1
“كيفَ آلَ بي الأمرُ إلى هذا الموقف؟”
كانت الغرفةُ فسيحةً إلى حدٍّ يُجاوز التصديق، إذ هُدمَ طابقٌ بأكمله ليُقامَ مكانه هذا الفضاءُ المهيب، متّسعًا بما يكفي لأن تركضَ فيه حتّى تنقطعَ أنفاسُك.
تتدلّى من السقفِ العالي ثريّا بلّوريّةٌ تُلقي أنوارًا فاتنةً كأنّها شذراتُ نجومٍ أُسقطت عمدًا لتخطفَ الأبصار.
وتزدانُ الجدرانُ بلوحاتٍ فنيّةٍ باذخةٍ تنضحُ بعراقةِ الزمنِ وسخائه.
الأثاثُ من خشبٍ قانٍ كالعنبر، تُحيطهُ لمسةُ دفءٍ نبيلٍ تليقُ بأبناءِ الطبقةِ الرفيعة، والسجادُ تحت الأقدامِ بدا وكأنّ المرءَ يطأُ صفحةَ الغيم.
تضافرتْ تلك التفاصيلُ لتصوغَ من المكانِ مزيجًا من الرفاهيةِ والخلود، انعكاسًا صادقًا لمجدِ عائلة “إمباوس” النبيلةِ وأصالةِ نسبِها الضاربِ في الجذور.
لم يُغفَل تفصيلٌ مهما صغُر، فالغرفةُ كلُّها كانت مرآةً تُجسّد ذوقَ صاحبها المترفَ ودقّته البالغة.
وعلى السريرِ العريضِ الذي يكفي لثلاثةٍ دون أن يتدحرجَ أحدُهم عن حافّتِه، كانت “إبريل” ممدَّدةً عليه، الغريبةَ الوحيدةَ في هذا الفردوسِ الفخم، تبتسمُ بارتباكٍ ظاهرٍ يخونُ سكينتَها.
وفوقها وقفَ رجلٌ مدهشُ الوسامة، أشقرُ الشعرِ كخيوطِ الشمس، يفكُّ أزرارَ كمَّيه ببطءٍ محسوبٍ بينما يحدّقُ فيها بعينينِ قرمزيّتين قاسيتين لا تعرفانِ الرّحمة.
قال بصوتٍ خفيضٍ ينطوي على تهديدٍ مُبطَّن:
“هل تفكّرين بالفرارِ مرّةً أخرى؟ ألم أُحذّركِ ألّا تغادري هذه الغرفة؟”
كان صوتهُ هادئًا، لكنّ في طبقاته غضبًا خفيًّا جعلَ “إبريل” تتجمّدُ كأنّ الهواءَ انقطعَ عنها.
“تيسون، لا، لم أقصد…”
قاطَعها ببرودٍ مائلٍ إلى السخرية:
“يبدو أنّ إنذاري الأخير لم يجدِ نفعًا.
ترينَ هذه الغرفة؟ هل تبدو لكِ قفصًا للكلاب؟”
تسمرت نظراتُها عليه في ذهولٍ تام.
أيّ معنى غريبٍ هذا الذي يرمي إليه؟
كلّ المنازلِ التي سكنتْها في حياتِها لم تكن لتبلغَ جزءًا من فخامةِ هذه الغرفة، فكيفَ يراها سجنًا؟
لكنّ تفكيرَها انقطع حين فكَّ “تيسون” ربطةَ عنقه واقترب منها بخطًى ثابتةٍ، ليُحيطها بذراعيه ويُطبقَ عليها حصارًا حميمًا بين صدرِه وجدارِ السرير.
انبثقَ عطرُهُ المألوفُ كثيفًا حتّى خالطَ أنفاسَها، فاختنقَ صدرُها للحظة.
قال بنبرةٍ ثابتةٍ تخلو من التردّد:
“هذا هو المكانُ الذي تنتمينَ إليه.
حتى الموتُ لن يُحرّركِ أحدٌ منّي.
