إيرن شيئًا عني، ولم تسأل كاميلا من أكون أو لماذا أُحضرت.
سألتني فقط إن كنت أرغب بكوب شاي، ما جعلني أشعر بغرابة أكثر.
“إنه نوع من الحشرات تُدعى ‘عصفورة الذهب’، آنسة.”
“عصفورة الذهب؟”
“إنها حشرة تجلب لصاحبها كنوزًا وذهبًا وفضة، مقابل أن تختاره سيدًا لها.”
هاه؟ حدّقت في الكيس الحريري بنظرة جديدة.
مجرد دودة؟
“وبينما يُفتن السيد بالثروات، تكون الحشرة قد بدأت بأكله من الداخل.”
ماذا؟ آفة؟
“وفي النهاية… يموت الإنسان بعد أن تُثقب أعضاؤه.
ينزف من كل فتحة في جسده.”
فركت ساعدي وأنا أتذكّر مشهد الدم يسيل من أنفي.
جسدي اقشعر.
“وماذا أفعل إذًا؟”
“هناك طريقتان: الأولى… إطعام الحشرات.”
التعليقات لهذا الفصل " 25"