كانت كارينتينا تحدّق في السماء مطوّلًا، عاجزةً عن النهوض، وكأنما جذورها قد تشبثت بالأرض.
سمعت صوت ليا يناديها بلطف، ففكرت أنه حان الوقت للوقوف، لكنها لم تستطع… لم تستطع أبدًا.
ثم… دوّى صوت كالصاعقة:
“كارينتينا لورين!”
التفتت كارينتينا برعبٍ نحو مصدر الصوت، لتجد إيجنيس يقترب منها بخطوات متسارعة، وعيناه تشعان بالغضب.
خطاه كانت أنيقة رغم عجَلته، كأنه يمشي على منصة عرض لا على أرضٍ ترابية.
نظرت إليه كارينتينا من أسفل المقعد، عاجزة عن الوقوف حتى في حضرته.
“ما الذي كنتِ تفعلينه هنا بحق! أنا… أنا…!”
عضّ إيجنيس على شفتيه، وارتجف صوته بغضبٍ مكتوم.
عبست كارينتينا، متسائلة عن سبب انفعاله الغريب:
“كنت أتنزّه في سوق اللوحات المقدّسة، ثم جلست لأستريح قليلًا.”
وبدون أن ينبس بكلمة، جثا إيجنيس على ركبة واحدة أمامها، يحدّق بوجهها القليل اللون.
تجمدت كارينتينا من صدمتها؛ لم تتوقع أن يركع الأمير أمامها بهذا الشكل.
كان جبينه يتصبّب عرقًا، وملابسه مشوشة على غير العادة… يبدو أنه قد أُصيب بهلع حقيقي.
“أعتذر… لم أكن أقصد إثارة قلقك. سرت بلا وعي حتى وصلت إلى هنا… كنت سأنهض قريبًا على أية حال.”
تنهد إيجنيس بعمق، ثم مرّر يده في شعره المبلل بالعرق بطريقة فوضوية.
“اعتقدتُ أن مكروهًا قد أصابكِ.”
صُدمت كارينتينا بصراحته، شعور غريب وخفيف دبّ في صدرها.
‘إيجنيس… يقلق عليّ؟’
شعرت كأن ريشةً داعبت قلبها، وجفافٌ غريب أصاب حلقها، حتى خُيّل إليها أن دقات قلبها الصاخبة لا بد أن تكون مسموعة.
“أعتذر، سموّك…”
“طالما أنكِ بخير فلا بأس… ولكن، هل حدث أمرٌ ما؟”
“هم؟”
“وجهكِ… شاحب جدًا.”
وفجأة… سقطت دمعة. لم تكن من المطر، بل من عينيها الزرقاوين الصافيتين، كأن لؤلؤًا انساب من بين جفونها.
“أوه…؟”
شهق إيجنيس ، وقد ارتبك على نحوٍ لم يُعهَد منه. لم يمدّ يده، ولم يحرّك ساكنًا، بدا عاجزًا تمامًا.
“هل… هل بكيتي لأنني صرخت عليكِ؟”
كان صوته منخفضًا، محمّلًا بالقلق، لكنه لم يكن يعلم شيئًا عن غريغوري، ولا عن الألم الذي طغى على قلبها.
كان ينبغي لها أن تقول له: “لا، الأمر ليس كذلك”.
لكن كلمات غريغوري، التي غمرتها بالحب والوداع، ظلت تهمس في أذنها، فغصّت بالدموع.
“أنا آسفة… سموّك…”
ودون أن تدرك، ألقت برأسها على صدره، تطلب دفءًا مؤقتًا. كانت تعلم أن هذا التصرف تجاوز الحدّ، لكنها… أرادت لمرةٍ أخيرة أن تتشبّث بذلك اللطف الذي منحه لها.
“……!”
تصلّب جسد إيجنيس فجأة. لم يعرف كيف يتصرف، ولا أين يضع يديه.
أما هي، فبكت طويلاً… حتى بلّلت دموعها ملابسه.
∞
“هل انتهيتِ من البكاء الآن؟”
أومأت كارينتينا ببطء وهي تمسح عينيها المحمرّتين بمنديل.
كان إيجنيس بجانبها، يربّت على ظهرها بلطف وقلق.
‘يا للحرج… ما الذي فعلته…’
ما شعرت به من غريغوري، لم يكن إلا مشاعر أبويّة خالصة، شيء لم تعرفه طوال حياتها.
حبٌ واسع لا يُقاس… كاتساع الكون.
