0
المُقدمة
“ستتخذها زوجةً لك.”
لقد كان لقاءًا أولًا غير متوقع. وكان رد فعله مفهومًا، إذ لم يُخطر أبدًا من قبل بهذا الأسلوب، رغم كثرة عروض الزواج التي تلقاها.
“…زوجة؟”
كبح إدموند يده بصعوبة كي لا يهوِي بقبضته على المكتب.
“لستُ أفهم ما الذي تعنيه، ماركيز بليد.”
أزاح نظره عن دافني وأدار رأسه، فرأى عجوزًا متكئًا على عصا يحدّق إليه بعينين واسعتين. لقد كشف النقاب عن ضلوع الماركيز بليد في الخيانة، ولما كان يمرّ بأزمة مالية، عرض صفقةً على إدموند. لكن ما قدّمه لم يكن صفقة، بل ابتزازًا صريحًا. تحدّث عن نقطة ضعف إدموند، وأمره أن يتخذ ابنته زوجةً له.
“ستقع في ورطة كبيرة إن أنا فتحتُ فمي. هل سيكون ذلك حسنًا برأيك، صاحب السعادة؟”
ارتجف أليك، قائد فرسان السواد، من استفزازات الماركيز التي لم تفارقه ابتسامته الماكرة. إلا أن نظرات إدموند الحادة كفلت إغلاق فم القائد ومنعته من التدخل.
من المستحيل رفض شخص ماكر كماركيز بليد، جاء واثقًا إلى هذا اللقاء عارفًا بأحد أسرار إدموند. بل ربما دبّر أمرًا ما سلفًا للإضرار به، وقتله في الحال لم يكن خيارًا مطروحًا.
أوقف إدموند حركة أليك وسأله بوجه هادئ.
“مع أنني أجهل ما السرّ الذي تزعُم أنك تعرفه عني، فلا أظن أحدًا سيُصدّق كلام رجلٍ مدان، أليس كذلك؟”
انكمش وجه الماركيز بليد المتغضّن، لكنه اكتفى بهزّ كتفيه وقال.
“وهل هذا أمر جلل؟ أما لهذا العجوز أن يحقق رغبة ابنته الوحيدة؟ لا بد ليّ من فعل شيء حيال ذلك.”
رغبة.
تحوّلت نظرات إدموند إلى الجانب. كانت الابنة الوحيدة بين أبناء آل بليد، ومنبع كل هذا الاضطراب، المرأة التي لم ترفع رأسها منذُ وطئت قدماها هذا المكان.
“ارفعي رأسكِ.”
رفعت المرأة رأسها ببطء عندما أدركت أن كلماته موجّهة إليها.
كشفت خصلات شعرها المنسابة عن ملامح وجهها حين رفعته. كان انطباعه الأول عنها باهتًا، فقد بدا من المستحيل أن يمتدح جمالها. بدت عظام وجهها النحيل بارزة، شأنها شأن كتفيها المكشوفتين، مما جعل الأنظار تنجذب تلقائيًا إلى أبرز ما فيها، عيناها.
كانت لا تزال مطرقة البصر. فلما التقت عيناه بعينيها الخضراوين، قالت.
“أنا دافني بليد.”
وتركت عيناها في نفسه أثرًا غريبًا وحادًّا.
في ذلك اليوم، تمّت الصفقة.
أثار نبأ التحالف الزوجي بين أسرتين كانتا على طرفي نقيض، تكادان تدخلان في مواجهة، ضجّة في الأوساط الرفيعة. وكان الجميع على يقين بأن العروس غير الجذّابة، دافني بليد، قد لعبت دورًا ما في هذا الأمر. تباينت التكهنات بشأن سبب هذا الزواج. حتى جاء زفافٌ فاخر في العاصمة.
لقد كان زفاف بطل الحرب وابنة أسرة متمرّدة، فغصّت به الحشود كما لو كان زفافًا ملكيًّا. وأوحى البذخ وجمال الحفل للكثيرين بأن وراء هذا الزواج ما هو أكثر مما بدا ظاهرًا للعيان.
وكانت دافني، كما هو متوقّع.
‘رجاءًا، اجعلوا الزفاف فخمًا قدر المستطاع.’
لم يلتقِ دافني وإدموند سوى مرتين قبل الزواج. عدا لقائهما الأول، كانت المرة الثانية لأجل رسم لوحتهما التذكارية، والثالثة حين جاءت دافني لتقول له هذه الجملة، لا غير. لم يرَ إدموند في ذلك بأسًا، فاستجاب لطلبها على الفور.
