ما إن لمح الجراء الصغيرة وجه إيجنيس، حتى بدأوا يهزون ذيولهم بحماس وركضوا نحوه بلا تردّد. إلا أنّه، وعلى عادته، لم يُبدِ أيّ ردّة فعل تُذكَر، بل جلس متكئًا على الأريكة، عينيه الهادئتين مسمّرتين نحو زخّات المطر التي تتساقط خلف النافذة.
‘شِيّون، أقسم لك، لا يُمكن! حتى لو مُت، لن يحدث شيء كهذا، فلا تُقلق نفسك بلا سبب.’
همست كارينتينا بهذه الكلمات في عقلها لتطمئن دُماها، مُنهيةً الحديث معها بتأكيدٍ قاطع. ثمّ التفتت بخفة لتُحدّق إلى إيجنيس، نظرة جانبية خاطفة.
حقًا، يا له من عالمٍ ظالم. كيف لرجلٍ بثيابٍ بسيطة، وهيئة غير متكلّفة، أن يحوّل غرفة استقبال هادئة كهذه إلى ما يشبه قاعة احتفال؟ ملامحه الساحرة، المتعالية عن الواقع، قادرة على تحويل كلّ من حوله إلى كائنات باهتة كالأخطبوط المسحوق.
ويبدو أنّه استشعر نظراتها النابضة، إذ ما لبث أن التفت نحوها ببطء. فارتجف جسد كارينتينا لا إراديًا من وخز نظراته الباردة.
‘آه، رعب! لقد فزعت!’
كان وجهه يعبّر عن ضيقٍ شديد كما لو أنّ نظراتها أزعجته بعمق، مما جعلها تُقنع نفسها بحزم: لا مجال لحدوث أي شيء بينهما، البتة.
ابتلعت بقية قطعة البسكويت بنهم، وكأنها تقطع الطريق على أفكارها.
ما إن عادت السيدة شيرون محمّلة بأدوات التطريز، حتى غرقت كارينتينا في عالم الخيوط والإبر، لاهية عن مرور الوقت.
“تخيّلي، زوجي شرب حتى الثمالة، وتمسّك بأطراف تنورتي يتوسّل إليّ بألا أرحل. أمسك بها بقوة حتى تمزّقت، فاضطر لتعويضي بعشر فساتين كاملة!”
“هيهيهيي!”
كانت شيرون تروي حكاياتها بأسلوب مدهشٍ يبعث الضحك من الأعماق، حتى شعرت كارينتينا أن وجنتيها كادتا أن تؤلما من كثرة الابتسام.
“أوه، بالمناسبة… بدا الحيّ صاخبًا عندما مررنا، هل هو وقت مهرجان؟”
أجابت السيدة شيرون بابتسامة رقيقة وهي تُسكن يدها فوق الإبرة:
“نحن الآن في فترة عيد الشكر في الغرب، حيث تُقام طقوس الامتنان المقدس.”
“عيد الشكر؟”
“أجل، إنه تقليد يوشك أن يُنسى في الإمبراطورية، وأظن أنّ الشمال لم يعد يحتفل به، أليس كذلك؟”
أومأت كارينتينا برأسها متسائلة، فاستطردت شيرون:
“نُقدّم خلال هذا العيد قرابين إلى الحاكم، ونتجنّب أكل اللحوم. بدلًا من ذلك، نتناول الأسماك والمأكولات البحرية كعربون امتنان. العيد يستمر لعشرة أيام قبل استقبال العام الجديد.”
لم تكن كارينتينا قد نسيَت هذا، فقد كانت الخلفية الأصلية لبطلة الرواية، سيريا، تنتمي للغرب، وقد مكّنها ذلك من إمداد إيجنيس بمعلومات كثيرة.
“لذا، عزيزتي، أعدّ لكما اليوم عشاءً مميزًا. ليس ستيكًا فاخرًا، لكنه طبق نادر، لا يُنسى.”
لم تفهم كارينتينا لمَ نظرات شيرون توهجت فجأة… لكن قشعريرة تسلّلت إلى ذراعيها.
“أظنّ أنّ غرفة استراحة المِعزَّة قد أصبحت جاهزة. سأتفقدها للمرة الأخيرة.”
“لا داعي لأن تُرهقي نفسك…”
“كيف لي ألّا أفرح؟ أشعر وكأن ابنتي التي زُفّت قد عادت إليّ.”
ابتسمت السيدة شيرون بحنانٍ دافئ وغادرت، تاركةً كارينتينا تغوص مجددًا في خيوط التطريز.
لكن سرعان ما أسدل ظلاله الطويلة فوقها.
“ليست يدًا ماهرة.”
