داخل العربة المتجهة إلى القصر الإمبراطوري، كان ديفرين و ريكال بجلسان معًا.
نظرًا لأن كلاهما كان بطبيعته قليل الكلام، فقد كانت العربة دائمًا صامتة عند ركوبهما معًا.
لكن اليوم كان الصمت أشد من المعتاد، والسبب كان ديفرين، الذي كان غارقًا في أفكاره.
بين الحين والآخر، كان يشعر بحرارة غريبة تلامس صدره حيث لمسته يد إيفلين سابقًا.
كان ينقر بأصابعه بانتظام، لكنه فجأة حوّل نظره ليرى ريكال جالسًا يقرأ كتابًا.
على غلاف الكتاب كانت هناك صورة لقطة مرسومة بأسلوب نابض بالحياة، لدرجة أنها بدت وكأنها ستقفز من بين الصفحات في أي لحظة.
‘كتاب لا يليق به.’
كان ديفرين يعلم أن سبب قراءة ريكال لهذا النوع من الكتب هو إيفلين.
لم يكن هناك أي انسجام بين إيفلين و ريكال، ومع ذلك، فقد أصبح من الشائع رؤيتهما يتحدثان معًا مؤخرًا.
في البداية، اعتقد ديفرين أن إيفلين كانت تزعج ريكال، لكنه لاحظ أن ريكال، رغم تعابيره الهادئة، كان يُظهر ابتسامة طفيفة جدًا أثناء حديثه معها.
وذلك… لم يعجب ديفرين أبدًا.
لم يكن يعرف حتى لماذا كان منزعجًا، لكنه وجد نفسه يسأل فجأة
“ألست تعتقد أن إيفلين أصبحت مختلفة عن ذي قبل؟”
رفع ريكال رأسه ببطء عن الكتاب ونظر إليه.
“نعم، لقد تغيرت”
“ليس مجرد تغيير… بل في بعض الأحيان تبدو وكأنها شخص آخر تمامًا.”
لم يرد ريكال على الفور، وكأنه يفكر في الأمر.
في وقت من الأوقات، كان لديه شكوك مماثلة، لكنه اعتبر أن التفكير بهذه الطريقة إهانة لا معنى لها.
فكرة أن تكون إيفلين شخصًا آخر تمامًا كانت أمرًا غير منطقي.
“هل تعتقد أن هناك شخصًا آخر يتنكر على هيئة إيفلين؟”
هزّ ديفرين رأسه مستبعدًا الفكرة.
“… هذا مستحيل.”
“اذن ، لا تفكر في الأمر بعمق شديد، سيدي.”
قال ريكال بواقعية.
“كل شخص يتغير، ربما تعتبر إيفلين زواجها نقطة تحول وتسعى لأن تصبح شخصًا جديدًا.”
كانت إجابة منطقية و قريبة من الحقيقة.
حتى إيفلين نفسها قالت شيئًا مشابهًا من قبل.
ومع ذلك، لم يستطع ديفرين التخلص تمامًا من بذرة الشك التي بدأت تنمو داخله.
لكن كلما فكر في ما إذا كان هناك جدوى من محاولة كشف الحقيقة، كان شعوره القلق يبرد على الفور.
‘لا معنى لهذا.’
سواء كانت إيفلين شخصًا مختلفًا أم لا، فإن ذلك لن يغير حقيقة أنه تزوجها، ولن يؤثر ذلك على حياته بأي شكل من الأشكال.
على الأقل، هذا ما كان يعتقده في ذلك الوقت.
****
لكن شكوك ديفرين، التي كانت قد هدأت لفترة، عادت لتطفو مجددًا على السطح بعد حضوره الحفل الراقص.
بالنظر إلى حياته حتى الآن، يمكنه الجزم بأن ذلك اليوم كان الأكثر إرهاقًا على الإطلاق.
فضيحة الآنسة كارينا، استفزاز فينريس كوتس، وفوق كل ذلك، سقوط إيفلين في النهاية…
مجرد تذكر تلك الليلة كان يجعل رقبته متيبسة من التوتر.
لكن كان هناك شيء واحد لم يعد بإمكانه إنكاره بعد ذلك اليوم.
“أنا أهتم بإيفلين أكثر مما ينبغي.”
عندما لا تكون بجانبه، كان يتساءل ماذا تفعل؟ وعندما تكون معه، كان يجد نفسه يراقبها باستمرار.
هل كان بإمكان ديفرين القديم أن يتخيل أنه سيهتم بإيفلين بهذا الشكل؟
لا، بالطبع لا.
في الماضي، كان يريد فقط أن تختفي من أمامه عندما كانت تبكي، ولم يكن ليتخيل حتى في أحلامه أنه سيفكر فيها بهذا الشكل.
****
“سيدي…”
في تلك اللحظة، تحدثت إليه ميرلين ،رئيسة الخدم، بصوت حذر.
“ما الأمر؟”
“في الواقع… عيد ميلاد السيدة قادم قريبًا. كيف تود أن نجهز له؟”
استحضر ديفرين في ذهنه تقويم هذا الشهر، وسرعان ما تذكر اليوم المحدد.
‘إذًا، عيد ميلاد إيفلين قريب.’
في العادة، كان ليرد بلا مبالاة: “دبّروا الأمر بأنفسكم.”
ولكن هذه المرة، لم يكن لديه رغبة في إعطاء أوامر باردة مثل العادة.
ربما لأن علاقتهما أصبحت أفضل قليلًا منذ أن أغمي عليها في الحديقة ذلك اليوم…
تذكر ديفرين كيف أن إيفلين قد تعلمت منه الرقص، وقامت بتدليك كتفيه بنفسها، بل حتى لعبت معه الورق، فابتسم بسخرية.