كان لا بد من تصوير هذا الزواج كاتحاد مثاليّ بين قلبين عاشقين، لا تشوبه شائبة. إذ لا سبيل آخر لتفسير نشوء صداقة مفاجئة بين عائلتين كانت العداوة بينهما سيدة الموقف.
ومضت خمسة أعوام على ذلك الزواج.
“السيدة قد اختفت.”
لقد اختفت دافني.
“…دافني.”
عُثر عليها أخيرًا. كانت ترمش بعينيها المتسعتين. ضمّها إدموند إلى صدره وسرعان ما جال ببصره على ملامح وجهها.
‘كيف نسيتُ هذا الوجه؟’
كان جسدها الضئيل يرتجف بين ذراعيه.
“إدموند. لماذا، لماذا أنتَ هنا….”
لم يستطع إدموند إلا أن يضحك، وهو يرى ملامح الحرج على وجهها، وكأنه وطئ أرضًا لا ينبغي له دخولها.
“لِمَ؟ تسألين وكأن وجودي هنا غير مرغوب فيه.”
عضّت دافني شفتيها، وصمتها كعادته لم ينكسر.
“أتظنين أنني سأدعكِ ترحلين ببساطة؟”
وضع إدموند يده على بطن دافني.
“أتجرؤين؟”
ثم، وبقوة، جذبها إليه، يعانقها ويشعر بجسدها من خلال ثيابها السميكة.
ارتعشت عينا دافني قليلًا حين أدركت ما الذي كان يعنيه.
* * *
اختفت السيدة. ولأكون أدق، فقد تلاشت فجأةً ولم يتبقَ سوى عشرة أيام على بلوغ السيد الشاب سنّ الرشد.
لم يشعر الخدم بالقلق بادئ الأمر، إذ حسبوا أنها ستعود كما تفعل دائمًا. كانت السيدة تختفي أحيانًا ليوم أو يومين، ثم تظهر من جديد. في البداية كانوا يجزعون، لكن مع مرور خمس سنوات، لم يعودوا يولون ذلك اهتمامًا. ومضى نهارهم كعادته، حتى بعد اختفاء سيدتهم. فلهم، كان وجود سيدة في الدار أشد وطأة من غيابها.
ومضى الوقت على هذا النحو.
اليوم الأول، اليوم الثاني. لم تعد السيدة.
اليوم الثالث، الرابع. لا تزال غائبة.
اليوم الخامس، السادس. بدأ الغبار يتراكم شيئًا فشيئًا في غرفة المالكة التي لم تعد بعد.
كان همّ الخادمات أن تعود السيدة قبل رجوع الدوق ووريثه الصغير. فمهما كانت تلك السيدة مجرّد قشرة خالية، فإن اختفاءها سيجرّ عليهن عواقب لا قِبل لهن بها.
اليوم السابع. ما تزال السيدة مفقودة. وإذ شعر الخدم بأن الأمر لم يعد عابرًا، سارعوا لإبلاغ كبير الخدم والمُشرفة على القصر.
“أمور كهذه تحدث كثيرًا.”
لم يكونوا على دراية باختفاء السيدة، وتعاملوا مع الأمر ببرود. بل ووبّخوا من أبلغهم، إذ لا وقت لديهم لمثل هذه التوافه وسط كل هذا الانشغال. فالسيدة ستعود في نهاية المطاف.
شعر القلقون من العقوبة بالارتياح، وانصرفوا لترتيب الهدايا احتفالًا بمراسم بلوغ السيد الشاب، الذي سيصل قريبًا.
اليوم الثامن. وصل مبعوث عند بزوغ الفجر وسط العاصفة الثلجية. وكان يحمل نبأ عودة أولئك الذين غادروا قبل شهر لقمع الوحوش. فعمّت الحركة في القصر استعدادًا لاستقبال سادته.
لقد عادوا أبكر مما كان متوقعًا. وبسبب ذلك، أُقيمت مراسم بلوغ السيد الشاب دون أي تأخير. وانشغل الخدم بالحركة حتى نسوا تمامًا أن السيدة لم تكن قد عادت بعد.
اليوم التاسع. وما تزال السيدة غائبة، حين عاد سادة دوقية الشتاء، الكائنة في أقصى الشمال. وكان ذلك في اليوم الذي سبق حفل بلوغ السيد الشاب. شعر الخدم بالتوتر وهم يبتلعون ريقهم عند استنشاقهم رائحة دم الوحوش القوية المتسللة من بعيد.