تسمرت كارينتينا من صدمة الصوت الرجولي المنبعث فوق رأسها، فرفعت بصرها لتجد إغنيس يتأمل تطريزها وهو يتحدّث بهدوء.
“لمَ تطلّعك هكذا فجأة؟!”
أسرعت بإخفاء إطار التطريز خلف ظهرها، فأجاب بلا مبالاة:
“لم أتعمد النظر… الغرفة ضيّقة لا أكثر.”
عبست وهي تقول:
“هذه تجربتي الأولى! سأُبدع حين أتدرّب أكثر، لا تشكّ بي!”
أطلق إيجنيس ضحكة خفيفة، ثم انحنى ليرفع جرواً صغيرًا بشعرٍ أصفر ناعم.
كانت لمساته، بعكس مظهره الصلب، غاية في اللطف والحرص.
ترى، هل هي سحر الأماكن الغريبة؟ أم دفء هذا القصر الريفيّ؟ بدا وجهه مختلفًا، أقلّ تصلبًا، وأقرب لربيعٍ دافئ.
“إنه دافئ.”
“أتحبّ الكلاب؟”
تلبّدت ملامحه للحظة، وقال:
“كنتُ أحبّها.”
تراخت قبضتها على إطار التطريز وهي تُحدّق فيه، ثم همس بصوتٍ يحمل بين حناياه ماضٍ مؤلم:
“كان لدي كلب في القصر الإمبراطوري… كان صديقي الوحيد حينها.”
ربّت على الجرو ببطء، كما لو يعانق ذكرى قديمة.
“كان طيبًا، مغفّلًا… لم يُبدِ حتى أنيابه قط.”
“أهو لا يزال هناك؟”
“لا.”
“آه…”
“قُتل أمامي، لأنّه اعترض طريق الإمبراطورة.”
شهقت كارينتينا، فازداد خفقان قلبها.
“أنا السبب… فتحت لها الباب لأنّه يُحب الناس.”
قال ذلك بلا أسى ظاهر، إلا أنّ كلماته كانت كطعنة باردة في صدرها.
“ليس خطأك! كنت طفلًا حينها.”
لكنّه هزّ رأسه:
“العُمر لا يعفي ولي العهد من مسؤولياته… لا سيما إذا كان موته قريبًا.”
ثمّ، أعاد الجرو إلى حضن أمّه، وصوته يزداد برودة:
“أظنّك قلتِ ذات يوم إننا نتشارك هدفًا واحدًا، أليس كذلك؟”
“نعم…”
“لكني لستُ شخصًا يُريد المزيد ممّا عليه حمايته. فلتبقَ علاقتنا ضمن حدود الشمال.”
“…!”
“حين نصل إلى العاصمة، تظاهري بأنكِ لا تعرفينني. لا تقتربي مني، وخصوصًا أمام الإمبراطورة. إنها نصيحة من أخٍ لصديقٍ قديم.”
استدار وغادر بخطوات باردة.
كلماته كانت جليدية، قاسية… ومع ذلك، أحسّت وكأنها قيلت بدافع القلق.
تألم قلبها من أجله، كما لو خُدش بورقة حادة.
‘لكنني تورطت معه أكثر مما أُدرك… حتى لو لم يكن ذنبي، إن علِم أنني صنعتُ الدمية لإيذائه، فسوف يحتقرني.’
التفتت نحو النافذة، فيما المطر يُطرق الزجاج كطبولٍ منكسرة.
✦ ━━━━━━━ ⸙ ━━━━━━━ ✦
كانت غرفة كارينتينا في الطابق الثالث، بينما أُعدّت غرفة إيجنيس في الثاني، ما خفّف عنها القلق من لقائه مجددًا.
رغم أنّها سافرت عبر دائرة السحر، إلا أنّ رحلة العربة الطويلة أنهكتها أكثر ممّا توقعت.
‘لقد بالغتُ في تقدير قوتي.’
تمطّت على السرير بتثاؤب طويل، ثم نظرت إلى المطر المنهمر في الأفق الداكن.
حلّ المساء، وموعد العشاء اقترب.
استعدّت للنهوض عندما سمعت طرقًا خفيفًا، ودخلت السيدة شيرون برفقة إحدى الخادمات.
“هل نلتِ قسطًا كافيًا من الراحة، سيدتي؟”
“بفضلكِ، نعم.”
“بما أن موعد العشاء اقترب، جئتُ لأساعدكِ في التحضير، وإن كان بسيطًا.”
“لكنني لم أحضر أيّ فساتين إضافية…”
“لا تقلقي.”
وما إن صفّقت السيدة شيرون، حتى دخلت الخادمات يحملن عدة فساتين، مما أدهش كارينتينا.
قالت السيدة شيرون والدفء يعانق صوتها:
“دعيني أعتني بكِ الليلة، أميرتي.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 38"