إيلودي، التي كانت عادةً ستندفع لمشاجرة كارلوت، غادرت دون أيّ تردد.
بل كانت تدندن.
بقي الشقيقان من عائلة بيرديا في مكانهما، يحدّقان في الممرّ الذي اختفت فيه إيلودي.
وكان كارلوت هو من كسر الصمت أولًا.
“أخي.”
“هممم؟”
ضيّق كارلوت عينيه بشكٍّ ظاهر.
“ألا يبدو هذا غريبًا بعض الشيء؟”
شعر بالانزعاج دون سبب واضح، وازداد عبوسه حين ابتسم جانسي ولم يجب.
“هذا ليس مضحكًا.”
كارلوت لم يكن يتخذ ذلك الأسلوب المشاكس إلا مع إيلودي. فناداه جانسي بصوت خشن:
“كارلوت.”
“أنت لا تعترف بها حقًا كأختٍ صغرى.”
“………”
“أعرف هذا جيدًا. هل تفهم؟”
تفوّه كارلوت بتلك الكلمات بحدّة.
كان يدرك ظاهريًا أن جانسي يتظاهر باللطف، لكن الحقيقة أن تلك لم تكن سوى واجهة يُخفي خلفها صورة الإنسان المثالي.
جانسي لا ينسى ذلك اليوم تحديدًا، حين ظهرت إيلودي لأول مرة في العائلة، وكانت حينها رضيعة. في أحد الأيام، أحضر دوق بيرديا امرأة تُدعى أرسليا وأسكنها في الجناح الملحق بالقصر.
ثم قال ببرود:
“إيلودي بيرديا.”
“……..”
“إنها شقيقتكما.”
في تلك الأثناء، انتشرت شائعات كثيرة، تقول إنها عبدة، غير أن الدوق لم يقدّم أي تفسير.
وبالطبع، ظنّ جانسي أن والدته ستثور غضبًا، لكنّ البيت ظلّ ساكنًا على نحوٍ غير متوقّع.
وبعد بضعة أيام، اختفت المرأة فجأة، وبقيت الطفلة في القصر.
لا يمكن للمرء أن يشعر بالحنان تجاه طفلة مجهولة لا تفعل سوى البكاء بمرارة.
بالنسبة إلى جانسي، كانت غريبة عنهم دومًا. ولو أراد قول الحقيقة، فهو بالكاد فكّر فيها، لكنه شعر بمسؤوليةٍ ما فقط لأنهما وُلدا في العائلة ذاتها.
“هذا غريب حقًا. هل أكلت شيئًا فاسدًا؟”
تمتم كارلوت بشكّ، وما زال وجهه متجهّمًا.
يبدو أنه مهتم بإيلودي بيرديا أكثر مما يظنّ. هكذا فكّر جانسي.
فأقارب الدم في عائلة بيرديا لم يكونوا يهتمّون ببعضهم، لأنهم أفراد أنانيون بطبعهم.
لكن كارلوت… لم يكن يشبه عائلة بيرديا.
اتكأ جانسي بهدوء إلى الخلف، وهو يسترجع مظهر إيلودي غير المعتاد.
لم يكن من طبيعتها كبح غضبها.
“أجل… كان الأمر غريبًا.”
اعترف جانسي أخيرًا.
لقد تغيّرت.
إيلودي بيرديا.
[الصورة التوضيحية بالقناة ]
❈❈❈
كان يا ما كان، كانت هنالك سبعة خطايا كبرى دمّرت الأرض. الغرور، الشهوة، الحسد، الغضب، الشراهة، الكسل، والطمع.
هذه الخطايا دمّرت القارة، حين نفّذت أوامر إيركالا – مالكة العالم السفلي – التي لم تشبع أبدًا مما تملكه، وطمعَت في المزيد.
ومع انهيار العالم شيئًا فشيئًا، تقدّمت عشتار، شقيقة إيركالا، ذات القوة المقدسة، لتتصدّى لها.
فوزّعت قواها على سبعة بشر، وأوكلت لكل منهم مهمّة ختم إحدى الخطايا السبع.
وبعد معركة طويلة، انتصر البشر، وأصبحوا يُبجّلون بوصفهم أبطالًا. أولئك الأبطال أسّسوا سبع عائلات، لتصبح هذه الحكاية أساسًا لأسطورة تأسيس إمبراطورية فالنتيان.
ومع مرور الزمن، لم يبقَ سوى خمس عائلات. وهكذا، تأسست أربع عائلات رئيسية، إضافة إلى العائلة المركزية، عائلة فالنتيان، التي أسهمت في التأسيس.
