وبما أن المسافة بين الشمال والمعبد ليست بعيدة، فقد اختاروا السفر بالعربات بدلًا من استخدام دوائر النقل السحري.
كان هذا أيضًا جزءًا من خطة إيجنيس، الذي أراد تأخير الإعلان عن عودته إلى العاصمة.
وكانت الخطة أن يلتقي بالبابا ليوناس في المعبد الأعلى، ثم يستخدم دائرة النقل المتواجدة هناك للوصول إلى إقليمه حيث ينتظره الفرسان.
أما الأدوات السحرية التي استخدمها فرسان دوق هورتون للتجسس، فقد وقعت جميعها في يد إيجنيس. وقد قام الكيميائيون التابعون له بتعديلها، مما جعل أولئك الفرسان يعتقدون أن خطتهم تسير كما أرادوا.
لذا، كان لا بد أن تكون هذه الرحلة سرّية إلى أقصى درجة.
أما في الجهة المقابلة، فقد جلس إيجنيس وقد غيّر لون شعره وعينيه إلى السواد، وكذلك فعلت ستيلا.
شعرت كارينتينا أن رحلتها من الشمال إلى العاصمة باتت أقرب من أي وقتٍ مضى… فاغرورقت مشاعرها بالعزم، والتوهّج، والإصرار.
“……”
كان الفارس المقدس، المرتدي درعًا فضيًّا براقًا، يتفحّص بعينيه القاسيتين ختم قداسته البابا ليوناس، ثم حدّق مطولًا في ركاب العربة بنظرة باردة تُشعرك بعدم الترحيب.
نظرة تنضح بالجفاء حتى كادت تُشعر من في العربة بالإهانة، إلا أن أحدًا لم يعترض، ولم ينبس ببنت شفة.
أهو مستاء لأن الزيارة ليست رسميّة بصفة ولي العهد؟
لحسن الحظ، لم ينطق الفارس بكلمة، وما لبث أن فتح لهم بوابة نقطة التفتيش بصمت.
كما قيل من قبل، فإن الإجراءات لدخول المعبد الأعلى كانت معقدة وصارمة للغاية، لكن بما أن قداسته البابا قد أصدر أمرًا شخصيًّا باستقبالهم، فقد تمكّنوا من اجتياز الحواجز دون صعوبات كبيرة.
هذا هو… المعبد الأعلى.
تأملت كارينتينا المعبد الذي يتلألأ وسط عتمة الليل بنورٍ خافتٍ سماوي، نظراتها كانت تفيض بالهيبة.
رغم أن المعبد الأعلى يقع ضمن أراضي إمبراطورية بادلستان، إلا أنه يُعدّ دولة مستقلة ذات سيادة بحد ذاته.
ففي غابر الأزمان، حين أنكر البعض وجود الحاكم، ومارسوا السحر الأسود وقتلوا الأبرياء من الكهنة والناس، غرقت القارّة في فوضى دامية.
لكن بفضل التدخل المقدس من قبل الكائنات المتجاوزة، تم توحيد القارّة، وأُقيمت الإمبراطورية العظمى. ومن ثم عقد الإمبراطور المؤسس أول اتفاق مع أول بابا، فتأسس المعبد الأعلى، وبدأت نهضة الإمبراطورية.
يا له من مكان عظيم…
أدهشها اتساع المعبد وجماله، ولم ترَ هذا التنوع من الناس منذ مهرجان رأس السنة. لقد اجتمع فيه أناس من كل حدب وصوب، من الإمبراطورية، ومن الممالك المجاورة، بل وحتى من أراضٍ نائية.
في المقعد المقابل، كانت ستيلا نائمة في حضن إيجنيس، تمص إصبعها ببراءة، منهكة من رحلة العربة التي دامت أكثر من ثلاث ساعات.
أما سيريا، فكانت مستلقية في زاوية العربة، غارقة في نوم عميق بعد أن شربت جرعة من دواء أعدّته ليا لعلاج دوار العربة.
