اتسعت عينا سيريا في دهشة، ثم نظرت إلى ستيلا بقلق قبل أن تومئ برأسها ببطء. بدا أنها تجد صعوبة في الحديث.
كارينتينا لم تُلحّ بالسؤال أكثر، بل مدت يدها بزجاجة صغيرة كانت قد أعدّتها مسبقًا.
“سيريا، خذي هذه أيضًا.”
“ما هذا؟”
“شاي الزنجبيل. سيساعدكِ على الدوار، اشربيه أثناء العمل.”
رمقت سيريا كارينتينا بنظرة ممتنّة، وقد بدا التأثر واضحًا في عينيها.
“أنتِ دائمًا طيبة القلب، آنستي… تشبهين السيد داميان كثيرًا، حقًا.”
ضحكت كارينتينا بخجل، بينما انحنت سيريا بأدب نصف ابتسامة على وجهها وغادرت الغرفة.
وما إن أُغلق الباب بصوتٍ خافت، حتى جذبت ستيلا كمّ كارينتينا برقة، ورفعت عينيها المتلألئتين نحوها قائلة:
“كارين… هل يمكننا الخروج قليلًا؟”
“الخروج؟”
هزّت ستيلا رأسها بعنف مؤيِّدة:
“سألتُ أخي سابقًا وقال إنه يمكنه التفرغ لبعض الوقت.”
هل من الحكمة الخروج خارج سكن الكاهنات؟ تساءلت كارينتينا في نفسها بتردد.
لكنها ما لبثت أن فكرت: زيارتنا لهذا المكان المقدّس نادرة، فهل يُعقل أن نعود دون أن نراه سوى من داخل السكن؟
“حسنًا… لمَ لا؟”
“حقًا؟!” تهلّل وجه ستيلا فرحًا، وارتسمت على محياها ابتسامة ماكرة تشي بأنها تُدبر مغامرة صغيرة.
∞
رغم أن كارينتينا كانت تتوقع رفضًا حين اقترحت التجوّل في أرجاء المعبد، فإن إجنيس وافق على مرافقتهم دون تردد.
“أرجو ألا أكون قد سرقت وقتكم الثمين، يا سموّ الأمير.”
قطّب إجنيس جبينه وهو ينظر إليها، ثم وجّه لها توبيخًا رقيقًا:
“أيعقل أن ترافقيني وأظنّ أنني أضيّع وقتي؟ أم أنكِ لا ترغبين بالسير معي أصلًا؟”
اتّسعت عينا كارينتينا بدهشة؛ لم يخطر في بالها أن يُساء فهمها. لم يكن انزعاجها من مرافقة إجنيس، بل من فكرة انشغاله في البحث عن تلك المرأة الغامضة ذات الشعر الأسود.
أسرعت لتوضح:
“لا، بالطبع لا! لكن سيريا أخبرتني صباحًا أن لديكم الكثير من المهام المعلّقة، فخشيت أن أكون عبئًا عليكم.”
تنهد إجنيس سرًا وهو يتذكّر كم أن هذه الفتاة تبالغ في الاهتمام بكل من حولها.
“لا داعي للقلق على معاونتي. لقد بدت على وشك الانهيار، لذا أمرتُها بالراحة وأبقيت فقط الأوراق العاجلة.”
ابتسمت كارينتينا ارتياحًا، بينما راقبها إجنيس وهو يتساءل في نفسه: لم تهتم بموظفيّ أكثر من اللازم؟ لا… بل ربما هذه رقة طبعٍ محببة.
ثم تبع بخطى هادئة كارينتينا وستيلا وهما تتقدمان في أرجاء المعبد.
في وضح النهار، بدا المعبد مختلفًا تمامًا عن الليل. تنقّل الحجاج والكهنة والزوار الذين اجتازوا الفحص الأمني الصارم، فخلقت حركتهم جوًا صاخبًا نسبيًا.
تجولت كارينتينا بنظرات الفضول بين المتاجر الصغيرة المنتشرة حول المعبد، تبيع تذكارات دينية وبضائع متنوعة. غير أن معظمها كان مغلقًا للأسف.
“هل كل أصحاب هذه المتاجر كسالى؟ لقد مضى وقت الغداء وما زالت مغلقة!” تمتمت ستيلا باستغراب وهي تلعق بوظة الفانيليا.
لم تجد كارينتينا تفسيرًا، فاكتفت بالتحديق في الواجهات المغلقة. عندها ضحك إجنيس بخفة وقال:
“بالعكس… تجارتهم مزدهرة أكثر مما تتخيّلين.”
“إذًا، لِمَ هم مغلقون؟”
“بسبب البابا ليوناس.”
التفتت كارينتينا إليه بدهشة حين سمعت ذلك الاسم.