في هذه المرحلة، كان التظاهر بعدم معرفة عيد ميلادها أكثر تصنّعًا من الاعتراف به.
“لنجعله بسيطًا في المنزل.”
“هل ستحضر أيضًا، سيدي…؟”
سألت ميرلين بحذر، وهي تراقب تعابيره.
أومأ ديفرين برأسه.
“سأكون هناك.”
أشرق وجه ميرلين فرحًا.
“نعم! سأبلغ السيدة بذلك.”
كانت قلقة من أن يترك سيدها زوجته في عيد ميلادها الأول بعد الزواج تقضي اليوم بمفردها.
لذلك، لم يكن لديها أي اعتراض على إقامة احتفال بسيط داخل القصر.
عادة ما يقيم النبلاء حفلات عيد ميلاد فاخرة، ولكن بالنظر إلى أن إيفلين قد انهارت مؤخرًا، فلن يكون الأمر غريبًا إذا تم الاحتفال بها بطريقة هادئة.
غادرت ميرلين بخطوات خفيفة، بينما سحب ديفرين ربطة عنقه إلى الأسفل وتنهد بعمق.
“هاه…”
على الرغم من أنه اعتبرها الخطوة الطبيعية في هذا الموقف، إلا أنه لم يشعر بالراحة تجاه قراره.
لم يكن يعرف كيف تُقام أعياد الميلاد العائلية البسيطة، فهو معتاد فقط على الحفلات الرسمية التي يحضرها بشكل روتيني.
كان الأمر مختلفًا تمامًا عن مجرد إعطائها تدليكًا أو اللعب معها بالورق.
عبس ديفرين، مستاءً من نفسه.
لقد كان قلقًا جدًا بشأن عيد ميلاد شخص آخر، وهذا جعله يشعر بالضيق والانزعاج.
‘إنه مجرد يوم عادي.’
حاول إبعاد هذه الأفكار عن ذهنه، وزفر بهدوء، ثم ضبط تعابيره قبل أن يتوجه إلى غرفته.
****
داخل العربة التي سادها الصمت المعتاد، تحدث ريكال فجأة
“عيد ميلاد إيفلين قادم قريبًا، صحيح؟”
كان ديفرين ينظر عبر النافذة، يستعرض جدوله لهذا اليوم، لكنه التفت إلى ريكال عند سماع ذلك.
“صحيح.”
‘لكن… كيف عرفت؟’
كان يريد أن يسأل هذا، لكنه امتنع عن ذلك.
فلم يكن هناك داعٍ لهذا السؤال، وبغض النظر عن الجواب الذي قد يتلقاه، شعر أنه لن يعجبه على أي حال.
ظهر شعور غامض بعدم الارتياح مرة أخرى، مما جعله يشعر بجفاف في فمه.
“بما أنه لم يتم إرسال أي دعوات، يبدو أن الاحتفال سيكون داخل القصر.”
قال ريكال بنبرة هادئة.
“هذا أفضل، خاصة بعد أن فقدت وعيها في الحفل الراقص.”
لم يرد ديفرين، فقط استمع بصمت.
“لكن هل أعددت لها هدية؟”
عند سماع كلمة هدية، ظهر عبوس خفيف على جبين ديفرين.
“هدية؟”
“نعم، الهدية.”
“سألتك فقط لأتأكد، لكن يبدو أنك لم تفكر في ذلك على الإطلاق.”
أطلق ريكال تنهيدة وكأنه مستاء، مما جعل ديفرين يحدّق فيه بحدة.
كان ريكال عادةً هادئًا ولا يتدخل في الأمور الشخصية، ولكن الآن… كان يُلقي عليه محاضرة حول كيفية تجهيز عيد ميلاد زوجته.
وكانت تعبيراته توحي بأنه على وشك أن يقول
‘لماذا أنت بطيء هكذا ‘
“هل جهزتَ شيئًا إذن؟”
سأله ديفرين ببرود .
“بالطبع.”
عندها، زاد عبوس ديفرين.
“لقد اشتريت لها طقم أكواب شاي مستوردة. فهي تحب شرب الشاي.”
“….”
“كما أنها لا تحب الأشياء الفاخرة أو الباهظة، لذا اخترت تصميمًا بسيطًا مع نقوش أنيقة وراقية.”
شعر ديفرين برغبة في قول
‘حقًا؟ منذ متى أصبحت تعرف ذوقها أفضل مني؟’
لكنه امتنع عن ذلك ولم يقل شيئًا.
مدّ يده إلى فمه، وكأنها محاولة لإبقاء كلماته محبوسة داخله.
“لا داعي للتفكير كثيرًا.”
تابع ريكال بنبرة مطمئنة.
“في النهاية، بغض النظر عما تهديها، ستكون سعيدة لأنه منك.”
رفع ديفرين نظره إليه، ليجد أن زاوية شفتي ريكال كانت منحنية قليلاً في ابتسامة خفيفة.
لم يكن يتوقع منه نصيحة مثل هذه.
‘إيفلين ستكون سعيدة بأي شيء أقدمه لها…’
لكن، لم يكن لهذا وقعٌ كبير عليه.
على عكس ريكال، لم يكن ديفرين يعرف ما تحب أو تكره إيفلين.
للحظة، شعر وكأنه طالب ضعيف الأداء.
حتى بعد وصوله إلى مكتبه في القصر ظل يفكر في خيارات الهدايا طوال اليوم، لكن…
و إلى أن غابت الشمس، لم يجد إجابة واضحة.
التعليقات لهذا الفصل "137"