في وقت متأخر من المساء، ظلت أضواء المكتبة في قصر الدوق مضاءة.
كلما تحرك طرف القلم فوق الورق، كانت الخطوط الأنيقة تظهر بسلاسة. تشكلت الظلال مع حجب الضوء الخافت لمصباح مضاء بلطف.
“ديفرين، خذ استراحة قليلاً.”
دخلت إيفلين إلى المكتبة حاملة فنجان شاي ساخن ينبعث منه البخار، واقتربت من ديفرين.
وضعت الفنجان على الطاولة وبدأت بتدليك كتفيه بلطف، فأنزل قلمه وراح يربّت على ذراعها.
“أنتِ أيضاً، لماذا لم تخلدي إلى النوم بعد؟”
كان أكثر قلقًا بشأن إيفلين، التي كانت تمر بمتاعب لرعاية الأطفال أكثر منه.
كان طول إيليا ووودي يزداد كل عام، لكن هذا لا يعني أن الاعتناء بهما أصبح أسهل.
إيليا كانت فتاة ناضجة تتظاهر بالاتزان بشكل مبالغ فيه، مما جعلها بحاجة إلى مزيد من الانتباه، بينما كان وودي عاطفيًا وحساسًا وبدأ يمر بمرحلة المراهقة مبكرًا.
“لا تقلق بشأني. في الواقع، لقد كنت نائمة حتى وقت قريب.”
ارتفعت حواجب ديفرين قليلاً، ثم جذبها إلى حضنه عندما تنهدت.
“اضطراب النوم ليس أمرًا جيدًا.”
اتكأت إيفلين على صدره القوي، وابتسمت بلطف.
“إذا كنت لا تريد أن يتعكر نومي، فأنهِ عملك بسرعة. سريري يبدو واسعًا جدًا من دونك، ولا أستطيع النوم.”
في الفترة الأخيرة، كان ديفرين كثير السفر، ومنذ عودته، كان يقضي أيامًا في إنهاء الأعمال المتراكمة في القصر.
كان لا يزال مسؤولًا عن التأكد من أن القصر يسير على ما يرام أثناء غيابه، بغض النظر عن مدى انشغاله بالخارج.
“إذا قلتِ ذلك، فلن أتمكن من إنجاز عملي.”
“هاها، من يدري؟”
شدت إيفلين طرف قميصه، واقتربت منه أكثر.
قبلة خفيفة، لم تدم سوى لحظة، وكأنها سراب.
ثم، بسرعة، أفلتت من بين ذراعيه.
نظر ديفرين إلى زوجته الجريئة والمحبوبة بعينين ضيقتين، متأملاً جرأتها المحببة.
“إيفلين.”
“إذا كنت تفكر في مهرجان الصيف الذي سيُقام قريبًا في دوقية ليونووك ، فمن الأفضل لك أن تسرع.”
كما قالت، كان المهرجان الكبير للمنطقة على وشك الحدوث.
في ذلك اليوم، يرتدي الناس أكاليل الزهور، يجتمعون في الساحة للرقص، يتشاركون الطعام اللذيذ، وفي النهاية، يلقون أكاليلهم في النهر بينما يتمنون الحظ السعيد والسلام لهذا العام.
وعد ديفرين بالذهاب مع إيفلين وحدهما هذه المرة.
“أنا هنا لتشجيعك، وليس لإزعاجك.”
دارت إيفلين بخفة، وتحركت تنورتها برشاقة، وظهرت على وجهها ابتسامة مشرقة.
في تلك اللحظة، شعر ديفرين بأن بتوترته يتلاشى، وحل محله إحساس دافئ بالسعادة.
يقول البعض إن الحب مجرد شعور عابر، لكن ديفرين لم يعتقد ذلك أبدًا.
حتى بعد سنوات من زواجهما، كانت إيفلين لا تزال جميلة وساحرة بالنسبة له.
عندما يدفن وجهه في عنقها، كانت تفوح منها رائحة منعشة ومريحة، وعندما تتصرف بمرح مثل الآن، كانت تبدو وكأنها فتاة يافعة.
