الفصل 18 :
قبلَ أنْ نلتقيَ الأطفالَ أوّلًا، التقينا بمديرةِ دارِ الأيتامِ، السيدةِ سيسيلوت. استقبلتنا بترحيبٍ حارّ.
“آه، آنسة أوديت. أهلًا بكِ!”
“مرحبًا أيتها المديرة!”
“جئتما في الوقتِ المناسب. اليوم، أنتما الاثنان، صحيح؟”
“نعم. صحيح.”
نظرتْ السيدةُ سيسيلوت إلى ساعتِها بطرفِ عينِها وقالت:
“نحنُ على وشكِ تقديمِ الطعامِ للأطفال، فهلْ يمكنكما مساعدتنا في ذلكَ أوّلًا؟”
“بالطبع!”
“الملابسُ هناك، يمكنكما تبديلُها ثمَّ العودة!”
“نعم، شكرًا لكِ. أنا، أعني… السيد أكسيل، يمكنكَ التبديلُ هناك.”
كنتُ على وشكِ أنْ أناديه: سُموَّكَ، لكنَّني غيَّرتُ كلامي على عجل.
من الغريبِ أنْ أناديه باسمِه هكذا. لمْ أقصدْ ذلكَ، لكنَّهُ بدا مناسبًا جدًّا.
عندما قلتُ: سيد أكسيل، تحرَّكَ حاجباهُ بخفَّة. هززتُ كتفيَّ ونظرتُ إليهِ وكأنَّني أقول: إذًا، كيفَ أناديكَ فأجابَ أكسيل بصمت:
“……حسنًا.”
***
بعدَ الانتهاءِ من توزيعِ الطعام، قدَّمتْنا السيدة سيسيلوت للأطفال رسميًّا. تلألأتْ عيونُ الأطفالِ كالنُّجوم عند ظهورِ أشخاصٍ جُدد.
“يا أطفال، هذانِ المعلِّمانِ أوديت وأكسيل جاءا ليساعدانا اليوم. هيا، قدموا التحية.”
“مرحبًااا!”
صرخَ الأطفالُ بأصواتٍ عاليةٍ حتى كادتْ آذاني تؤلمني. لوَّحتُ بيدي وابتسمتُ لهم بودّ.
“مرحبًا، يا أطفال. تشرفتُ بمعرفتكم!”
دفعتُ أكسيل بخفَّةٍ وهو ما يزالُ واقفًا بلا حراك. ثمَّ همستُ لهُ بصوتٍ لا يسمعهُ غيرُه: سُموَّكَ، يجبُ أنْ تُحيِّيهم سريعًا.
فقالَ أكسيلُ على مضضٍ وبدا عليهِ الارتباك:
“……مرحبًا.”
“تشرَّفنااا!”
انفجرتُ ضاحكةً بخفَّةٍ عند سماعِ ذلكَ الأسلوبِ الغريبِ ونبرةِ الصوتِ التي لمْ أسمعْها منهُ من قبل. كانَ واضحًا أنَّهُ غيرُ معتادٍ على ذلك.
اقتربتْ منَّا السيدةُ سيسيلوت وتحدَّثت:
“من الآنَ فصاعدًا، يبدو أنَّهُ يكفي أنْ تلعبا مع الأطفال.
ستكونُ المعلِّمةُ بينا بجانبكما، فلا تقلقا كثيرًا.”
حيَّتنا السيدةُ بينا بإيماءةٍ.
“نعم، فهمتُ!”
في تلكَ اللحظة، اقتربتْ فتاةٌ صغيرةٌ ترتدي ملابسَ ورديَّة، واندفعتْ فجأةً لتُمسكَ بساقِ بنطال أكسيل.
“أمير! إنَّهُ أمير!”
ظهرَ على وجهِ أكسيل تعبيرُ الحيرة.
“يبدو أنَّها تُحبُّ السيدَ أكسيل.”
“…….”
وبدلًا عنهُ وقد تجمَّدَ كالصَّخر، انحنيتُ قليلًا لأُقابلَ الطفلةَ على مستوى عينيها.
“هلْ يشبهُ الأميرَ يا صغيرتي؟”
“نعم! وسيمٌ جدًّا.”
يبدو أنَّ لدى هذهِ الطفلةِ عينًا ثاقبة. ستكبرُ لتصبحَ شخصًا عظيمًا. ذوقُها الجماليُّ ممتاز.
نظرتُ إلى أكسيل بطرفِ عينِي بمزاحٍ، ثمَّ قلتُ للطفلة:
“إذًا، هلْ نطلبُ من المعلِّمِ الوسيمِ أنْ يلعبَ معنا؟”
“نعم!”