وبما أنّ الكلماتَ لا تكفي…”
“انتظر! فقط استمعْ إليَّ لحظة!”
“فسأجعلكِ تفهمين… بطريقتي.”
وما إن همّت بالابتعادِ عنه، حتّى مالَ نحوها بحدّةٍ أرهبتها، ثمّ أمسكَ بذقنها برفقٍ ليُجبرها على النظرِ إليه.
تلاحقتْ أنفاسُهما، ويدهُ المرتجفةُ ما لبثت أن تراختْ قبل أن يبتعدَ عنها قليلًا في اضطرابٍ ظاهر.
قال بنبرةٍ متوتّرةٍ يتنازعُها الغضبُ والعجز:
“ألا تفهمين؟ لا أستطيعُ التراجعَ بعد الآن.”
رمقته “إبريل” بعينينِ متّسعتين، وخدّاها يتوردانِ من شدّةِ الموقف.
اقترب منها أكثر، ثمّ همسَ بصوتٍ خافتٍ كاعترافٍ خجول:
“كلّ ما أحاولُ قوله… أنّكِ تُربكينني.”
أطرقت رأسها بين رغبةٍ في الفرارِ وخشيةٍ من جرحِه، غير أنّه مدَّ يده ليُبعد خصلةً من شعرها انسدلت على وجهِها.
“قلتُ لكِ ألّا تتهرّبي هكذا.”
“أنا لا أهرب… فقط لا أدري ما عليَّ فعله.”
ابتسمَ ابتسامةً باهتةً وقال:
“حين أراكِ، تتبدّدُ الكلماتُ منّي كالدخان.”
سادَ بينهما صمتٌ ثقيلٌ إلا من أنفاسٍ متقطّعةٍ ونبضٍ متسارعٍ يملأُ الجوّ.
رفعت “إبريل” بصرها نحوه، لتراه يُشيحُ وجهَه فجأةً محاولًا أن يستردَّ رباطةَ جأشِه.
“انظري إليَّ، إبريل…
لا تتركي الحديثَ نصفه.”
تردّدتْ، ثمّ قالت بصوتٍ خافتٍ كأنّها تعترف:
“لستُ أنوي الرحيلَ، تيسون…
لكنّني خائفة.”
نظر إليها طويلاً، ثمّ قال بصدقٍ مطمئنٍ يهدّئ العاصفة:
“لا تخافي.
ما بيننا ليس صراعًا…
إنّما سوءُ فهمٍ علينا أن نُصلحه.”
انخفضَ صوته شيئًا فشيئًا حتّى غدا أقربَ إلى الهمس، واستقرّت ملامحُه بعد اضطراب.
كانت “إبريل” تُخفضُ رأسها وقد تاهت أفكارُها بين الخوفِ والعطفِ والدهشة.
‘كيف انتهى بي المطافُ إلى هذه اللحظة؟’
لم يخطر ببالِها يومًا أن تجدَ نفسها وجهًا لوجهٍ مع البطلِ الذي ظنّتْهُ حلمًا بعيدَ المنال.
قال أخيرًا بنبرةٍ حاسمةٍ لا تقبلُ الردّ:
“إبريل…
لا تختفي مجددًا، أرجوكِ.”
فتحت عينيها لتحدّق فيه.
رموشُه الطويلةُ تلقي ظلالًا رقيقةً على وجهه، وتلك الملامحُ الحادّةُ المطمئنةُ بدتْ لها أقربَ إلى الحلمِ منها إلى الواقع.
‘لم أعد أفهمُ شيئًا بعد الآن…’
ثمّ أطرقت رأسها في خفرٍ، وأراحت جبينَها على كتفِه في لحظةِ صمتٍ مرهقةٍ حملتْ من المعاني أكثرَ ممّا تحتملهُ الكلمات.
—
غيرَ أنّ الحكايةَ لم تبدأ هنا، بل قبل هذا المشهدِ بزمنٍ غيرِ قصير.
