70
“لقد أصبح القصر نظيفًا.”
قالت أميليا ذلك بعدما ألقت نظرة خاطفة على القصر.
لكن على عكس ما قالته عن النظافة، كانت تقف مستقيمة كما لو أنها دخلت إلى مكان متسخ، حريصة على ألا تلمس الجدران أو أي من الأشياء الموجودة.
“لقد أعددنا الطعام.”
“لا، لقد تناولت الغداء بالفعل في أحد مطاعم العاصمة.”
ارتسمت على شفتي إيفلين ابتسامة ساخرة للحظة.
لم يكن هناك هاتف محمول يمكنها استخدامه لإخبارهم بأنها قد تناولت الطعام مسبقًا، ولكن عادةً، عند زيارة منزل الابن وزوجته، تكون أول وجبة يتم تناولها هناك.
لذلك كانت قد طلبت مسبقًا من الخادمات إعداد الغداء بعناية.
أشارت بيدها بخفاء إلى ميرلين، التي كانت مترددة بجانبها، في إشارة إلى أن تقوم بإزالة الطعام المُعد بعناية. كانت جائعة، لكنها لم تستطع تناول الطعام وحدها أمام الضيوف.
“إذن، لنذهب إلى غرفة الاستقبال. سأقدم لك الشاي.”
“صوفيا، أحضري أوراق الشاي.”
أخرجت صوفيا زجاجة صغيرة من سلة كانت قد جلبتها. كانت تحتوي على أوراق شاي حمراء.
لم يكن ذلك هدية، بل كانت أميليا تشير بذلك إلى أنها ستشرب فقط الشاي الذي جلبته بنفسها خلال إقامتها.
كانت أميليا في العادة لا تثق بأي شيء لا تستخدمه بنفسها، ولكن هذه المرة، كان هناك أيضًا دلالة على تقليل الاحترام تجاه إيفلين، سيدة القصر.
رغم أن إيفلين فهمت ذلك، إلا أنها لم تعره اهتمامًا. فقد كانت أميليا دائمًا كذلك.
ازدراء للنبلاء ذوي المكانة المتواضعة، وعدم ثقة بالآخرين. وعلاوة على ذلك، كانت تعتبر إيفلين زوجة ابن غير مرحب بها، لذا لم يكن هذا التصرف غريبًا عليها.
أمرت إيفلين ميرلين بهدوء بإعداد الشاي باستخدام أوراق الشاي التي جلبتها أميليا.
نظرت أميليا إلى إيفلين للحظة.
“تبدين شاحبة.”
“… لم أنم جيدًا.”
تفاجأت إيفلين قليلًا. فقد كانت قد أخفت ذلك جيدًا بالمكياج، لكنها لم تتوقع أن تلاحظ أميليا الأمر على الفور.
“اعتني بصحتك. المرض يعتبر عيبًا.”
“سأضع ذلك في عين الاعتبار”
ثم أمرت إيفلين إحدى الخادمات بمرافقة الحراس الذين جلبتهم أميليا إلى غرفهم.
بعد دخول غرفة الاستقبال، فتحت إيفلين النافذة عمدًا. كانت تعرف أن الحديث مع أميليا سيجعلها تشعر بالاختناق في لحظة ما، لذا أرادت التأكد من أن الهواء متجدد مسبقًا.
جلست أميليا على الأريكة وألقت نظرة سريعة على غرفة الاستقبال، التي كانت مرتبة بشكل لا تشوبه شائبة.
“لم أكن أعلم أنك تديرين المنزل بهذه الكفاءة.”
كان ذلك مديحًا من أميليا. لم يكن يبدو كمقدمة لشيء آخر، بل كانت ببساطة تعلق على ما رأته.
“أنتِ تبالغين.”
لم تُعِر إيفلين الكثير من الأهمية لمديحها، وأجابت بتواضع مناسب.
“لا عجب أن الدوق يمدحك باستمرار. سمعت أنك كنتِ تعتنين باسحاق جيدًا أيضًا.”
“إن كان ذلك ما قاله كلاكما، فهذا شيء يسعدني.”
“لا، في الحقيقة، عودة اسحاق سالمًا بعد اختطافه يعود الفضل فيها إليكِ إلى حد كبير. نحن ممتنون جدًا لذلك.”
هذه المرة، لم تستطع إيفلين بسهولة التحكم في تعابير وجهها.
كانت تعرف أن أميليا هي العقل المدبر وراء حادثة الاختطاف. ومع ذلك، فقد ذكرت الأمر بكل برود.