كانَ أكسيل يقطِّبُ حاجبيهِ بشدَّةٍ وكأنَّهُ يقول: ما معنى هذا؟ رفعتُ جسدي فجأةً وحذَّرتُهُ بصوتٍ لا يسمعهُ غيرُه:
“……حتى لو كانَ سُموُّك وسيمًا جدًّا، فإنَّ ملامحَك الحادَّة تجعلُ الأطفالَ يخافون إذا عبستَ قليلًا!”
ثمَّ نفَّذتُ رغبتي القديمة في الضغطِ على ما بين حاجبيهِ. وبما أنَّنا داخلَ دار الأيتام، تصرَّفتُ بجرأةٍ أكبر قليلًا.
وقبلَ أنْ يُدركَ أكسيل ما الذي يحدث، صرختُ بصوتٍ عالٍ:
“يا أطفال! المعلِّمُ الوسيمُ هنا سيحملُكم على كتفيهِ!
من يريدُ أنْ يركبَ على الأكتاف فليجتمع!”
“أنا! يا معلِّم!”
“وأنا أيضًا! أريدُ أنْ أركب!”
عندها، بدأَ الأطفالُ المتفرِّقون في المكانِ كلِّه يتجمَّعون هنا. في الأصل، أفضلُ طريقةٍ لتعلُّمِ ما يبدو صعبًا هي تجربتُهُ بالجسدِ مباشرة. كنتُ آملُ أنْ تصبحَ هذهِ فرصةً ليتقرَّبَ من الأطفال.
وبينما بدأتْ ألوانٌ جديدةٌ تظهرُ تدريجيًّا في عيني أكسيل الفارغتين، كنتُ ألوِّحُ لهُ من مسافةِ بضعِ خطوات.
قاتل!
***
بعدَ أنْ ألقيتُ القنبلةَ على أكسيل وغادرتُ المكانَ بهدوء،
وبينما كنتُ أتجوَّلُ في دار الأيتام، رأيتُ من بعيدٍ فتىً يجلسُ وحدهُ على مقعد. بدا في عمر طالب متوسطةٍ تقريبًا.
اقتربتُ منهُ وجلستُ إلى جانبِه.
“مرحبًا. ماذا تفعلُ وحدكَ؟”
“…….”
لكنْ لمْ يأتِ أيُّ ردّ. شعرتُ بالحرجِ فأدرتُ عينَيَّ في مكانِهما.
“آه، أنتَ تقرأُ كتابًا……ألا تلعبُ مع الأطفالِ الآخرين؟”
“…….”
“أمم…… هلْ اسمُكَ هو—”
انقطعَ كلامي فجأةً. لأنَّ الفتى أغلقَ الكتابَ بقوَّة. نظرَ إليَّ للمرَّةِ الأولى وقالَ بنبرةٍ باردة:
“لو سمحتِ. هذا تدخُّلٌ في شؤونِ الغير. لا تتظاهري باللطفِ معي. ولا تكلِّميني أيضًا.”
“……ماذا؟”
نهضَ الفتى من مكانِه فجأةً، وتمتمَ بصوتٍ خافتٍ وهو يغادر:
“أنا أكرهُ أمثالَكِ أكثر شيء.”
سمعتُ تلكَ الكلمات بوضوح.
وبينما كنتُ واقفةً مذهولةً لا أستطيعُ قولَ شيء، ركضَ الأطفالُ نحوي.
“يا معلِّمة! لنلعبْ الغميضة!”
“نعم! لنلعب!”
كنتُ أحدِّقُ شاردَةً في المكان الذي اختفى فيهِ الفتى، ثمَّ أسرعتُ لأرتسمَ ابتسامةً على وجهي وقلتُ:
“حسنًا، هيا بنا.”
وهكذا لعبنا الغميضة، والاختباء، ولعبةَ ‘زهرةُ الهبسكس قد تفتَّحت’، حتى انتهينا تمامًا.
كنَّا نجلسُ معًا على العشب.
“حسنًا، انتهى!”
وضعتُ إكليلَ الزهور الذي صنعتُهُ على رأسِ آخر طفل.
“شكرًا لكِ، يا معلِّمة!”
“هيا، هيا!”
انحنى الأطفالُ لي مودِّعين، ثمَّ غادروا.
وأخيرًا، بقيتُ وحدي. وفجأةً، سمعتُ من خلفي صوتًا مألوفًا:
“لمْ أكنْ أعلمُ أنَّ لديكِ مثلَ هذهِ المهارةِ اليدويَّة.”
كانَ أكسيل.