ومن بين هذه العائلات، كانت عائلة بيرديا… العائلة التي أنتمي إليها.
السبب الذي جعلني أتذكّر هذه الأسطورة القديمة فجأة، هو أنها تؤثر في حياتي بشكل كبير.
تلك القوّة.
سواء كانت الأسطورة حقيقية أم لا، فالعائلة الإمبراطورية والعائلات الأربع قادرة على استخدام القوّة جيلاً بعد جيل.
كان هناك وقت حزنت فيه لأن قوّة بيرديا، التي تظهر عادة في سنّ الخامسة، لم تظهر عندي.
ظننت أن السبب كوني طفلة غير شرعية، لكن الحقيقة… كانت شيئًا آخر.
لا يمكن أن أمتلك قوّة التدمير التي تتميز بها عائلة بيرديا، ليس وبهذا الدم.
إذًا، لا أمتلك أيّ قوّة؟ حتى قطرة واحدة من دماء بيرديا لا تجري في عروقي؟
لا…
لكن كانت لديّ قوّة أخرى.
قوّة مباشرة من عائلة أخرى.
لأن والدي هو ريتشارد سيفيريس، دوق سيفيريس.
ولكن، للأسف، الدوق كان في غيبوبة، وغائبًا عن الساحة.
لا بأس.
فقد كانت الشائعات تقول إن دوق سيفيريس لم يتزوّج قط، ولا وريث له، لذا كان مدير أملاكه هو من يتولى شؤون الدوقيّة.
“لماذا والدي في غيبوبة…؟”
تمتمت بتذمّر.
لو لم يكن كذلك، لما اضطررت لبذل كل هذا الجهد كي أعيش. يا لحياتي البائسة.
إن دم آل سيفيريس يجري في عروقي. وكانت سمة قوّة عائلة سيفيريس هي “التطهير”.
عندما استعدتُ ذكريات حياتي السابقة، تذكّرت أن الرواية الأصلية كانت قد ذكرت بتفصيلٍ ما هي قدرتي. فقد استخدمت إيلودي قواها دون وعيٍ منها في مشهدٍ تعرّضت فيه لهجومٍ مرتدّ، بينما كانت تخطّط لحركة خبيثة للنيل من البطلة الأصلية، إستيل. وهناك، كُشف أنّها لم تكن ابنة غير شرعية.
فطُردت من العائلة، ولقيت نهاية مأساوية.
لكنّ الأهم هو أن هذه القدرة يمكن استغلالها بشكلٍ جيد، ما دامت هويتها الحقيقية، كقوّةٍ تنتمي لعائلة سيفيريس، لم تُكتشف.
في القصة الأصلية، يمكن القول إن تلك القوّة كانت سببًا في موتها. لكنني، رغم ذلك، لم أستطع إلا أن أفرح… لأن لديّ قوة بدوري.
كنت أمتلك قوة طوال هذا الوقت.
كنت أؤمن أنني سأُعترف بي كعضوة في عائلة بيرديا، لو ظهرت قواي. ومنذ يوم ميلادي الخامس، كنت أدعو وأتضرّع في كل ليلة ويداي متشابكتان.
بالطبع، لم يعد لذلك نفع الآن، كوني من العائلة لم يعد ذا قيمة، لكنني كنت سعيدة حقًا لأن رغبتي الصادقة بقيت بداخلي.
قبل بضعة أيام، وبعد أن عانيت من الألم إثر استرجاع ذكرياتي من حياتي السابقة، استخدمت قدرتي كتجربة للتأكّد من أنها حقيقية.
“همم. كيف يمكنني كسب المال بهذه القدرة؟”
استغرقت بالتفكير، وأنا أحدّق من النافذة دون وعي، وأسند ذقني إلى راحتي.
ثم وقع بصري على شيء ما.
ساحة خلفية مملوءة بالأعشاب والزهور المتألقة.
كانت تلك مزرعة النباتات السامة الخاصة بالدوقة.
ثيميس بيرديا. كانت الدوقة أعظم خبيرة أعشاب في القارّة. خمسون بالمئة من السموم المنتشرة في الخفاء كانت من تطويرها.
لكن مصدر دخلها الرئيسي كان، ولسخرية القدر، الترياق.
إذ لا يمكنك استخدام السم دون وجود ترياق.
تُعدّ الدوقة، التي تبيع السموم في السوق السوداء، مصدر إزعاج في العاصمة الإمبراطورية. ومع ذلك، لم يجرؤ أحد على المساس بها، بسبب النفوذ الساحق لعائلة بيرديا.
