ما إن فُتح الباب، حتى بدا إيجنيس واقفًا بوقارٍ وأناقة في زِيّه الرسمي، عاقدًا ذراعيه وهو يحدّق عبر النافذة الصغيرة.
‘هل كان ينتظرني هكذا… مستعدًا منذ البداية؟’
حين توقّفت كارينتينا في مكانها، انحنت الكاهنة الواقفة بجواره بكل تهذيب.
“أرجو المعذرة. قداسته البابا الأعظم توجّه إلى القاعة الكبرى لأداء صلاة المساء مع الأساقفة. لذا، تفضّلي باتباعي.”
وبقيادة الكاهنة، سارت كارينتينا برفقة إيجنيس إلى مقر إقامة البابا.
وعند المدخل، وقف فارسان مقدّسان مرتديان أردية بيضاء وعباءات زرقاء، يحرسان الباب بوجوه قاسية لا تعرف الرحمة.
وحين ألقت الكاهنة التحية، بادر أحد الفارسين بفتح الباب لهما.
كانت كارينتينا تتوقّع أن تكون غرفة البابا الأعظم مهيبة وفاخرة، لكن المفاجأة أن المكان لم يختلف كثيرًا عن المقرّ الذي نزلت فيه.
باستثناء اتّساع المساحة، فإن قطع الأثاث المصنوعة من الخشب الداكن، وتلك المجموعة الغنية من الكتب من مختلف الأنواع، لم تختلف كثيرًا.
أما المنظر المُطل من النافذة فكان ساحرًا بحق.
‘ما هذا العطر؟ يشعرني بصفاءٍ عجيب…’
لم يكن بخور اللبان المعتاد، بل عبيرٌ نقيّ وعميق يُنعش الفكر ويوقظ الحواس.
ولما تساءلت في سرّها، بادر صوت “ليّا” بالظهور مفعمًا بالفخر:
『إنها هالة قداسته! لا أحد في هذا العالم يمتلك قوّة روحية بسموّ قداسته البابا الأعظم!』
استطاعت أن تتخيّل وجه “ليّا” المتورّد افتخارًا، غير أن “شيون” تمتم ساخطًا:
『أوووغ…』
『شيون!』
ابتسمت كارينتينا في سرّها لهما وهما يتشاحنان، ثم استدارت فجأة حين شعرت بقشعريرةٍ تسري في جسدها.
“……!”
قُرب الصالة الصغيرة كانت هناك عدة لوحات دينية معلّقة على الجدار—جميعها بذات الأسلوب الفني، ما أوحى بأنها مرسومة بيدٍ واحدة.
ومع مرور الوقت عليها، بدا واضحًا أنها لوحات جلبها ليونيوس قبل أن يصبح حبرًا أعظم.
لمّا رمقت كارينتينا التوقيع في الزاوية اليمنى السفلية، ارتجف قلبها.
‘إنها لوحات غريغوري.’
ورغم اختلاف المواضيع، فإن جميعها كانت تتحدّث عن ملائكة تسجد في نور الربّ، وتلك الأشعة المنسكبة من السماء بدت حيّة، نابضة، وكأنها تتنفس…
دون أن تشعر، تمنت في سرّها أن تُعجب تلك الهديّة البابا، وأن تصل إلى قلبه.
وفجأة، فُتح الباب بصوتٍ مباغت، فرفعت كارينتينا رأسها فورًا.
كان هناك رجل يقف عند العتبة، بابتسامةٍ هادئة كأنها الضوء ذاته.
“ليكن السلام في حضن الحاكم. سُررت بلقائكم. أنا ليوناس، خادم الرب.”
وما إن أنهى كلماته، حتى بدا وكأن نورًا سماويًا قد انبعث خلفه، يحيط به كالهالة.
اتسعت عينا كارينتينا، مأخوذة بجلال المشهد.
“……!”
لكن إيجنيس، الذي لاحظ ردّة فعلها، تقلّصت ملامحه بغيرته الجليّة.
ووقفت كارينتينا ساكنة، تحدّق في ليوناس وهو يخطو بخفّة دون تكلّف.
كان يرتدي عباءة كهنوتية بيضاء لا تشوبها شائبة، مُطرّزة بخيوط ذهبية ترمز إلى أوراق شجرة الحياة، رمز العالم الروحي.