فرسان السواد، أولئك الذين يحمون الإمبراطورية من وحوش الشمال، كانوا موضع رهبة وإجلال في آن. وكان حضورهم الطاغي يُبقي الخدم في حالة ترقّب دائم.
ثم ما لبث أن ظهر أولئك القوم بردائهم الأسود الطويل، يخترقون العاصفة الثلجية العنيفة. وكان الأبرز بينهم رجل ذو شعر داكن، وفتى يشبهه.
“نُبارك لكم عودتكم.”
انحنى الخدم وتحدّثوا بصوت واحد. مرّ دوق الشتاء، سيد القصر، من بينهم ثم توقف لحظة. أولئك الذين همّوا بالانصراف وقد اطمأنوا لعودته، ما لبثوا أن التفتوا على عجل إلى ملامحه.
“أين زوجتي؟”
كان الدوق يسأل عن السيدة، تلك التي كانت تقف دومًا بشموخ لتحيتهم عند عودتهم من حملات قمع الوحوش، رغم البرود الذي تقابل به.
تجرّع كبير الخدم مرارة الحقيقة وهو يدرك أن السيدة لم تكن قد عادت بعد. أما داميان، الوريث الوحيد لدوق الشتاء، فراح يجيل ببصره بحثًا عن لمحة من والدته. إلا أن من كان يبحث عنها، لم تكن هناك.
“أين والدتي؟”
أشاح كبير الخدم بنظره وخفض رأسه دون إرادة، وقد أربكه سؤال الوريث الشاب، الذي بدا كنسخةٍ مصغّرة عن الدوق.
“ذ-ذاك.…”
فلما رأى داميان تردده، ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة يابسة، وقد أدرك مغزى الموقف.
“أتُراكِ لن تظهري لنا بعد اليوم؟”
“لقد خرجت مجددًا.”
“عفوًا؟ آه، نعم، هذا صحيح.”
على دراية تامة بالعلاقة بين السيد الشاب وسيدتهم، استولى القلق على الخدم فتفصّد جبينهم عرقًا باردًا. كانوا يتوقعون من داميان أن يفتعل ضجّة كعادته، لكنه صعد السلالم بهدوء وتوجّه إلى غرفته.
وما إن غاب الدوق عن الأنظار، حتى هرعت الخادمات إلى كبير الخدم والمُشرفة على القصر.
“ما العمل؟ لقد نسينا أمر السيدة تمامًا!”
وحين اقترحت إحداهنّ أن يُصارحوا بالأمر الآن، اتّسعت عينا المشرفة الزرقاوان وهي تحدّق بها.
“آنا، هل نسيْتِ أن غدًا هو يوم بلوغ السيد الشاب؟”
فانكمشت الخادمة التي وقعت تحت وطأة نظراتها الحادّة.
“وليس كأننا كذبنا. الجميع يعلم أن السيدة تخرج كثيرًا.”
لكن، بالطبع، لم يحدث أبدًا أن خرجت السيدة دون أن تترك كلمة واحدة. ومع أن الخادمة شعرت بالضيق من حدّة المشرفة، فإنها لزمت الصمت.
“صحيح أن وليمة أُقيمت في العاصمة قبل عدّة أشهر، لكنكنّ تعرفن جيدًا أن هذه المراسم الرسمية لبلوغ السيد الشاب، وتُدركن مدى أهميّتها.”
فأجابت الخادمات بصوت خافت.
“نعم.”
“لم يَفُت الأوان بعد، بإمكاننا الحديث في الأمر بعد انتهاء المراسم بسلام.”
ففي النهاية، لا يفصلهم عن ذلك سوى يوم واحد. وما دام أصحاب الشأن في القصر قد قالوا كلمتهم، فلا قول لمن هم دونهم مرتبة.
وبعد أن صرفت الخادمات، أخذت المشرفة تدلّك صدغها وقد بدأ الألم يدقّ فيه. لم تكن المسألة خطيرة على ما يبدو، لكنها استشعرت نذير سوءٍ لا تدري مصدره. أمر ما كان يؤرّقها.
لقد كان من المزمع أن يجتمع تابِعو دوق الشتاء في الموضع الذي ستُقام فيه مراسم البلوغ، لذا، فإن ظهور السيدة في مثل هذا المقام سيكون أمرًا مُخجِلًا. لذا، تمنت المشرفة في سرّها ألّا تظهر السيدة حتى اليوم التالي، وعادت إلى انشغالها باستعدادات الحفل.
اليوم العاشر. وأشرق صباح مراسم البلوغ أخيرًا.
يُتبع….
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 0"