كان يعلم أنه سيحبها إلى الأبد.
عندما كانت تغادر المكتبة وهي تدندن بلحن خفيف، شعرت الغرفة الداكنة فجأة وكأنها امتلأت بدفء الربيع.
“إيفلين.”
ناداها ديفرين بدافع غريزي.
“نعم؟”
استدارت، وشعرها الطويل يتراقص في الهواء، وعيناها العسلية تتأملانه بفضول.
حدّق فيها طويلًا قبل أن يبتسم بصوت منخفض، ثم هز رأسه.
“لا شيء.”
أمالت إيفلين رأسها بحيرة، لكنها ابتسمت وخرجت من الغرفة.
رغم أن المصباح ما زال مضيئًا، إلا أن عينيه بقيتا معلقتين بالمكان الذي كانت واقفة فيه.
‘متى بدأ هذا الشعور؟’
تساءل ديفرين متى وقع في حبها لأول مرة.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً ليجد الجواب.
لقد وقع في حبها بعد فترة قصيرة من زواجهما.
لكنه، بغبائه، لم يدرك ذلك حينها.
في ذلك الوقت، كانت إيفلين شخصًا مختلفًا تمامًا.
في البداية، كان مشوشًا بسبب التغيرات التي طرأت عليها، لكن قبل أن يدرك ذلك، ترسخت مشاعره نحوها بقوة، كما تتغلغل مياه الأمطار في الأرض الجافة حتى تصبح صلبة من جديد.
لقد عرفها منذ فترة طويلة، فلماذا وقع في حبها فجأة بعد الزواج؟
ربما، في أعماقه، كان يدرك أن إيفلين لم تعد نفس الشخص الذي كان يعرفه من قبل.
فحتى عندما يتغير الناس، لا يمكنهم تغيير عاداتهم أو تصرفاتهم بين ليلة وضحاها.
لكن إيفلين بعد الزواج لم تحتفظ بأي من عاداتها السابقة.
كان ديفرين يعرف ذلك، لكنه اختار تجاهل الحقيقة، كأن قلبه يرفض مواجهة الواقع.
حتى الآن، لم يكن لديه أي نية لسؤالها عن السبب.
كما في القصص الخيالية التي يقرؤها وودي، إذا كُشف سر الجنية، فقد تختفي إلى الأبد.
قد تبدو قصة الأطفال تلك سخيفة، لكن إيفلين كانت شخصًا لا يريد حتى التفكير في فقدانه.
لذلك، لم يكن بحاجة إلى الحقيقة.
بل كان يتذكر فقط نفسه السابقة، المحبطة والمتحجرة، التي لم تكن صادقة مع مشاعرها.
مرة أخرى، استرجع الأيام التي وقع فيها في الحب.
تراقص ضوء المصباح في الظلام.
***
قبل سنوات، في يوم الزفاف
كانت العروس التي وقفت أمامه جميلة.
لكن هذا كان كل شيء.
حاول ديفرين أن يتذكر مدى الإرهاق الذي تسببته له إيفلين.
إيفلين، التي كانت كثيرة الدموع ورقيقة القلب، لم تكن متوافقة معه منذ طفولتها.
حتى لو تجاهل الفارق الكبير بين عائلتيهما ومعارضة المحيطين بهما، فقد كانت شخصًا يصعب التعامل معه.
‘هاه…’
أن يقضي حياته كلها مع هذه المرأة التي بالكاد تتوافق معه… لم يكن أمرًا سهل التقبل، مهما حاول تهدئة نفسه، لم يستطع منع تنهيداته.
إذا استمر في العيش معها، فمن المؤكد أن صداعه المستمر لن يختفي أبدًا.
في يوم الزفاف، كان يعتقد ذلك بكل تأكيد.
لكن مع مرور الوقت، بدأ ديفرين يلاحظ أن توقعاته كانت بعيدة عن الواقع.
“زيارتك لغرفتي يجب أن تقتصر على الساعة 6 إلى 10 مساءً. عليك أن تطرق الباب أربع مرات لكي أميّزك عن الخادمات. ما زلت غير معتادة على هذا المكان، ولا أريد أن أخطئ في استخدام الألقاب.”