حين أفكّر في الأمر، فقد كان هناك حادثة مؤخرًا في القصر الإمبراطوري أثارت غضب الدوقة.
وفي تلك اللحظة، لمع عنوان في الصحف في ذهني:
[حبوب إبادة الحشرات من بيرديا… هل هي في الحقيقة سمٌ صامت؟]
كان مقالًا يُفيد بأنه، فور صدور مبيد الحشرات الخاص بالدوقة، والذي ثبتت فعاليته في القضاء على الآفات، أصدرت العائلة الإمبراطورية أمرًا بسحبه من السوق.
وبما أنه كان قاتلًا للحشرات، فلم يكن البشر استثناءً، وزُعم أن هناك من استخدموه دون ترياق لإلحاق الأذى بالآخرين.
وباختصار، حين اجتاحت الآفات المحاصيل وهدّدت القارة بموسمٍ زراعي كارثي، تمّ الدوس على نوايا الدوقة الطيبة – التي طوّرت مبيدًا لأجل قضية تؤمن بها – بلا رحمة.
ففشل إطلاق منتجها الجديد تمامًا. ونتيجة لذلك، كانت معنويات الدوقة في الحضيض.
وقد هدّد القصر الإمبراطوري بتطوير الترياقات بأنفسهم كي يعيدوا المبيدات إلى السوق. لكن لم يكن من الممكن تطوير الترياق بهذه السرعة.
بدأ ذهني يعمل بسرعة.
سم قاتل، ترياق، و… قوّتي.
أوه؟
مهلًا.
“أوه، هل يمكن أن ينجح هذا؟”
لقد فكّرت في مشروع رائع لجني المال!.
❈❈❈
باشرتُ التنفيذ على الفور.
أول ما قمت به هو استدعاء مارثا، خادمتي الخاصة. كانت مارثا الوحيدة في القصر التي تقف إلى جانبي. كما أنها ابنة المربية التي اعتنت بي عندما كنتُ رضيعة منبوذة لا يرعاها أحد.
كانت مارثا في مثل سني، وعلى الرغم من كونها خادمة، إلا أنها كانت أقرب إلى صديقة، لذا كنت أضعف أمامها، حتى وأنا قاسية مع الآخرين.
“ما الأمر، آنستي؟”
“مارثا، هل يمكنني طلب معروف؟”
رفعت مارثا يديها في حركة تدل على الرفض القاطع وقالت:
“لا يمكنك الخروج. يجب أن تبقي على مستوى منخفض من الظهور.”
كان القلق بادياً على وجهها، إذ إن إيلودي السابقة كانت معروفة بسجلها الحافل بالخروج من القصر دون إذن، حتى بعد صدور قرار بوضعها تحت المراقبة. كانت ردة فعلها متوقعة، وتُظهر كم كانت ثقتها بي متدنية.
“لحسن الحظ، هذا ليس ما أردتُ طلبه.”
“لحسن الحظ؟ إذن، ما هو الأمر؟”
أشرت إليها بهدوء لتقترب، فمالت برأسها نحوي ووجهها يحمل شيئًا من التوتر. بدأت أشرح لها طلبي بصوتٍ خافت.
كلما استرسلت في الهمس، ازدادت ملامح مارثا شحوبًا.
“لا يا آنسة، لماذا تريدين فعل ذلك؟”
كنت أعلم أنها سترفض، لكن لم أكن أتوقع أن تغضب مني بهذا الشكل.
“لكل شيء موضعه المناسب.”
“لكن هذا خطير جداً! ما الذي تخططين له أيضًا؟”
“مارثا.”
“لا، لا يمكنني الموافقة.”
رفضت مارثا بصرامة، لكنني لم أستسلم.
“…مارثا.”
“لا أستطيع…”
صفّقتُ يديّ معًا ونظرت إليها بعينين متوسلتين، بألطف تعبير أستطيع تقديمه.
“أرجوكِ.”
كانت مارثا ضعيفة أمام توسّلي كما أنا ضعيفة أمام لطفها، فاستسلمت في النهاية ورفعت الراية البيضاء.
“لكن لا تقومي بشيء خطير، أرجوكِ…”
قالت بصوتٍ منكسر.
“حسناً!”
راقبتها بعينين حزينة بينما كانت تنخدع بتوسّلاتي أخيرًا.
‘ آسفة، مارثا. لا أظن أنني سأتمكن من الوفاء بهذا الوعد.’
فالوعد بعدم فعل شيءٍ خطير لم يكن قابلاً للتحقق بالنسبة لي – لأن ما أنوي القيام به ينطوي على مخاطرة.
