خرج إيجنيس من الغرفة التي كان يقيم فيها البابا، وجعل يتجول بقلق في أروقة المعبد دون هدى.
من النوافذ الزجاجية المعشّقة، التي نُحتت عليها أشجار العالم والملائكة، تساقطت أنوار ملونة على الأرضية الرخامية اللامعة. أما فرسان الهيكل، فقد راقبوه بعينين مندهشتين، دون أن ينبسوا ببنت شفة.
‘لماذا لا تخرج حتى الآن؟! حتى لو كان كاهنًا… أليس رجلًا في النهاية؟!’
عُبست ملامح إيجنيس ، وارتسم القلق والتوتر على وجهه بوضوح.
ولم يكن يفهم لمَ يشعر بهذا القلق الشديد تجاه كارينتينا… كان يحاول أن يقنع نفسه ببرود:
‘داميان هو أعز أصدقائي… ومن الطبيعي أن أعتني بأخته. ثم إنني من أفسدت الرحلة معه، لذا من البديهي أن أتعامل معها باهتمام.’
بدأ يفك ياقة سترته، كأن صدره ضاق بأنفاسه. كان يحاول إقناع نفسه كمن يلقّن عقلًا رافضًا.
وفجأة…
انفتح الباب، وظهرت كارينتينا.
تهلل وجه إيجنيس بالارتياح، وتقدّم نحوها بخطى واسعة.
“سيدتـ…”
لكن قبل أن يُكمل، أحس بطاقة غريبة تحيط بها.
وبحكم كونه متساميًا، عرفها فورًا.
“هل تلقّيتِ بركة البابا؟”
ذلك البريق المتلألئ حولها، الذي بدا كأن حبيبات من الجواهر نُثرت عليها… لم يكن سوى هالة البركة البابوية، التي لا يمنحها إلا البابا بنفسه.
نظر إليها وهو يحبس أنفاسه… لقد كانت فاتنة بشكلٍ لا يُطاق.
“نعم، كانت تجربة مدهشة… قال لي كلامًا جميلًا… البابا يبدو شخصًا رائعًا فعلًا.”
قالت ذلك بابتسامة هادئة، ثم التفتت إلى أحد فرسان الهيكل لتبلغه بأن البابا طلب لقاءه.
في تلك اللحظة، شعر إيجنيس وكأن شيئًا ثقيلًا اخترق صدره، فاستحال فارغًا.
‘هل… تمدح رجلًا غيري؟’
اختنق صوته، وضاق صدره، وبدأ رأسه يضج بالضوضاء. عض على أضراسه كأنما يمنع نفسه من الانفجار.
وبعد قليل، خرج ليوناس من الداخل، وكان أسفل عينيه متورمًا على نحوٍ خافت.
“هيا، تفضّلا باتباعي.”
قال ذلك بصوت خافت ومتماسك، وسار أمامهم، يرافقه فرسان المعبد.
سارت كارينتينا خلفهم بهدوء، وكان إيجنيس يسير إلى جانبها، يحاول مجاراتها.
ثم لمح شيئًا في يدها، فتجهم وجهه فجأة.
“سيدتي… ما هذا؟”
“آه! هل تعرفه يا صاحب السمو؟ البابا منحه لي. قال إنه يمكنني زيارته متى شئت دون دعوة مسبقة.”
الكلمات خرجت من شفتيها الرقيقتين كالسكاكين، واخترقت صدره دون رحمة.
توقف فجأة، كما لو أنه لم يعد قادرًا على متابعة السير.
ليوناس يشبهه كثيرًا… بل ربما يفوقه قربًا من النور. لكن خلف مظهره الهادئ يختبئ عقلٌ حاد، محسوب، وبارد. لا يمكن أن يمنح كارينتينا هذه البطاقة عبثًا…
اشتعل صدره غيظًا. لا يعلم نواياه الحقيقية بعد، لكنه أقسم داخليًا…
‘أيًا كان ما يخطط له… فلن أتركه يمسّها.’
“صاحب السمو؟”
أفاق من شروده على صوتها، وكأن نيرانًا باردة أضرمت في حلقه.
أراد أن يأخذها ويغادر بها هذا المكان. بل أن يخفيها في مكانٍ لا يعرفه أحد… حيث لا تراه سوى عيناه.
‘تبًا… هل أنا مصاب بمرضٍ ما؟ عليّ أن أطلب علاجًا من كاهن فورًا.’
مرر يده في شعره بحدّة وقال:
“لا شيء… لنسارع الخُطى.”