“حين يتولى شخص منصب البابا، عادةً ما تُنتج صوره الرمزية ومجموعة من التمائم والتذكارات الدينية لبيعها هنا. لكن يبدو أن البابا الحالي، ليوناس، لم يجد بعد الرسّام الذي يرضى عنه.”
“حقًا؟”
“يقال إنه رفض حتى الرسامين المشهورين الذين عرضوا عليه رسم صورته. ربّما ذوقه صعب، أو أنه يبحث عن شيء يتجاوز المألوف. الرسّامون أيضًا يطمحون لمشاريع خالدة، فتصوير بابا شاب مثله، صاحب نَفَسٍ طويل في القيادة، سيخلّد اسم الفنان لعقود.”
كلام منطقي. فغالبًا ما يكون الباباوات شيوخًا في أعمار متقدّمة، نظرًا لترشيحهم من قِبَل مجمع الكهنة عند نضوجهم وخبرتهم. أما ليونيوس، فكان شابًا لم يتجاوز الثلاثين بعد، يتمتع بقوة روحية استثنائية وادّعى البعض أنه تلقى وحيًا سماويًا مباشرًا.
كان فرصة ذهبية لأي فنان.
ولهذا، فإن تأخر ظهوره في صورة رسمية يقلق أعضاء المعبد، لأن بيع الأيقونات والرموز المقدسة هو أحد أهم مصادر تعزيز الإيمان لدى العامة.
ربما كان توتر وجه نائب البابا أندريا صباحًا مرتبطًا بهذه الأزمة. فكّرت كارينتينا بتمعّن.
لكن قبل أن تُكمل خواطرها، سمعت صوتًا ضعيفًا بجانبها:
“أخي… بطني تؤلمني.”
وضعت ستيلا يديها الصغيرتين على بطنها، وعيناها تدمعان بألم. فزعت كارينتينا وهوت على ركبتيها في قلق.
“ستيلا… هل يؤلمكِ كثيرًا؟”
أخذت تتلفت حولها تبحث عن كاهن يمتلك طاقة روحية قد تساعدها.
“أظن أن الآيس كريم هو السبب… أريد فقط أن أذهب للمرحاض.”
“تعالي هنا.”
تنهد إجنيس بخفة، ثم حمل ستيلا بين ذراعيه.
وفي تلك اللحظة، أمسكت كارينتينا بيده دون تفكير.
طَراق–!
تفاجأ إجنيس بردة فعل غريزية، فحرّك يده لا إراديًا دافعًا يد كارينتينا بعيدًا.
“آه! أعتذر، سموّ الأمير… كنت فقط أريد أن أقول إنني سأرافق ستيلا بنفسي…”
شعرت كارينتينا بالإحراج. لقد نسيت، مع اقترابها مؤخرًا من إجنيس، أنه يشعر بعدم الارتياح تجاه التواصل الجسدي مع النساء. إنه ولي عهد إمبراطورية عظيمة، ومتى ما عادوا إلى العاصمة، لن يكون بمقدورها التصرّف بحرية كما الآن.
يجب أن أكون أكثر حذرًا…
وما إن اعتذرت كارينتينا بأدب، حتى بدا الذهول على وجه إجنيس، وتمتم قائلًا:
“المسافة إلى سكن الكهنة ليست بعيدة، لذا سأصطحب ستيلا بنفسي. ألم تقولي إنك ترغبين في إلقاء نظرة على سوق الصور المقدّسة؟ تفقّديه على مهل، سأعود قريبًا.”
“حسنًا، سأفعل.”
أومأت كارينتينا بهدوء وتراجعت.
فتح إجنيس شفتيه كأنه سيقول شيئًا، لكنه ما لبث أن سكت، ثم أسرع الخطى حاملًا ستيلا متجهًا نحو سكن الكهنة.
وبينما كانت كارينتينا تراقب ظلهما يبتعد، استدارت ومضت في الاتجاه المعاكس.
الطقس في منطقة المعبد كان مشرقًا صافياً، بخلاف برودة الشمال. رغم أن ملابسها كانت خفيفة، فإنها لم تشعر بالبرد، وسارت بخفةٍ على قدميها.
أُقيم سوق الصور المقدسة في منطقة تقع بعد سكن الكهنة والكاتدرائية، وتتصل بحديقة صغيرة داخل المعبد.
ولم يكن السوق يقتصر على بيع اللوحات الدينية فقط، بل شمل أيضًا تحفًا فنية متنوّعة، وأواني خزفية أثرية، بل حتى أثاثًا منزليًا فاخرًا. كانت المتاجر الدائمة مغلقة، إلا أن السوق الخارجي المؤقت كان يعج بالزوار.
تجولت كارينتينا بعينين يملؤهما الفضول، تنظر إلى الرسومات والبضائع المبهرة.