يبدوان حقًا كأبٍ وطفلته…
نظرت كارينتينا إلى ستيلا النائمة بحنان، ثم انتقلت ببصرها إلى إيجنيس تلقائيًا. كان النسيم الليلي يداعب خصلات شعره المظلم، ومظهره بدا كلوحة فنية تسرّ الناظرين.
كان إيجنيس يحدّق من خلال النافذة إلى الأفق البعيد بصمت عميق.
هل يشغله أمرٌ ما؟
راحت الأفكار تتوالى على ذهن كارينتينا، تترى كأمواج لا تهدأ.
لا بد أنه يشعر بالاضطراب… فعودته إلى القصر الإمبراطوري باتت وشيكة.
بينما كانت غارقة في تأملها، صدر صوت رجوليٌ عميق، دغدغ أذنها بلطف.
“آنسة كارينتينا.”
فزّت من شرودها وقد اتّسعت عيناها.
“نعم؟”
“إنكِ تنظرين إليّ كما لو كنتِ تحاولين اختراق وجهي بعينيك.”
أدار إيجنيس رأسه نحوها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة.
“ماذا تقصد؟”
“هل أعجبكِ وجهي إلى هذا الحد؟”
شهقت كارينتينا بصوتٍ مكتوم وكادت تقفز من مقعدها.
“لا! ليس الأمر كذلك…!”
ضحك إيجنيس ضحكة خفيفة، وكأنما استمتع بإحراجها، ثم تراجع قليلًا.
كان وجه كارينتينا قد احمرّ حتى بلغ أذنيها، فاستدارت بسرعة نحو النافذة، تحاول إخفاء خجلها. أما هو، فلم يستطع كتم ابتسامته وهو يراها على تلك الحال.
في الحقيقة، كان منذ لحظات يتأمل انعكاس صورتها على زجاج النافذة… وفي اللحظة التي تبادلت فيها النظر بينه وبين ستيلا، اجتاحه شعور غريب بالفرح والسعادة.
ترى، هل تشعر بالراحة حين تراني؟
لم يكن يتخيّل أن مظهره الذي لطالما اعتبره مشوهًا ومُنفّرًا سيكون يومًا ما مصدر راحة لأحدهم.
أخذ يحدّق بها بلطافة، يبتسم بلا وعي. وقد بدا له انعكاس وجهه المبتسم في زجاج النافذة غريبًا، لكنه لم يكن بغيضًا… لا هذا اليوم.
∞
ما إن توقفت العربة أمام المقر الذي يقيم فيه قداسته، حتى نزلت كارينتينا لترى وجهًا مألوفًا بانتظارهم، ففتحت عينيها بدهشة.
“لقد مر وقت طويل، آنسة لورين.”
كان نائب البابا، القس أندريا، يستقبلهم ببشاشة وابتسامة دافئة.
ما إن رأت وجهًا تعرفه في هذا المكان الغريب حتى تلاشى شيء من توترها. وجود شخصٍ مألوف في أرضٍ غريبة يمنحك شعورًا لطيفًا بالسكينة.
ابتسمت كارينتينا بحرارة.
“الأب أندريا! لقد طال الغياب. هل كنت بخير طوال هذه المدة؟”
“بفضل أطفال الشمال، قضيت أيامي بفرح كبير. حاليًا، يتولّى أحد طلابي، وهو كاهن متمرّس، شؤون المعبد الشمالي، أما أنا، فقد استجبت لنداء قداسته وعدت إلى هنا.”
“آه… أشكركم جزيل الشكر على عنايتكم الدائمة.”
ثم وجه أندريا نظره إلى الشخص الواقف خلف كارينتينا — إيجنيس، الذي كان يحمل ستيلا النائمة بين ذراعيه، بوجهٍ جامد كما لو أنه منحوت من صخر.
تأمّله أندريا بنظرة متفحصة مليئة بالتساؤلات.
في الواقع، العلاقة بين الإمبراطورية والمعبد الأعلى في الوقت الراهن لم تكن على ما يرام.