ومن النوافذ الممتدة على طول الممر، كانت الشمس ترسل خيوطها الدافئة تلامس بشرته كأنها تسخر منه.
✦
بعد زيارة زنزانة القبو حيث يُحتجز نائب الكاهن فيانو، أسرعت كارينتينا عائدة إلى غرفتها.
لحسن الحظ، كانت ستيلا برفقة سيـريا في مقر إقامة إيغنيس الخاص بالكهنة.
“أوغغ…”
تقيّأت كارينتينا بلا توقف، وارتعشت أطرافها.
فناولهـا إيغنيس كأس ماء بارد، وبدت على وجهه ملامح قلق صادق.
“هل أنت بخير؟”
أخذت الكأس منه ببطء، وهزّت رأسها بإيماءة خفيفة.
لقد ظنت أن السجن في المعبد سيكون كأي سجن ملكي آخر، لكنها كانت مخطئة تمامًا.
كان جحيمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
على عكس مظهر المعبد الأنيق من الخارج، كان السجن تحته بشعًا ومُروّعًا.
رأت الكاهن فيانو وقد شُدّ إلى كرسي معدني تملؤه المسامير الصغيرة التي بالكاد تُرى، وكأنه فقد صوابه.
أما الكهنة الآخرون المتورطون في الفساد، فقد رُبطوا إلى منصات تعذيب ضخمة لا يمكن تحديد ما إذا كانوا أحياءً أم أمواتًا.
كارينتينا، التي كانت ترى هذه الأدوات فقط في الكتب أو المتاحف، لم تتحمل الأمر… فاندفعت هاربة من الزنزانة.
لحسن حظها أن إيجنيس كان برفقتها.
“أنا بخير… هل تمكّنتَ من تسجيل صوت نائب الكاهن؟”
“بفضلكِ… تمكّنا من الحصول على دليل قاطع ضد الكونت بافلو موريس.”
شعر إيجنيس بمزيجٍ من الذنب والقلق حين لمح الشحوب الشديد على وجه كارينتينا، وكأنها على وشك الانهيار.
“لقد كنتُ متهورًا… ما كان ينبغي لي أن آخذكِ إلى هناك. أعتذر.”
كادت كارينتينا أن تختنق بالماء الذي تشربه حين سمعت اعتذاره المفاجئ. لم يكن من عادة إيجنيس أن يعتذر، وكان ذلك غريبًا عنه تمامًا.
“لا عليكَ. كنتُ أظن أن سجون القصر الشمالي هي الأسوأ، ولم يخطر ببالي قط أن هناك مكانًا بهذا القدر من الوحشية والرعب.”
“قصر الدوق يُعدّ نظيفًا بالمقارنة. فهو لا يدمّر إلا العقل.”
قالها إيجنيس بابتسامة باردة، تثير القشعريرة.
شعرت كارينتينا بغصة في حلقها وهي تفكر أن سجون القصر الإمبراطوري لا بد أن تكون أسوأ، إن لم تكن أشد رعبًا.
『سأعثر على تلك المرأة وأزجّ بها في السجن.』
ترددت كلمات إيجنيس في رأسها كصدى مرعب، تلك التي قالها يومًا في الدفيئة الزجاجية.
شحبت ملامحها وتجمّدت يداها المرتجفتان، فقد بدأت تتخيل نفسها مقيدة على إحدى أدوات التعذيب التي رآتها، ليتلاشى وعيها تدريجيًا.
“سيدتي؟ ما بكِ؟”
“آه!”
صرخت كارينتينا وهي تدفعه عنها بغريزة فزعٍ مفاجئ.
“وجهكِ شاحب للغاية… من الأفضل أن ترتاحي. سأصطحب ستيلا بنفسي، فخذي وقتكِ.”
“أ… أشكرك على لطفكم”
تحركت شفتا إيجنيس كما لو كان يريد قول شيءٍ آخر، لكنه تراجع وأدار لها ظهره بصمت. وبدت حافة عينيه، على غير العادة، وكأنها مثقلة بجراح خفيّة.
✦
لم تمحُ ذكرى السجن المروّعة بسهولة من ذهن كارينتينا. لكنها بعدما نالت قسطًا من النوم، شعرت بتحسنٍ طفيف.
لم يكن لديها شهية لتناول شيء، فاكتفت ببضع ملاعق من حساء البطاطس.
“كارين، هل أنتِ بخير فعلًا؟”
بريق من القلق لمع في عيني ستيلا الحمراوين. لم تستطع كارينتينا إلا أن تبتسم حين رأت كتفي الفتاة الصغيرة المتدلّيين.