وبينما كانت تمر بين رسامين يعرضون صورًا مقدسة ويقومون برسم الوجوه، وصلت إلى أقصى طرف السوق، حيث كان هناك متجر صغير مهمل نوعًا ما، وبائع يبدو على وجهه الامتعاض، ربما لسوء موقعه.
كانت كارينتينا على وشك تجاوزه، غير أن شيئًا لفت نظرها فجأة، فتوقّفت.
لم تكن لوحة مقدسة متقنة، ولا قطعة أثرية فاخرة، بل مجرّد حجر كريم بنفسجي اللون بسيط. إلا أنه لم يكن مجرد حجر عادي.
هل هذا حجر مانا؟ أم أنه حجر روح؟
لكن الإحساس الذي وصلها لم يكن كمثل ذلك الذي أحست به حين قابلت “ليا”. كانت طاقته باهتة للغاية، أشبه بشمعة أوشكت على الانطفاء.
دفعتها رغبتها في معرفة المزيد فتقدّمت نحو البائع. وما إن رأى زبونة تقترب، حتى انفرجت شفتاه عن ابتسامة واسعة.
“أهلًا بكِ سيدتي، تفضّلي وتجوّلي كما تشائين.”
“شكرًا.”
أشارت كارينتينا إلى ذلك الحجر البنفسجي المتوهج، متجاهلة الصور والسبحات المرصعة باللؤلؤ، وسألت:
“كم ثمن هذا؟”
“آه! تعنين الجمشت، أليس كذلك؟”
كان لونه البنفسجي لامعًا، لكن من الواضح أنه لم يكن جمشتًا خالصًا.
“نعم، أود شرائه.”
“طالما أن الجميلة أنتِ، سأمنحكِ خصمًا كبيرًا. فقط عشرة لارت.”
ضحكت كارينتينا في سرّها. أهكذا يحاول خداعي؟
عشرة لارت تكفي لشراء زمردة من فئة متوسطة من متجر مرخص في العاصمة، فضلًا عن الحصول على شهادة أصالة معها. أما هذا الحجر، فرغم جمال لونه، فلا أصل معروف له.
رمقت البائع بنظرة صارمة وقالت:
“سمعت أن المعبد هنا يُجري فحوصًا صارمة على البائعين… يبدو أن ذلك غير صحيح، بما أنك ما زلت هنا رغم كونك محتالًا. سأذهب الآن إلى الكهنة وأبلّغهم.”
“ماذا؟!”
بدت الصدمة على وجه البائع، وقد فتح فمه غير مصدّق.
“مقابل عشرة لارت، يمكنني شراء زمردة من نوع رديء من متجر رسمي داخل الإمبراطورية، ومع شهادة فحص أيضًا. أما هذا الحجر، فلونُه جميل، لكن ليس له أي إثبات أصالة. هل يمكنك تقديم شهادة فحص له؟”
“ه-هذا… في الحقيقة…”
أطبق البائع شفتيه ولم يُجب.
والحقيقة أن حتى هو نفسه لا يعرف ماهية هذا الحجر. كان قد عثر عليه في منزل مهجور خلال نوبة سُكر، ولم يقبل أي تاجر مجوهرات بشرائه منه. فقرر عرضه بجانب بعض الصور الدينية لعلّه يخدع زبونًا ساذجًا.
ظنّها مجرد فتاة أرستقراطية غافلة عن شؤون السوق، لكنه الآن خائف من أن يُطرد من المعبد بسبب تصرّفه.
لقد وُلد ونشأ هنا، وكان فخورًا بانتمائه للمعبد، ولا يريد فقدان مكانته.
“آنسة، أنا آسف حقًا. لقد أُصبت ببعض الطمع… المكان الذي وُضعت فيه سيئ، ولم أحقق أي أرباح، فضعفت نفسي قليلًا.”
هدأ غضب كارينتينا قليلًا أمام اعتذاره الصادق.
“إذًا، ما السعر الحقيقي لهذا الحجر؟”
“ه… ثلاثة لارت؟ لا، فقط لارت واحد، رجاءً.”
أخرجت كارينتينا عملة واحدة من فئة لارت وقدّمتها له. تهللت أسارير البائع وهو يأخذها.
“شكرًا جزيلاً، أتمنى لكِ بركة من الرب.”
“لا تحاول الاحتيال مرة أخرى. بع بأسعار عادلة في المرات القادمة.”
قالت عبارتها بنبرة حازمة، ثم التفتت وهي تحمل الحجر معها.
∞
سارت كارينتينا باتجاه الحديقة الصغيرة بجوار السوق، تنوي فحص الحجر بهدوء. كانت الحديقة مهجورة نوعًا ما، إذ لم يكن الزوّار يهتمون بها.
ما حقيقة هذا الحجر؟ هل هو فعلًا حجر روح؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 55"