وبشرته البيضاء التي لم يمسسها شمس، مع ابتسامةٍ طيّبة توهّجت على ملامحه الهادئة، خالفت تصوّرها السابق عنه بأنه رجلٌ صارم أو بارد.
وشعره الليليّ المصفف بعناية، مع عينيه الذهبيتين اللتين تشعّان بهالة لا يمكن وصفها…
لم يكن لونًا واحدًا، بل خليطًا من كل الألوان التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات.
‘أفهم الآن لماذا كانت “ليّا” منبهرة. إنه يختلف تمامًا عن إيجنيس. حتى في الرواية وُصف بأنه جميل، لكن رؤيته الآن… وجهه جديرٌ بأن يُري للقراء الذين اعتبروه الأفضل على الإطلاق.’
بينما كانت تتمتم في عقلها، تعالت أصوات ليّا وشيون داخلها، الأولى تتغزّل بجماله وكأنه إلهٌ على الأرض، والأخير لا يكفّ عن التقيؤ بصوتٍ عالٍ.
تنهدت كارينتينا داخليًا، ثم أعادت بصرها إلى ليوناس.
وفي تلك اللحظة، التقت عيناها بعينيه.
كان يشرب الشاي بهدوء، وما إن شعر بنظراتها حتى التفت إليها بعينين ذهبيتين كالشمس.
فما إن انحنت زاوية عينيه بابتسامةٍ لطيفة، حتى بادرت كارينتينا بالكلام:
“يشرفني كثيرًا أن أُمنح فرصة لقاء قداستك.”
ابتسم ليوناس بلين، ووضع فنجانه جانبًا:
“بل أنا من يشعر بالشرف لاستضافة سيدة من بيت لورين. أشكركم بصدق على مساعدتكِ في كشف فساد معبد الشمال.”
“لا داعي للشكر يا قداستكم”
لحسن الحظ، ساد اللقاء جوّ من الألفة والاحترام.
ثم توجّه ليوناس إلى الأمير بابتسامة ودودة:
“وها نحن نلتقي مجددًا، سموّ وليّ العهد. متى كانت آخر مرّة رأيتك فيها؟”
لم يُجبه إيجنيس، بل اكتفى بإيماءةٍ خفيفة دون أن ينبس بكلمة.
لقد كان في حالةٍ مزاجية سيئة منذ لحظة دخولهم.
في الحقيقة، كان يشعر برغبةٍ عارمة في الإمساك برقبة هذا البابا الوسيم وهزّها بقوة.
أراد إنهاء هذا اللقاء بأي وسيلة، لكنه التزم الصمت حتى لا يُفسد الأمر.
تنفّس إيجنيس بصعوبة، ثم قال بصوتٍ مُنخفض:
“قداسة البابا ليونيوس.”
“نعم، سموّ وليّ العهد؟”
أجاب بابتسامةٍ لم تفارق وجهه، وكأنه لا يدرك الغليان في صدر الآخر.
“سمعت أن المونسنيور فيانو تواطأ مع قراصنةٍ يتبعون دوق هورتون لاختطاف أطفال أحياء الفقراء في الشمال.
كما تبيّن أيضًا أنه تلقّى رشوة من الكونت بابلو موريس.
الإمبراطورية تعتزم فتح تحقيقٍ شامل في القضية… لذا، نرجو منك تسليم فيانو إلى البلاط الإمبراطوري.”
المونسنيور هو لقب تشريفي يطلق على بعض رجال الدين الكاثوليك، وهو مستمد من الكلمة الإيطالية “monsignore” والتي تعني “سيدي”.
رغم أن إيجنيس تحدّث بنبرة مهذّبة، إلا أن حدّة صوته لم تُخفَ عن أحد. فاضت كلماته ببرودٍ ناري لا يُشبهه. شعرت كارينتينا بالهواء من حولها يبرد فجأة، وكأنّ الصقيع قد حلّ بالمكان.
‘ما به إيجنيس اليوم؟ هذا ليس من طباعه أبدًا… حتى إن طلبه بدا وكأنه يُسلّم عدوه الأول. أهو يتعامل مع قاتل حبيبته الأولى؟!’
في المقابل، كان ليوناس يُقابل نظرات إيجنيس دون أن يرمش، يُمرر أصابعه على حافة فنجان الشاي، بعينين خاليتين من الدفء—مُختلفًا تمامًا عن ابتسامته السابقة لكارينتينا.