لم تكن إيفلين هي الضحية الأكبر، بل كان اسحاق. لقد كان طفلًا، وربما سيظل يتذكر تلك التجربة ككابوس لفترة طويلة.
كان هذا شعورًا قريبًا من الغضب.
لكن كان عليها أن تعبر عن غضبها بطريقة مختلفة. لم يكن بإمكانها إظهار معرفتها بالأمر هنا.
“طالما كان اسحاق هنا، كنت أنا الوصية عليه. حماية الطفل واجب و مسؤولية البالغين. لقد كان ذلك أمرًا طبيعيًا.”
رفعت أميليا زاوية فمها بابتسامة.
“أنتِ راشدة مسؤولة.”
“لقد استمتعت أيضًا بوجود اسحاق هنا. كان الأمر أشبه بالحصول على أخٍ صغير ظريف. لقد سمعت منه قصصًا ممتعة أيضًا.”
اختفت الابتسامة عن شفتي أميليا.
“قصص ممتعة…؟”
“قال اسحاق إنه لا يريد التنافس مع ديفرين. التنافس مع أخٍ عبقري؟ كان ذلك قلقًا طفوليًا.”
تصلبت تعابير أميليا. بينما رسمت إيفلين ابتسامة خفيفة على شفتيها، وكأن الأمر لم يكن مهمًا.
“قضاء الوقت مع طفل لطيف مثل اسحاق جعلني أشعر وكأنني عدتُ إلى طفولتي. لقد كان وقتًا ذو معنى.”
لم تستطع أميليا إخفاء تعبيرها المتوتر بسهولة. كانت تفهم المغزى من كلام إيفلين.
وفي المقابل، استنتجت إيفلين من رد فعل أميليا أنها تحاول إقصاء ديفرين وجعل اسحاق رب العائلة.
“لم أتوقع ذلك…”
كانت تعرف أن أميليا لم تكن تكره ديفرين. ولكن، بطبيعة الحال، عندما أنجبت ابنًا من صلبها، لم تستطع إلا أن تفكر بهذه الطريقة.
“أنا لا أؤمن بأن أحدًا يُولَد مؤهلًا ليكون رب العائلة منذ البداية. بما أن المنصب مهم، يجب أن يتولاه الشخص المناسب.”
لم تحاول أميليا تغيير الموضوع أو التظاهر بعدم الفهم. كان ذلك اعترافًا واضحًا بأنها تريد جعل اسحاق الوريث .
“هل تعتقدين أن اسحاق هو الشخص المناسب لهذا المنصب؟”
“ليس بالضرورة. لكن على الأقل، يجب أن يحصل ابنا عائلة ليوونوك على فرص متساوية.”
“من المدهش أن تتحدثي عن العدالة وأنتِ معروفة ببرودك. منصب رب العائلة ليس سباقًا يبدأ فيه الجميع من نفس النقطة، ويفوز من يصل أولًا.”
حدقت إيفلين مباشرة في أميليا.
“وفقًا لتقاليد الإمبراطورية، فإن الابن البكر هو من يرث المنصب. طالما أن ديفرين موجود، فلن يصبح اسحاق رب العائلة.”
لم يكن اسحاق يريد هذه المعركة. كانت رغبة أميليا في أن يصبح ابنها وريثا للدوقية مجرد طموح شخصي لها.
“إن لسانك وقح.”
“إذا كنتِ قد انزعجتِ من كلامي، فأعتذر. لكن هذه مسألة مهمة، أليس كذلك؟ أنا أؤمن تمامًا بأن ديفرين هو من يجب أن يصبح الوريث . وإذا كنتِ ترين الأمر بشكل مختلف حتى النهاية، فقد يكون من الضروري أن أناقش هذا الأمر مع زوجي.”
كان ذلك تهديدًا بأنها ستنقل المحادثة إلى ديفرين. لكن أميليا لم تُظهر أي ارتباك.
“أنتِ تثقين بنفسكِ أكثر مما ينبغي في هذه العائلة. لقد كرّستُ حياتي لعقود من أجل دوقية ليوونوك، وكلٌّ من الدوق وحاشيته يعترفون بمساهماتي. هل تظنين أن مجرد كلمات منكِ ستجعل ديفرين يتخلى عني؟”
“على الأقل، قد يبدأ في الشك.”
ردّت إيفلين بكل هدوء.
لم يكن هناك دليل واضح على هذه المحادثة في الوقت الحالي. ولكن بمجرد أن تنقلها إلى ديفرين، فإنه سيبدأ في النظر إلى أميليا بطريقة مختلفة.