كانت إيفلين هي من وضعت القواعد أولًا لعلاقتهما.
كانت القواعد واضحة ومباشرة، خالية من أي تردد أو تعلق عاطفي.
لدرجة أن ديفرين نفسه شعر بعدم الارتياح تجاه هذا التصرف البارد منها.
ثم، بدأت تحدث أشياء لا تُصدق.
بدأت إيفلين في فرض النظام على الخادمات، بل قامت بتجديد القصر القديم دون أن يطلب منها أحد ذلك.
و تمكنت حتى من كسب ريكال، الذي كان ينظر إليها بازدراء، إلى جانبها.
لو كانت هذه هي إيفلين التي يعرفها، لكانت قد أغرقت المكان بالدموع الآن، لكن هذا… كان أمرًا غريبًا. لم يستطع فهم ما يحدث.
في أحد الأيام، عاد ديفرين إلى المنزل بعد العمل، فوجد إيفلين جالسة على أريكة الصالة تقرأ كتابًا.
بدت غارقة في القراءة لدرجة أنها لم تلحظ حتى عودته.
وقف يراقبها بصمت.
شعرها البني الفاتح كان مضفورًا بشكل أنيق، وجهها كان ناعمًا وشاحبًا، وشفتيها رفيعتين.
كانت ملامحها تمامًا كما يتذكرها.
لكن ما إن امتلأت عيناها بالحياة، حتى بدت وكأنها شخص مختلف تمامًا.
“سيدي، لقد عدت.”
اكتشفت الخادمة ميرلين أخيرًا ديفرين، الذي كان واقفًا بلا حراك، واقتربت منه بانحناءة سريعة.
عندها فقط رفعت إيفلين رأسها وأدركت أنه قد عاد.
لم يكن ديفرين مسرورًا بكسر هذا الصمت الهادئ.
“كان عليكَ إصدار بعض الضوضاء عند وصولك، لقد أفزعتني.”
خرج صوتها المعاتب بسلاسة من بين شفتيها، وفجأة، تغير الجو المحيط بها.
بمجرد أن نطقت بكلمة واحدة، بدت وكأنها أصبحت شخصًا آخر تمامًا.
راقبها ديفرين بصمت للحظة، ثم أدار رأسه وأعطى معطفه لميرلين قبل أن يصعد الدرج دون أن يرد عليها.
لكن قبل أن يتمكن من الابتعاد، أغلقت إيفلين كتابها بسرعة، وقفزت نحوه.
“انتظر لحظة!”
تفاجأ ديفرين قليلًا من سرعتها، لكنها وصلت إليه في غمضة عين ومدت يدها فجأة، تلامس صدره وتفركه.
و على غير توقعه ، أصابعها الرقيقة جعلت قلبه يسقط كما لو أنه أصيب بعطل.
أما إيفلين، فبدت مركزة تمامًا على ما كانت تفعله، دون أن تدرك أثر لمستها عليه.
“هناك بقعة على قميصك. لا تبدو كشخص فوضوي، فلماذا تحمل البقع هكذا؟”
بقعة…
شعر ديفرين بضعف مفاجئ لكنه تجاهله وهو يجيب.
“لقد اصطدمت بالمكتب، وتسرب الحبر عليّ، لا أكثر.”
عندها، عقدت إيفلين حاجبيها بجدية
“يجب أن تتخلص من هذا القميص، لا يمكن إزالة هذه البقعة.”
ثم التفتت إلى ميرلين وأمرتها بعدم غسل القميص بل التخلص منه.
بعد ذلك، أمسكت كتابها مرة أخرى وصعدت الدرج، متمتمة بأسف
“ياللخسارة…”
“…..”
ظل ديفرين يحدق في المكان الذي اختفت عنده إيفلين، عيناه ضيقتان.
كان الجانب الأيمن من صدره، حيث لامسته، يشعر وكأنه يحترق.
متأملًا هذا الشعور الغريب، عقد حاجبيه قليلاً قبل أن يتابع طريقه إلى غرفته.
التعليقات لهذا الفصل "136"