ففي الماضي، كانا حليفين وثيقين، يتبادلان الدعم والمساندة. لكن بعد أن أحكمت الإمبراطورة والدوق هورتون تحالفهما مع برج الكيمياء، بدأت الفجوة تتسع، واهتزت العلاقة بين الطرفين…
“من هذا الاتجاه، تفضّلوا. لقد جرى إعداد مقركم سلفًا.”
تحت إشراف نائب البابا أندريا، سارت كارينتينا برفقة إجنيس وسيريا بخطى هادئة عبر أروقة المقر المقدس.
وأثناء صعودهم الدرج، مالت كارينتينا برأسها نحو إجنيس وهمست له بصوتٍ خافت:
“سأتولى أنا العناية بالآنسة ستيلا في غرفتي، يا صاحب السمو.”
“لا بأس، سأنام وإياها الليلة.”
تنهدت كارينتينا بخفة، ونبرة قلقة خفيفة انطلقت من شفتيها:
“علمتُ من أخي أنك بالكاد نلتَ قسطًا من النوم في الأيام الماضية، وكنت منشغلاً تمامًا. لا تقلق بشأنها، لقد اعتادت النوم معي. وسأحرص أن لا تشعر بأي نقص أو ازعاج، حتى دون وجود جيما.”
تردد إجنيس للحظة، ثم أومأ برأسه موافقًا:
“حسنًا… إذًا، أتركها لكِ الليلة فقط.”
وما إن ارتسمت على شفتي كارينتينا ابتسامة رضا، حتى توقف نائب البابا أمام بابين متقابلين.
“آنسة لورين، ستكون إقامتكم في هذا الجناح المخصص للكاهنات. أما سمو ولي العهد، فيمكنكم استخدام الغرفة المقابلة مباشرة.”
“أشكرك جزيل الشكر، يا حضرة الأب أندريا.”
ابتسم أندريا بود، ثم انحنى قليلًا وغادر دون أن يدخل إلى الغرف.
عند دخولهم، فوجئوا بأن الغرفة كانت أوسع وأدفأ مما توقعوا، بمساحتين منفصلتين للنوم تفصلهما صالة استقبال صغيرة.
بادرت كارينتينا بإرسال سيريا، التي لا تزال تعاني من دوار العربة، إلى الغرفة الأولى لتستريح، ثم دخلت بنفسها إلى الغرفة المقابلة.
الغرفة كانت متواضعة، كما يليق بالمعبد: أثاث بسيط، طاولة صلاة خشبية بلون الشوكولاتة، وسرير خالٍ من الستائر. السجادة المفروشة على الأرض بلون رمادي هادئ، وأريج ناعم من خشب اللبان يملأ الأجواء.
أجلس إجنيس ستيلا برفق على السرير، وأحكم غطاءها بعناية بالغة. كانت تغطّ في نوم هانئ، لم تتحرك لها رمشة، وكأنها تحلم بحلم سعيد. اقتربت كارينتينا من الطفلة، وأزاحت خصلات شعرها التي تغطي جبينها بحنوٍّ بالغ.
تأملها إجنيس بصمت، يتأرجح بين مشاعر متداخلة من الامتنان والتأثر. فقد كانت تغمر ستيلا بعاطفة صافية لا تشوبها شائبة. شعور بالذنب تسلل إلى قلبه.
‘ربما كانت تحلم برحلة مع داميان… فهل بتسرّعي أنا من باعد بينهما؟’
لم يمضِ على تعارفهم سوى بضعة أسابيع، ومع ذلك، فإن دموعها آنذاك ما زالت محفورة في ذاكرته كندبة لا تندمل.
“أنا مدين لكِ بالكثير، حقًا.”
رفعت كارينتينا رأسها باندهاش، وقد لمعت عيناها بتعجّب. لم تكن تتوقع هذه الكلمات، لا سيما وأن ملامحه كانت مفعمة بالأسف.
هل يشعر بالذنب لأنني لم أرافق داميان؟
ربما… بما أنه لا يُظهر مشاعره بوضوح، فقد يكون ذلك اعتذارًا مبطنًا.