“هاه، أتراني قد بالغتُ قليلًا في التسوّق اليوم؟”
تمسحُ “إبريل” العرقَ عن جبينها وهي تُفرغُ أكياسَ المشتريات على الطاولة الخشبيّة.
كانت تعيشُ من جمعِ الأعشابِ الطبّية وبيعِها، في كوخٍ صغيرٍ على أطرافِ القريةِ الملاصقةِ للغابة.
“دجاج، لحم، خبز، ملح، زيت، فلفل…”
بالنسبة لمن يعيشُ وحيدًا، بدا هذا القدرُ من الطعامِ كثيرًا.
لكنّ أهلَ القرية، بلطفِهم، اعتادوا تزويدَها بما تحتاجُه كلّما قصدوا السوق.
“هذا يكفيني أسبوعين على الأقل…
أنا ممتنّةٌ لهم حقًّا، لا أدري كيف أردُّ جميلهم.”
قالت ذلك بعينينِ رقيقتين وهي تُقسّمُ الطعامَ وتُخزّنه بعنايةٍ تكاد تشبه الطقوس.
مضى عامانِ منذ أن وجدت نفسَها قد حُلَّت في جسدِ شخصيّةٍ ثانويّةٍ من روايةِ الويب الرومانسيّة <الدوق العبد والسيدة ليلي>.
في البدءِ كانت فوضى من الذهولِ والخوف، ثمّ تكيّفت مع واقعِها شيئًا فشيئًا، راضيةً بحياةٍ هادئةٍ بسيطةٍ على هامشِ الأحداث.
واجهت مواقفَ خطرةً كادت تُزهقُ حياتَها، لكنّها نجت بفضلِ حُسنِ حظّها وكرمِ الآخرين، حتّى غدت قادرةً على الاعتمادِ على نفسها.
وكان الكوخُ الذي تسكنُه الآن هديةً من القرويين الذين بنوهُ لها بأيديهم.
“أوه… لقد نفد ماءُ الشرب مجددًا.”
نظرت من النافذة، فرأت الشمسَ تميلُ نحو المغيب.
كان الخروجُ في هذا الوقتِ مجازفة، لكن إن أسرعت، عادت قبل أن يكتملَ الظلام.
تناولت دلوَها ومصباحها وخرجت.
وعند النهر، جلست تملأُ الدلوَ، ينعكسُ ضوءُ المصباحِ على صفحةِ الماء كوميضٍ مرتجف.
“هذا وحدهُ ما لم أعتدْ عليه بعد…”
رغم أنّها تكيّفت مع بساطةِ الحياةِ هنا، إلّا أنّها ما زالت تفتقدُ الماءَ النظيفَ ووسائلَ الراحةِ الحديثة.
وفجأةً، دوّى خريرٌ خافتٌ قريبٌ منها.
رفعت رأسها متوجّسة:
“ما هذا؟”
لم يكن يفترضُ أن يوجدَ أحدٌ في هذا الموضعِ من النهر عند المساء.
وجّهت المصباحَ نحو الماء، لكنّ الظلالَ بقيت ساكنة.
“ربّما توهّمتُ…”
وما إن أطفأت المصباحَ والتقطت الدلو، حتّى ارتطمَ الماءُ مجددًا بصوتٍ مفاجئ.
“بَشْ!”
قفزَ شيءٌ أسودُ من النهر وأمسكَ بكاحلِها.
“كيـاه!”
صرخت “إبريل” وسقطت أرضًا على حافةِ الضفّة.
وفي ضوءِ القمر، لمحت ظلًّا بشريًّا يخرجُ مترنّحًا من الماء.
“شـ… شبح؟!”
“أنا إنسان، شكرًا لكِ.
كنتُ على وشكِ الموت.”
رفعت نظرها لترى رجلًا شبهَ عارٍ يُبعدُ شعرَه المبتلّ عن وجهه.
تسلّلت عيناها رغْمها إلى صدرِه المشدودِ وبطنِه المحفور، فاحمرّ وجهُها وأشاحت بوجهها فورًا.