رغم أن الدم لا يربط غريغوري بليوناس، لكن رابطة روحيهما كانت أعمق من ذلك بكثير.
ولفتاةٍ نشأت يتيمة مثل كارينتينا، كان كل هذا جديدًا ومربكًا.
حبّ غريغوري الذي لم يتغيّر، المليء بالدفء والوداعة، كان أقرب للبكاء منه للفرح.
“أعتذر، سموّك. لا بد أنني أزعجتك.”
“هل حدث شيء؟”
ضحكت وهي تشهق، وعيناها لا تزالان مغرورقتين.
“لا شيء… فقط قابلتُ شخصًا طيبًا للغاية.”
“أوه… طيبٌ إلى الحد الذي يجعلكِ تبكين بهذا الشكل؟”
غمغم إيجنيس بتذمر، وهو يمسح دموعها بلطف.
لأول مرة… شعرت كارينتينا أن قربه لا يخيفها.
أنه لم يعُد ذلك الأمير الصارم، بل شخصٌ حاول تخفيف عبء قلبها.
أرادت أن ترد له الجميل… أن تكون عونًا لذاك الذي منحها كتفه.
‘مثلما تمنّت ليا… سأسعى إلى علاج الإمبراطور. حتى وإن عُرف أنني من صنعت شيون، أو أنني تلك ذات الشعر الأسود، وحتى إن كرهني إيجنيس … لا يوجد شيء أهم من حياة الإمبراطور.’
كان ينظر إليها بعينين واسعتين واثقتين، مستعدًّا لتلبية ما تشاء.
“أرجو أن تسلّمني سجلّ مرض الإمبراطور.”
تصلّب وجه إيغنيس فجأة، وقد انسحب من عينيه كل أثرٍ للابتسامة.
“ما الذي تقولينه…؟”
“فكرت مليًا، ووجدت أن مرض جلالة الإمبراطور، وسموم جلالة الإمبراطورة، وحتى دوار السيدة ستيلا… جميعها أعراض قديمة جدًا، من حقبٍ لم يُعد يُذكر فيها شيء كهذا.”
“أيعني هذا… أن مرض أبي، جلالة الإمبراطور، هو أيضًا من أمراض العصور القديمة؟”
أومأت كارينتينا برأسها ببطء وثقل.
“……”
أخذ إيجنيس يفتح فمه وكأنه يريد أن يتحدث… لكن الحيرة كانت قد عقدت لسانه.
“لم يخطر ببالي أن أستبعد تمامًا احتمال كونه مرضًا قديمًا. في القصر الإمبراطوري، هناك العديد من أطباء البلاط. فهل يُعقل أنهم جميعًا لم يدركوا شيئًا؟ إن أولئك المكلّفين بمرافقة جلالة الإمبراطور هم من عرفتهم منذ صغري، أطباءٌ في كنف والدي وتحت إمرتي، لا يمكن للإمبراطورة أن تمتدّ إليهم يدًا، ولو فعلت، لما خفي عليّ ذلك.”
كانت كارينتينا تتوقع تمامًا أن يردّ إيغنيس بهذا الشكل. ومع ذلك…
“لكن، أليس من الممكن أنه مرضٌ مجهول فعلاً؟”
“……”
سكنت ملامحه، وتعمّقت نظراته. بدا على وجهه تعبيرٌ معقّدٌ وكأن عقله غاص في أفكار لا تُروى.
“أعتذر… أعلم أنني تطفّلتُ بطلبٍ كهذا… لكن، سواء أكانت سموّ السيدة ستيلا أو سموّك… لا أستطيع التخلّي عن شعورٍ يُخبرني أن جلالة الإمبراطور لا بد أن يبقى. ربما أكون مخطئة، لكن أرجوك… دعني أحاول. جرأتي في الطلب ليست إلا لأنني أؤمن بشيون، دميتي.”
“تلك الدمية السحرية التي تشبهني؟”
“نعم. لا أستطيع الإفصاح عن تفاصيل تخصّ عائلتي، لكن رغم أنني صنعتُ مظهره الخارجي، إلا أن الروح التي تسكنه… قديمة للغاية، تحمل عمرًا أطول مما نتصوّر.”
اتسعت عينا إيجنيس وهو يحدّق بها بدهشة.
“لذلك يملك كل تلك القوة الخارقة…”
“أجل. ورغم وجود قيود، إلا أن ما مكنني من إنقاذ السيدة ستيلا من يد تيماشيا هو شيون فقط. لذا، أرجو منك… فقط ثق بي هذه المرة. كل ما أريده هو معرفة السبب، والمساعدة.”