أجابت بابتسامة مشرقة:
“كنت حزينة قليلًا لأنني لم أرافق الآنسة ستيلا في رحلتنا إلى الغرب، لكنني الآن سعيدة. الرحلات أجمل حين ترافق شخصًا تحبّه، أليس كذلك؟ ستيلا، حين نعود للعاصمة، ستبقى داخل القصر الملكي على الأرجح… لذا، كل لحظة الآن هي نعمة.”
ردّ إجنيس بنبرة جادة، كمن يصرّ على قوله:
“إذًا تعالي أنتِ أيضًا إلى القصر.”
“بالطبع، سآتي. على الأرجح لن أظل أناديها ‘الآنسة ستيلا’ لوقتٍ طويل، أليس كذلك؟ أتمنى أن تبقى ذكريات الشمال عزيزة على قلبها… ويكفيني أن أكون جزءًا من تلك الذكريات.”
أزهرت ابتسامة خفيفة على وجهها، وحين التقت عيناها بعينيه، شعر قلبه وكأنه ينفجر من الخفقان.
لسانه الذي لطالما كان فصيحًا، بدا عاجزًا فجأة. صدره كان يختنق، وكأنها قد أمسكت به من قلبه وشدت دون رحمة.
“إذًا… سأغادر الآن. استريحي جيدًا.”
“شكرًا، وأتمنى لكَ أحلامًا سعيدة، سموّك.”
“…وأنتِ كذلك.”
ثم غادر كنسمة صيفية لطيفة. ومع وداعٍ بدا خجولًا، ضحكت كارينتينا بصمت، وكأنها تجد في تلك اللحظة شيئًا جديدًا على نفسها.
اقتربت ببطء من النافذة، ونظرت إلى الخارج. الأضواء البرتقالية الدافئة كانت تتلألأ خلف الزجاج، وكأنها تسبح في بحر من السكون.
∞
في صباح اليوم التالي، استيقظت كارينتينا وستيلا أبكر من المعتاد، وتناولتا وجبة الإفطار البسيطة التي قدمها المعبد.
شوربة خفيفة تحتوي على مكعبات من اللحم والبطاطا، وقطعة خبز الجاودار القاسي. رغم بساطتها، إلا أنها كانت شهية بطريقة غريبة.
كان اللقاء المرتقب مع قداسة البابا ليونيوس مقررًا بعد صلاة المساء، في تمام السابعة مساءً. وحتى ذلك الحين، لم يكن لديهما ما يشغل الوقت.
عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا.
قدّمت كارينتينا كوبًا من شاي الزنجبيل الخفيف إلى ستيلا. ورغم أنها لم تكن تحبه، إلا أنها شربته بهدوء إكرامًا لقول كارينتينا إنه مفيد للدوار.
اقتربت سيريا بخطوات متثاقلة، ثم جلست على الأريكة المقابلة.
“صباح… الخير، يا سموّ الأميرة. آنسة كارينتينا.”
لكن من نبرة صوتها، لم يكن الصباح طيبًا أبدًا.
“لا يزال دوار السفر يؤرقكِ، أليس كذلك؟”
أومأت سيريا ببطء وهي تملأ كوب الماء أمامها.
“يبدو ذلك. ربما كان من الأفضل أن أركب الخيل بدلًا من العربة.”
أشفقت كارينتينا عليها، لكنها لم تُرِد أن تزيد همّها.
“لا بأس، سأتجاوز الأمر قريبًا. على كل حال، سموّ الأمير ترك لي بعض الأوراق لأراجعها، لذا سأذهب إلى الغرفة المقابلة.”
“دون أن تأكلي شيئًا؟ لا بد أن تتناولي ولو قليلًا.”
“إن أكلت الآن… فأخشى أن أندم. على أي حال، تناولت الدواء الذي أعطيتني إياه، وسأصمد حتى يتحسّن حالي.”
ثم سألتها كارينتينا، بنبرة ملؤها القلق:
“هل هناك أمر خطير يجري؟”
تنهّدت سيريا، وارتشفت من الماء، ثم تمتمت:
“لا أستطيع الخوض في التفاصيل، لكن… هناك شخصٌ ما يبحث عنه سموّه.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 54"