“أنا بخير الآن. أظن أنني كنتُ متوترة فقط بسبب لقائي بالبابا ليوناس.”
لم تستطع إخبارها بما رأته في زنزانة القبو، لذا استخدمت البابا كعذرٍ مهذّب. ويبدو أن ذلك أراح ستيلا، إذ بدا على وجهها شيء من الانفراج.
ربّتت كارينتينا على شعرها برفق، ثم ألقت نظرة عابرة إلى الساعة.
‘حان وقت الرحيل من هذا المكان… تُرى، هل وجد ليوناس لوحات غريغوري؟’
كانت وجهتهم التالية هي إقليم إيغنيس الخاص، عبر دائرة الانتقال السحري. وهذا يعني أن هذا آخر وقت تقضيه مع ستيلا. شعرت فجأة بفراغٍ ثقيل في قلبها، ونظرت إليها بعينين يملؤهما الحنين.
طرق الباب.
دخل إيجنيس إلى الغرفة بهدوء.
“كيف تشعرين الآن، سيدتي؟”
ضحكت كارينتينا بخفة وهي ترى أنه يكرر نفس سؤال ستيلا. لم تعتد بعد على اهتمامه وقلقه هذا.
لكن من تعبيرات وجهه، بدا أنه لم يصدقها كليًا. زفر أنفاسه بهدوء.
“أنهينا كل ما يخصّ المعبد، لذا علينا المغادرة خلال ساعتين. وإن شعرتِ بأي تعب، لا تترددي في إخباري لتأجيل الموعد.”
لوّحت كارينتينا بيديها بسرعة. لم تكن ترغب أن تُؤخر جدول الرحلة بسببها.
“لا داعي للقلق، أنا بخير. أمتعتني خفيفة، وكل ما علي فعله هو الوقوف والاستعداد.”
“حسنًا. عندما نصل إلى إقليمي، سترتاحين تمامًا. صحيح أنه أصغر من القصر الشمالي، لكنه مكان مريح. كما أن دُماكِ، وداميان… سيكونون في انتظاركِ هناك.”
أوه، هذا صحيح! لا بد أنهم قد وصلوا الآن.
تلألأ وجه كارينتينا فجأة بابتسامة مشرقة. وعندما رآها إيجنيس، بدا وكأنه اطمأن أخيرًا، وارتسمت ابتسامة خافتة على شفتيه.
“أشكرك على رعايتك الكريمة، صاحب السمو.”
لم يستطع إيجنيس الرد، فاكتفى بسعالٍ صغير لتدارك الحرج. أما ستيلا، فقد ابتسمت في صمت، مستمتعة بالمشهد أمامها.
✦
في الليلة الماضية، اجتمع إيجنيس سرًا بالبابا ليونيوس على انفراد.
كان تصرف البابا بعد لقائه بكارينتينا مريبًا. بدا وكأن هناك شيئًا تغير فيه… خاملًا، شاردًا، وحتى طرفا عينيه كانا محمرين كمن بكى للتو.
‘هل يُعقل أن يكون قد وقع في حبها؟!’
من غير المعقول أن يكون الأمر بهذه البساطة. لم يكن رجلًا ساذجًا.
اقترب منه إيجنيس ونطق بصوتٍ أكثر ليونة:
“الشخص الذي أنقذني يبدو أنه يمتلك طاقةً مقدسة قوية، قادرة على علاج سم أعصاب الوحوش. إن عرفتَ كاهنًا بهذه القدرة… أخبرني، رجاءً. فالأمر بالغ الأهمية.”
استغرق ليوناس لحظة، قبل أن يعود إلى وعيه ويجيب:
“علاج هذا النوع من السم يتطلب قوة طاهرة استثنائية… المعالجون بالأعشاب قد يستغرقون شهرًا، أما هذا… فقد شُفيتم جميعًا في لحظة، أليس كذلك؟ إنه بالتأكيد كاهن رفيع المقام.”
“هذا ما أعتقده. لقد أنقذ حياتي، وحياة فُرساني أيضًا. لا أستطيع نسيان فضله. مستشاري يقول إن قدرته تفوق حدود البشر العاديين، وقد يكون متساميًا أو من أصحاب القوى المقدسة العليا.”
تأمل ليوناس مليًا، ثم قال:
“قلت إنك صادفته في غابات الشمال؟”
“نعم.”
قطّب ليوناس حاجبيه وقال مترددًا:
“في الحقيقة… كان هناك كاهن يمتلك قوة مقدسة عظيمة، يقيم في الشمال…”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 60"