بعد يومين، وبعد أن أنهيت جميع التحضيرات، خطوت أول خطوة طال انتظارها ومعي المستلزمات.
أوصاني والدي أن أبقى بعيدة عن الأنظار، لكن التجول في القصر لا بأس به.
كنت مرهقة جدًا، وجسدي كان واهنًا بعد العمل المتواصل على مدى يومين. شعرت بدوار شديد حتى أنني كنت على وشك الانهيار في أي لحظة.
‘أرغب في الراحة، لكن من الأفضل أن ألتقي بها في أسرع وقت. ليس لدينا الكثير من الوقت.’
وأنا أسير وحدي نحو الوجهة، بدأت الخادمات اللاتي التقيتهن فجأة يتصرّفن بجدية مفرطة، ويفررن كالفئران. كان هذا الجزء من القصر دليلاً واضحًا على مدى سُمعتي السيئة.
كانت خطواتي نحو حقل النباتات السامة في الحديقة الخلفية مليئة بالحماسة.
كانت الدوقة جالسة أمام طاولة مظللة، تُوجّه العاملين الذين يعتنون بالأعشاب السامة.
وعندما سمعت وقع خطواتي، التفتت برأسها نحوي.
“مرحبًا، دوقة.”
ردّت على تحيتي بابتسامة هادئة: “طال غيابكِ، إيلودي.”
“نعم، وأنا سعيدة برؤيتكِ بصحة جيدة.”
“ماذا قلتِ؟”
نظرتها الحادة جعلتني أشيح ببصري عنها سرًّا. كان قلبي يخفق بقوة خشية أن تلاحظ هذه الدوقة الحادة التغيّر الذي طرأ عليّ.
وفوق ذلك، كان هناك سببٌ آخر لاضطرابي. لقد كنت دائمًا أشعر بعدم الارتياح حيالها.
فالدوقة لم تؤذِني يومًا، رغم كوني طفلة غير شرعية بيعت إلى هذا القصر منذ أن كنت رضيعة، لكن من الواضح أنني كنت شوكة في عينها.
من الذي سيسعد بوجود طفلة لقيطة دُفعت إلى حياته من العدم؟ كان من الطبيعي أن أُشعر بالرفض والضيق.
لا تقلقي، دوقة… سأرحل بنفسي!
ابتسمتُ مجددًا، بأكثر ملامح البراءة التي استطعتُ إظهارها، وأنا أُجدّد عزيمتي على أن أصبح مستقلّة.
تابعت الدوقة الحديث بأدب، وهي تلوّح بمروحتها برفق:
“سمعت أنك تبقين في الظل مؤخرًا، لا بد أنكِ خرجتِ اليوم لأنكِ شعرتِ بالملل.”
“نعم،” أومأت برأسي.
“بقائي في الغرفة كل هذه المدة سبّب لي صداعًا.”
“مم.”
ساد الصمت. وانقطع الحوار.
“………”
“………..”
لم يكن هناك موضوع مناسب للحديث أصلًا.
كانت عينا الدوقة تتفحّصان الأعشاب الضارة الميتة في الحقل، بينما كانت أعمال التنظيف تتقدم.
بدا وكأنها نسيت وجودي، رغم وقوفي بالقرب منها. أو لعلها تتجاهلني عن قصد.
نحن الاثنتان… لن يتغيّر شيء بيننا مهما حصل.
ومع ذلك، لم أكن لأتراجع بهذه السهولة. كنت حريصة على أن لا أسيء إليها.
“العائلة المالكة بالغت كثيرًا. لقد طوّرتِ مبيدًا جيدًا للمزارعين، ومع ذلك أمروا بسحبه من السوق.”
“نعم، هذا ما حدث.”
هل تسخر مني؟.
نظرت إليّ الدوقة بابتسامة خفيفة، وبدا أنها غير مرتاحة، ربما لأنني أثرتُ موضوعًا حساسًا… لكنني نجحت في جذب انتباهها.
لم أُضع الفرصة.
“أعني…”
“تعنين ماذا؟”
“أعتقد أنني أستطيع مساعدة الدوقة.”
أطلقتُ الطُعم.
هيا، التقطيه!
وانتظرت السمكة الكبيرة أن تُصاد، بينما كنت أكتم قلقي في صدري المرتجف.
ثم فتحت الدوقة فمها…
__________________________________________
• حسابي واتباد: Toro1312 !!⭐•
《لاتدع الرواية تشغلك عن العبادات》
ترجمة: ✧𝐀𝐌𝐘✧
التعليقات لهذا الفصل " 3"