قال بصوت بارد:
“يؤسفني، لكن لا يمكنني تسليم المونسنيور فيانو.”
“ماذا قلت؟!”
وبلحظة، تصاعدت لهبٌ حمراء كالجمر المتّقد حول جسد إيجنيس .
كارينتينا لم تستطع كتمان قلقها، لقد بدا غريبًا عنها اليوم.
إيجنيس الذي عرفته كان دائمًا سيدًا لعقله، لا ينفلت غضبه بسهولة. لذا، وخوفًا مما قد يحدث، أمسكت بطرف ردائه بتوتّرٍ ظاهر.
“أعتذر لاستخدامي السحر دون قصد… يبدو أن ارتباط الأمر بالأميرة أفقدني رباطة جأشي.”
“أتفهّم ذلك.”
ابتسم ليوناس ابتسامة خافتة، واسترسل بهدوء:
“لقد أنهينا تحقيقاتنا الخاصة بشأن المونسنيور فيانو. وقد اعترف بنفسه بكل شيء. سيتم الحكم عليه وفقًا لقوانين المعبد الأعلى.
لكن… لم نجد ما يثبت تورطه في قضية الأميرة.”
نعم، كما توقّعا.
كارينتينا لم تُفاجأ بردّه. بل حتى إيجنيس نفسه كان يدرك أن هذا سيكون موقف ليوناس.
لكنها شعرت بثقلٍ يتراكم في صدرها.
أمور المعبد لا تُحلّ بالقوة. وكانت تعلم أن إيجنيس لم يعد في موقعٍ يسمح له بخلق مزيد من الأعداء.
ليوناس، رغم نزاهته الظاهرة، ورغم إخلاصه للحاكم كما ليّا، إلا أنّه رجلُ سياسةٍ ذكي. إن تطلّب الأمر، لن يتردّد في التعاون حتى مع ألدّ خصومه إن كان ذلك لخدمة المعبد.
ورغم أن كارينتينا كانت متأكدة من أنه لن يتواطأ أبدًا مع أشرارٍ من طراز الإمبراطورة كريستينا، إلا أن هذه الدنيا المجنونة لا تُؤمن، وقد تنقلب فيها الحقائق في غمضة عين.
خيّم الصمت، كثيفًا كالدخان في الغرفة.
عندها، قال إيجنيس بنبرة صارمة:
“إذن… ليكن. أرجو من قداستك التكرّم بتسليمي وثيقة رسمية تحمل ختمك، تُقرّ فيها أن المونسنيور فيانو قد تلقى رشوةً وطلبَ وساطةً من الكونت بابلو موريس.”
شهقت كارينتينا بهدوء، وغصّت ريقها.
لقد كانت هذه فكرة عبقرية.
فختم البابا، حتى دون تسليم المتهم، سيكون بمثابة إقرارٍ رسميّ من المعبد الأعلى بهذه الاتهامات، وسيفتح الباب لإعلان التضامن بين وليّ العهد والكنيسة في هذه القضية.
تلك الوثيقة ستكون سلاحًا ناريًا بيد داميان، تمنحه وقتًا ثمينًا لتقويض سلطة آل موريس.
خفق قلب كارينتينا بقوّة.
ليوناس، الذي كان شارداً بتأمّله، ألقى نظرة سريعة عليها، ثم قال ببطء:
“إن كان هذا رجاء وليّ العهد… فلا مانع لدي. سأمنحك الوثيقة ممهورة بختمي.”
تجلّى الفرح على وجه كارينتينا كالشمس المشرقة، بينما بقيت ملامح إيجنيس جامدة كالصخر.
لكن ليوناس أضاف، وهو ينظر نحو كارينتينا:
“أفعل ذلك تقديرًا للأطفال الذين كانوا سيقعون ضحية، وللسيدة كارينتينا لورين التي سعت لحمايتهم.”
“…….”
تصلّب فكّ إيجنيس . مجرد ذكر اسمها ضمن الجملة أزعجه.
قالت كارينتينا بامتنان صادق:
“أشكرك حقًا، قداسة البابا ليونيوس.”
غير أن إيجنيس قاطعها بهدوء غاضب:
“هذا لا يكفي.”
وفكّ أزرار أكمامه الأونيكسية، ووضع واحدة منها على الطاولة.
“آه، لكن قبل ذلك… هل لي ببضع لحظات مع الآنسة لورين على انفراد؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 58"