ارتعش صوت غريغوري وهو يكرر كلماته بذهول لا يُصدق. لم يكن يرى نفسه، لكنه كان غارقًا في دوامة من اليأس، وكأن إدراكه لمرور الوقت كان أقسى من استيعابه لحقيقة تحوّله إلى حجر.
[أيتها الآنسة… كيف يجب أن أخاطبك؟]
[ماذا تسأل؟ بالطبع، تُناديها “سيدتي”.]
تنهدت كارينتينا بعمق وعبست قليلاً عند سماع اقتراح شيون، الذي بدا سعيدًا جدًا بهذا اللقب. لم تكن بحاجة إلى “مالك” جديد.
“نادِني كارينتينا، رجاءً.”
تابع غريغوري حديثه بنبرة يائسة صادقة:
[أنا لست صاحب قوى ولا قدرات… فقط، بقيت مني شظايا ذكرى، لأني لم أتمكن من إنهاء ما كان عليّ فعله.]
“شظايا؟”
نظرت كارينتينا إلى الحجر الأرجواني، الذي خفت نوره شيئًا فشيئًا. لم يكن كأحجار الأرواح المعتادة، بل بدا كأنّه يحمل داخله صدى عناد إنسانٍ لم يستطع الرحيل.
[أنا… رجلٌ عجوز فشل في الإيفاء بوعده لطفله العزيز.]
بدا وكأن غريغوري على وشك البكاء، وصوته كان مكسورًا تمامًا. لم تستطع كارينتينا الردّ بسهولة بعد سماع ما قاله.
‘لا أعلم ما الذي مررتَ به، لكن… أخبرني، رجاءً. إن كنت أستطيع مساعدتك، فسأفعل.’
[حقًا؟!]
انبثق بصيص من الأمل في صوته.
[كنت رسّامًا… أرسم القدّيسين.]
رسّام، إذًا…
لم تُجب كارينتينا، بل نفخت بلطف قليلًا من سحرها داخل حجر الأرواح المتلاشي، كما فعل إيغنيس سابقًا، في محاولة لمدّ عمره قليلًا.
[طفلي لا بد أنه ما زال ينتظر لوحتي… إن تمكنتِ من إيصالها له، سيكون هذا كافيًا. وإن تعذّر الأمر، فأخبريه بمكان اللوحة فقط.]
‘كل ما عليّ فعله هو تسليم اللوحة؟ ومن هو هذا الطفل؟’
ارتفع صوت غريغوري بامتنان خالص:
[آنسة… أنتِ حقًا تنوين مساعدتي. شكرًا لكِ… رغم موتي، لن أنسى لك هذا الجميل ما حييت.]
كان صوته يرتجف بالعاطفة، يشكره مرارًا وتكرارًا.
[قد لا يكون من السهل على الآخرين لقاءه، لكنه حفيدي الصغير العزيز… ليس حفيدي بالدم، لكنه أقرب إلي من أي أحد. إن ذهبتِ إلى مرسمي، ستجدين شارةً منحني إياها. خذيها وتوجهي إلى الهيكل العظيم. هذا كل ما أطلبه… منكِ، أيتها الفتاة الطيبة.]
“آه… إذًا لم يكن طفلًا صغيرًا، بل تقصد الكاهن الذي يُقيم في الهيكل العظيم؟”
قالت كارينتينا بنبرة مطمئنة:
“لا تقلق بشأن ذلك، فأنا أقيم حاليًا في بيت الكهنة، لذا لن يكون من الصعب إيصال الرسالة إليه.”
كانت تخشى أن يكون من الصعب الوصول إليه، لكن اتضح أن الأمر أيسر مما توقعت. زفرت كارينتينا تنهيدة ارتياح وابتسمت ببهجة.
[أوه! بركة من حضرة الرب! يبدو أن الحاكم قد استجاب لتوسلاتي أخيرًا. اسمه ليو… صغيري ليوناس.]
ما إن لفظ غريغوري تلك الكلمات، حتى تجمّدت كارينتينا في مكانها، متصلبة الجسد. تساءلت إن كانت قد سمعت خطأ، وكأن أذنيها خانتاها.
“ه-هل تقصد… قداسة البابا ليوناس؟”
[نعم، هو بعينه.]
اهتزت حدقة كارينتينا كأن زلزالًا ضرب أعماقها.
يا له من أمرٍ لا يُصدّق! هل هذه سخرية القدر أم ترتيب مقدس؟ شعرت بقشعريرة تسري على طول عمودها الفقري. وتذكّرت فجأة كلمات إيجنيس قبل قليل:
『حين يرتقي أحدهم إلى منصب البابا، غالبًا ما يُصنع له تمثالٌ أو تُرسم له صورة تُباع للناس. لكن البابا الحالي، ليوناس ، لم ينجح بعد في العثور على رسّام يرسم له بورتريهًا يليق به.』
“هل رسمتَ بورتريهًا للبابا ليوناس؟”
أجاب غريغوري بصوتٍ تغشاه الدهشة والحنين:
[أجل… كان ذلك آخر هدية أود أن أتركها له.]
ثم بدأ في سرد حكايته، بصوتٍ يحمل ثقل السنين:
[ليو… كان طفلًا مهجورًا، لا يعرف له أبًا ولا أمًا. ذات مرة، أثناء انشغالي بالرسم، سمعت بكاءً شديدًا خارج منزلي، فخرجتُ لأجد طفلًا صغيرًا قد تُرك على بابي.]