“سُموَّك، جئتَ؟”
“هلْ تعرفينَ صنعَ مثل ذلك؟”
“تعلَّمتُهُ وأنا صغيرة. وبدلًا من ذلك، هلْ تودُّ الجلوسَ بجانبي؟”
لمْ أدعُهُ إلا لأنَّني كنتُ وحدي، ولمْ أتوقَّعْ أنْ يجلسَ فعلًا، لكنَّهُ جلسَ بجانبي على الفور. نظرتُ إليهِ بدهشة.
“……سُموَّك، هلْ تجلسُ حتى على الأرض؟”
أطلقَ أكسيل ضحكةً ساخرةً وكأنَّهُ سمعَ سؤالًا أحمق.
“ألا يبدو أنَّ هذا السؤالَ يجبُ أنْ أطرحهُ أنا؟ يا آنستي الدوقة.”
صحيح. رجلٌ تدحرجَ في ساحاتِ القتال، فماذا أقولُ أنا الآن؟ ربَّما لأنَّ صورتهُ النبيلةَ في ذهني جعلتني أشعرُ لا شعوريًّا أنَّهُ لا يليقُ بهِ ذلك.
“أنا متعبة، لذلك لا أهتمُّ كثيرًا.”
لمْ أكتفِ بالجلوسِ على العشب، بل استلقيتُ على ظهري مباشرة.
“آه. أنا متعبةٌ جدًّا.”
“مع أنَّكِ متعبة، لا يبدو ذلكَ عليكِ.”
حكَكتُ خدّي بخجلٍ وأجبتُ:
“أمم…… لو أظهرتُ تعبي، فقد يراقبُني الأطفالُ بقلق.
ولا أحبُّ ذلك.”
“……فهمتُ.”
سادَ بيننا صمتٌ طويل. لكنَّهُ لمْ يكنْ صمتًا مُحرِجًا، بل مريحًا.
خلفيَّةُ الغروب الأحمر، ونسيمٌ باردٌ يمرُّ بين العشب. كانَ مجرَّدُ الجلوسِ يمنحُ شعورًا بالشفاء.
وبينما كنتُ مغمضةَ العينين، سألني أكسيل:
“هلْ ذاكَ أيضًا، من تحضيرِ الآنسة الدوقة؟”
نهضتُ ونظرتُ في الاتجاهِ الذي ينظرُ إليه. هناك، كان الأطفالُ يحملون صناديقَ هدايا ويبدون سعداء.
“نعم. هؤلاء أطفالُ دار الأيتامِ التي أدعمُها، فهذا أقلُّ ما يمكنني فعلُه.”
ابتسمتُ دونَ وعيٍّ وأنا أرى الأطفالَ يفرحون ببراءة.
“في دارِ الأيتام، من الصعبِ حقًّا أنْ يحصلَ المرءُ على غرضٍ يخصُّه.”
“……تتحدَّثينَ وكأنَّكِ شخصٌ جرَّبَ ذلكَ بنفسِه.”
“طبعًا لا. سُموَّكَ، هلْ نسيتَ من أيِّ عائلةٍ أنا؟”
ضحكتُ بمزاحٍ كفتاةٍ مدلَّلة.
في تلكَ اللحظة، سُمِعَ من بعيدٍ صوتُ الأطفالِ ينادونني.
كانوا يلوِّحون بأيديهم ويشيرون إليَّ أنْ آتيَ بسرعة.
“أوودييت، يا معلِّمة!”
أوه. لوَّحتُ لهم أنا أيضًا، ثمَّ نهضتُ بسرعةٍ وأنا أنفضُ ثيابي.
“يبدو أنَّ الأطفالَ ينادونني. سُموَّك، سأذهبُ وأعود.”
“سأذهبُ معكِ.”
حاولَ أكسيل أنْ ينهضَ معي، لكنَّني منعتهُ بشدَّة. لقدْ جعلتُ الدوقَ الأكبرَ من دمِ العائلةِ الإمبراطوريَّة يحملُ الأطفالَ على كتفيهِ، فلا يمكنُ أنْ أتمادى أكثر.
“لا! سُموُّكَ، استرح. لابدَّ أنَّ كلَّ هذا جديدٌ عليكَ اليوم. وتعبتَ لأنَّك حملتَ الأطفالَ على كتفيكَ بسببي. وبدلًا من ذلك، لا تعاقبني لاحقًا بسببِ ما حدثَ اليوم، مفهوم؟”
كانَ وجهُ أكسيل ما يزالُ يحملُ أثرَ الارتباك بوضوح،
فانفجرتُ ضاحكةً وأنا أتكلَّم. نظرَ إلى ضحكتي الصافية وقالَ: هاه، بملامحَ تدلُّ على أنَّهُ لا يصدِّق.
ابتعدتُ عنهُ بسرعة، ثمَّ التفتُّ ولوَّحتُ لهُ بيدي.
“إذًا، سأذهبُ الآن!”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"