قال ببرودٍ هادئٍ يخلو من الحرج:
“أيتها السيّدة، أينَ بيتكِ؟”
“ولِمَ تسأل؟!”
“ألستِ مهتمّةً باسمي أصلًا؟”
انعكسَ ضوءُ القمرِ على شعره الذهبيّ وملامحه الحادّةِ المدهشة.
‘يا إلهي… إنّه وسيمٌ حدَّ الاستحالة!’
كان جسدُه جسدَ محاربٍ صُلْب، لكنّ ملامحَه ما زالت تحتفظُ بنعومةِ الشباب.
أشار نحو الدلو والمصباح وقال بصوتٍ آمرٍ متعب:
“خُذيني معكِ. استخدميني كما تشائين، فقط أطعميني وأعطني مكانًا لأنام فيه.”
“ماذا؟! هل تمزح؟!”
“كما ترين، أنا في حالٍ مزرية.
لا أملكُ خبرةً عظيمة، لكنّي أُجيدُ الأعمالَ الشاقّة… وسريعُ التعلّم أيضًا.
وأُتقنُ كذلك تدفئةَ الأسرّة.”
“ما الذي تهذي به؟!”
“هاه؟ ألستِ من هذا النوع؟”
تجمّدت “إبريل” محدّقةً به في ذهولٍ، بينما هو يعبسُ قليلًا كأنّه تعب من الجدل.
“كفى حديثًا… آه…”
أنّ بأنينٍ خافتٍ قبل أن يترنّح ويسقطَ نحوها.
صرخت وهي تُمسكهُ كي لا يهوي، فتسلّل إلى أنفها عبيرُ الدمِ المعدنيّ الحادّ.
تحسّست جسدَه فشعرت بلزوجةٍ دافئةٍ على أصابعها.
“إنّك تنزف! ماذا حدث لك؟!”
“انسَي الأمر… إن لم تأويني الليلة، سأجدُ غيرك.”
كانت عيناه القرمزيّتان تشعّان بوميضٍ غامضٍ كأنّ خلفه سرًّا عظيمًا.
وبينما تحدّقُ فيه عن قُرب، خطرت لها فكرةٌ مريبة:
‘أيمكن أن يكون… نبيلاً؟’
صوته يحملُ نبرةَ سلطةٍ لا تُشبهُ العامّة، ووسامتُهُ لا تشبهُ البشرَ العاديّين.
“قرّري بسرعة.”
قالها بثقةٍ غريبةٍ رغم ضعفِه، كأنّه لا يعرفُ التوسّل.
تردّدت “إبريل”، لكنّها لم تحتملْ رؤيةَ الدمِ يسيلُ من جراحه، فكان شاحبًا إلى حدّ الموت.
“انسَي الأمر، سأبحث عن شخصٍ آخر…”
“انتظر! ما اسمُك؟!”
أمسكت بذراعِه حين حاولَ النهوض، فرفع حاجبَه بدهشةٍ خفيفة.
“اسمي؟ ناديني بما تشائين.”
“إن كنتَ ستبيتُ في كوخي، فعليَّ على الأقل أن أعرفَ اسمك.
ثمّ إنّك لن تجدَ أحدًا في هذا الوقت المتأخّر.”
رمقَ الغابةَ المظلمةَ المتلفّعةَ بالضباب وقال بنَفَسٍ مستسلم:
“ناديني… تيدي.”
“تيدي؟ اسمٌ جميل.”
“أعلمُ أنّه لا يليقُ بي.”
“لم أقصدْ ذلك…”
ضحكت “إبريل” بخفّةٍ ثمّ تجمّدت.
‘لحظة… أليس بطلُ الروايةِ الأصليّةِ يُلقَّبُ بـتيدي؟’
اتّسعت عيناها وتجمّدَ الدمُ في عروقِها.
أيمكن أن يكون هو…؟
“ما بكِ؟ هل حدث شيء؟”
“…!”
‘كلا، هذا مستحيل… أليس كذلك؟’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"