امتزج صوته بشعورٍ دافئ، كأنما تُبعث فيه حياة من الذكرى:
[كنت أعيش بالكاد، أرسم بورتريهات للنبلاء لأكسب لقمة عيشي، ولم يكن لدي ما يكفي لتربية طفل. لكن حين رأيت وجهه… وجه ملاك نقي… لم أستطع أن أتركه يرحل.]
وخز في قلب كارينتينا، إذ قالت “طفل مهجور”. رغم أن ذكرياتها قبل التجسّد طُمست، لكنها تذكّرت ضبابية مشهدها في دار الأيتام.
[لقد كان ملاكًا بحق… لم أندم يومًا على تربيته. كنت أعلم أن فيه شيئًا مختلفًا. هو من اقترح أن ننتقل إلى جوار الهيكل العظيم، وهناك بدأت أرسم اللوحات الدينية لبيعها والعيش من دخلها. وبعد وقتٍ، اكتُشف أنه يمتلك قوى إلهية… وهنا، لم أعد قادرًا على العيش بجواره.]
“ماذا؟ لم تتمكّن من العيش معه؟”
رمشت كارينتينا بدهشة، وهي تستمع لاعترافاته.
هل تخلى عنه؟ هل نبذه؟ آلاف الاحتمالات دارت في عقلها.
[ذاك هو قانون الهيكل. أنا، كرسام بسيط، لم أستطع معارضة مشيئة كبار الكهنة. كنت خائفًا… خائفًا أن يُبغضوا ليو بسبب ارتباطه بي، فاخترت أن أبتعد. تركت الهيكل، وهِمت من مكان لآخر، خائفًا أن أراه، خائفًا أن أكون عارًا عليه…]
كانت كلماته غارقة في الشجن، تحمل وجع الحب والكتمان. لقد كان يشتاق إلى ليونيوس من أعماقه، حبًا لا يُقاس.
[وقبل أن يدخل الهيكل… وعدني بشيءٍ واحد. قال إنه حين يُصبح البابا، يريدني أن أرسم له بورتريهًا. كان ذلك أول وآخر مرة أراه يبكي… وبكى بحرقة حين قالها. لا يمكنني أن أخيّب أمله… أرجوكِ، آنستي… سلّمي إليه لوحتي. هذا رجاء عجوزٍ يحتضر.]
أحست كارينتينا بشيءٍ يعتصر قلبها.
لم تكن تعرف أن للبابا من يراه كأب… وهذا لم يُذكر أبدًا في الرواية. عادت بذاكرتها إلى كلام إيغنيس:
『يقال إن كبار الرسّامين سعوا لنيل شرف رسمه، لكنه رفضهم جميعًا. يبدو أن عينه صعبة الإرضاء.』
لكن الأمر لم يكن كذلك. لم يكن البابا صعب الإرضاء… بل كان ينتظر وفاء لوعد قطعه لطفولته. وهو لا يعلم حتى أن غريغوري قد مات.
“غريغوري، سأحقق لك هذا الوعد. لكن… هل ستكون بخير؟ صحيح أن اللوحة الأصلية سيحتفظ بها البابا، لكن ربما تُستخدم لتصنيع نسخ تُباع كرموز دينية وتماثيل.”
أجابها غريغوري بابتسامةٍ في صوته، دافئة رغم موته:
[لا بأس في ذلك. جسدي مات، ولم أعد من هذا العالم. لا يهم إن لم أكن أنا من يرسمها بيدي… المهم أن تصل له كهدية، من قلب الجدّ إلى حفيده.]
لم تكن تراه، لكن كارينتينا أحسّت أن عينيه امتلأتا بالدموع. حتى ليا وشيون، اللذان لا يفوتان فرصة التعليق على قصص البابا، كانا صامتين تمامًا… وكان هذا أصدق من أي دمعة.
لقد صدق غريغوري.
هو ليس حجر أرواح حقيقي، بل شوقه العارم ورجاؤه الأخير هما ما جعلاه يشبهه. ظلّ ينتظر في صمت، حتى يعثر عليه أحد.
نظرت كارينتينا بحنان إلى الحجر الأرجواني، وضمّته إلى صدرها، وهمست سريعًا:
“غريغوري، أين يقع مرسمك؟”
لو كان في مكانٍ مألوف، لما استعصى على البابا العثور عليه.
[مرسمي في سفح جبل فيسوف، قرب حدود الهيكل. هناك بيت صغير ذو سقفٍ أرجواني… ليو كان يحب الأرجواني كثيرًا… الجبل وعرٌ ولا يجرؤ أحد على تسلقه. إن رفعتِ السجادة الزرقاء، ستجدين بابًا إلى الطابق السفلي، حيث مرسمي. الباب موصد، لكن هذا الحجر – الذي يحمل ذاكرتي – هو المفتاح. كل لوحاتي التي أنهيتها قبل وفاتي موجودة هناك. رجاءً… أوصليها إلى ليوناس.]
“أعدك.”
[شكرًا لك، أيتها الفتاة النبيلة. أعتذر لأني اتهمتكِ بالسحر من قبل… لكن قلبكِ أضاء لي الطريق. لن أنسى هذا أبدًا.]
قالها… ثم صمت.
ولم تُتح لها فرصة حتى لتطلب منه الانتظار.
خبا ضوء الحجر فجأة، كأنه أسلم أنفاسه الأخيرة.
ذلك الأرجواني النابض بالحياة… صار شفافًا، وعاد حجرًا عاديًا.
“سأوصلها له، أعدك.”
تمتمت كارينتينا وهي تشدّ على الحجر في يدها.
كانت نسمة الريح تمرّ بلطف… لكن فيها شيءٌ مؤلم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 56"