“أهو من أجل ستيلا؟”
“بل من أجلك، يا سموّ الأمير.”
هبّت نسمة ربيعية عليلة تمرّ بين أوراق الأشجار، فتراقصت الأغصان بلحنٍ خافتٍ، وتطايرت الأوراق بينهما كشهودٍ صامتين. مدّ إيجنيس يده نحو عنقه المحمّر خجلًا وهمس بصوتٍ خافت:
“سأطلب من مساعدتي أن تجهز لكِ السجلّ حال وصولنا إلى أراضيّ. سيريا تحتفظ بسجلّ مرض الإمبراطور، لذا ستحصلين عليه سريعًا.”
عندما سمعت تلك الكلمات، أشرقت وجه كارينتينا بابتسامةٍ مشرقة كالشمس.
“شكرًا جزيلًا، سموّ الأمير.”
كانت ترتّب خصلات شعرها المتطايرة بهدوء، بينما إيجنيس لا يستطيع أن يشيح ببصره عنها. نهض واقفًا دفعة واحدة، كما لو كان يخشى أن يظل معها أكثر.
فكل لحظةٍ إضافيةٍ معها كانت تُغريه… بأن يضمّها إلى صدره… أن يسرق منها قُبلة.
“ي، ينبغي أن نعود إلى مقرّ الكهنة الآن. السيدة ستيلا بانتظارك… وسنلتقي بالكاهن الأعظم قريبًا.”
“حسنًا… بالمناسبة، هل السيدة ستيلا بخير؟”
ظهر ارتباك خفيف على وجهه وهو يردّ:
“حين وصلت، قالت إنها بخير. بل وطلبت مني أن آخذك في جولة! لا أعلم ما الذي كانت تنوي فعله.”
“طالما أنها ليست مريضة، فذاك مطمئن.”
سارت كارينتينا بخفة بجانب إيجنيس، دون أن تتعمّق في الأمر كثيرًا.
وفي يدها… حجر الروح الذي كان بالأمس أرجوانيًا متوهّجًا، أما الآن، فقد فقد لونه لكنه ما زال يضيء بصفاءٍ لا يُضاهى.
✦ ━━━━━━━ ⸙ ━━━━━━━ ✦
كانت ساعة العشاء في المعبد الكبير تُقام عند السادسة مساءً، بينما موعد لقاء البابا الأعظم ليوناس مُحدّدٌ عند السابعة.
كارينتينا، رغم اعتيادها على حياة النبلاء المترفة، لم تستسغ فكرة تناول الطعام مبكرًا إلى هذا الحد، لذا كانت تتخطى وجبتها على عجل. ومع اقتراب الموعد، بدأت تجهيز نفسها للّقاء المنتظر.
لم تكن ساشا موجودة، فتولت سيريا مساعدتها في ارتداء الملابس وتصفيف الشعر.
وقفت كارينتينا أمام المرآة بتوتّرٍ صامت.
في هذا المعبد المقدّس، المزدحم بالحجّاج والكهنة، لم يكن من اللائق أن تظهر بثوبٍ فخم، لذا وقع اختيارها على فستانٍ بسيطٍ للغاية.
قماشٌ بلون الأزرق الداكن، مزدانٌ بتطريزات ناعمة وأزرارٍ فضّية تماشت تمامًا مع لون شعرها الفضيّ.
ربطت شعرها بأناقة باستخدام رباط بسيط، وزيّنته بدبوسٍ من اللؤلؤ الأبيض—رمزٌ تقليديّ في المعابد، يُجسّد احتواء الألم والتطهّر.
‘الأهم أن أبدو أنيقة وبسيطة… بلا بهرجة.’
وبينما كانت تستعد، التفتت لتطمئن على ستيلا، التي غطّت في نومٍ عميق بعد العشاء.
نظرت إليها بعطف، ثم التفتت إلى سيريا:
“سيريا، إن حدث شيء للسيدة ستيلا أثناء غيابي، أرجوكِ أخبريني فورًا. لقد طلبت حماية خاصة من النائب أندريا، لكن لا بد من الحذر.”
“بالطبع، لا تقلقي. سأكون يقظة. كما أنني جهّزت الملفات التي قد يحتاجها سموّ الأمير عند عودته.”
“أشكركِ… سأغيب لبعض الوقت.”
ومضت كارينتينا، تنبض عزيمتها في خطواتها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 57"