“يا لكِ من فتاة وقحة.”
نقرت أميليا لسانها بامتعاض وفتحت مروحتها لتبدأ في التهوية بها.
“أنتِ مشغولة بالتفاصيل الصغيرة لدرجة أنكِ لا ترين الصورة الأكبر. هل تعلمين أن العلاقة بين ديفرين وصاحب السمو نوسيلرتون قد تدهورت مؤخرًا؟”
“أعلم ذلك.”
لم تكن إيفلين تتدخل كثيرًا في شؤون ديفرين، لكن الأخبار وصلت إليها بشكل طبيعي.
إضافة إلى ذلك، نظرًا لأن الأمر كان مرتبطًا بفينريس، فقد كان من الصعب عليها ألا توليه اهتمامًا.
كما قالت أميليا، العلاقة القوية بين ديفرين و نوسيلرتون بدأت تتصدع. لم يُعرف السبب، لكن الناس تكهنوا بذلك لأن نوسيلرتون لم يعد يصطحب ديفرين إلى الاجتماعات المهمة.
وفي الوقت نفسه، كان فينريس يحقق نجاحًا سياسيًا باهرًا من خلال حل إحدى القضايا الوطنية الكبرى و كسب ثقة الإمبراطور.
العلاقة بين نوسيلرتون و فينريس كانت أشبه بأرجوحة الميزان؛ عندما يرتفع أحدهما، ينخفض الآخر.
لذلك، في الوضع الحالي، كانت مكانة ديفرين، الذي يدعم نوسيلرتون، في وضع غير مستقر.
“بدلًا من القلق بشأن أمور لا طائل منها، ركّزي على دعم زوجكِ. تدهور علاقة ديفرين بنوسيلرتون لن يكون جيدًا للعائلة على المدى الطويل.”
“هذا أمر سيعتني به زوجي.”
لأول مرة، بدا على وجه أميليا تعبير مصدوم.
عندما لاحظت إيفلين أن أميليا لم تستطع إخفاء تعبيرها هذه المرة، شعرت بارتياح كبير لم تشعر به منذ زمن طويل.
“دور الزوجة هو إدارة شؤون المنزل ودعم زوجها، أليس كذلك؟ أما القضايا الخارجية، فمن الطبيعي أن يتعامل معها الزوج.”
“هاه، هذا مثير للسخرية.”
وقفت أميليا في النهاية من مقعدها.
“لا يوجد سبب يجعلني أواصل الحديث معكِ.”
وقفت إيفلين بدورها و انحنت بأدب.
“إذا احتجتِ إلى أي شيء أثناء إقامتكِ، فلا تترددي في إخباري.”
****
اختفت أميليا إلى غرفتها، بينما عادت إيفلين إلى جناحها الخاص.
بعد لحظات، طرق أحدهم الباب. عندما سمحت إيفلين بالدخول، دخلت ميرلين وهي تحمل حزمة من الرسائل بيدها.
بدا القلق جليًا على وجه ميرلين.
“هل حدث شيء مع الدوقة؟”
“… لماذا تسألين؟”
“غادرت الدوقة غرفة الاستقبال بينما لم يكن قد نفد حتى نصف الماء في إبريق الشاي.”
“إنها لا تحبني على أي حال.”
ردّت إيفلين بصدق. فقد كانت ميرلين تعمل كمديرة للخدم هنا لفترة طويلة، لذا كانت على دراية بالأمور.
“أنا قلقة من أن يحدث شيء أثناء إقامتها هنا.”
“لا داعي لأن تقلقي أنتِ أيضًا يا ميرلين. على أي حال، هل وصلت رسائل؟”
“آه، نعم. ها هي.”
أمرت إيفلين ميرلين بالعودة إلى عملها، وجلست وحدها لمراجعة الرسائل.
بينها، كان هناك خطاب لم يكن عليه اسم المرسل. سارعت إلى فتح المغلف ونشرت الورقة.
[إلى منقذتي العزيزة،
عاد الطبيب ألتورن من مملكة إيدبيرغ إلى الوطن. بطلب مني، يقيم الآن في منزل ريفي على أطراف العاصمة.
أود أن ألتقي بكِ هناك.
آمل ألا تقلقي كثيرًا حتى ذلك الحين.]
أخيرًا، أصبح بإمكانها لقاء الطبيب.
أغلقت إيفلين الرسالة بيدين مرتعشتين، وارتسمت على وجهها تعابير متوترة.