“مهما كانت دوافعك لمساندة البارونة، فلا أهمية لها الآن.”
تحطم الصمت المتوتر الذي لفّ الأجواء، ذلك الصمت الذي كنت أتابعه بقلق، متعرقة وكأن أنفاسي تختنق، بصوت الإمبراطورة الأرملة كاميلا، وهي تتدخل ببرود متعمد.
“بتدخلك هذا، ضمنتِ للبارونة حماية العائلة الإمبراطورية.
لقد أصبحت تحت مظلتهم الآن.”
أسندت كاميلا ذراعها إلى جانب المقعد، وأراحت ذقنها على كفّها بلامبالاة.
“والآن، ترغب تلك البارونة في الانتقام وهي ترتدي ثوبًا مثيرًا للشفقة كهذا؟ هل تسخرون من عقولنا؟”
كان كاسروسيان يُنصت بصمت، وقد شرع يتصفح الكتالوج بهدوء كمن يتجاهل النقاش الدائر.
“لذا، أقترح أن أتكفل بالأمر بنفسي.”
“أثمّة امتنان واجب؟ سأضع اقتراحك بعين الاعتبار.”
“لا تشكرني. فأنت، في نهاية المطاف، ستفشل.
دع الأمر لي.
ما الذي تعرفه عن فساتين النساء أصلًا؟”
“سأسعى لتعلّمه من الآن فصاعدًا.”
“لقد تأخرتَ كثيرًا.
حتى وإن طلبت فستانًا هذه اللحظة، فلن يكون بالإمكان إنجاز ثوب فاخر خلال أقل من أسبوعين.”
“سأسهر الليالي إن لزم الأمر.”
“أأنت الإمبراطور، وتنوِي السهر لاختيار ثوب؟”
“طلب المعرفة لا يُحدّه منصب ولا وقت.
أنا فقط أعترف بقصوري وأسعى لتجاوزه.
لذا، رجاءً، قدّمي النصح دون أن تنزلقي إلى القلق.”
مع كل ردّ يصدر عن كاسروسيان، كانت ملامح كاميلا تزداد جمودًا وبرودًا، بينما هو يظل منشغلًا في كتالوجه، غير منتبه لتحوّل تعبيراتها.
أما أنا، من مكاني الصغير قرب الجدار، فكنت أشعر بأن التوتر يزداد ثقلًا مع كل ثانية تمر.
حين أمسكت الإمبراطورة الأرملة بفنجان الشاي، تحركت قدماي على الفور دون وعي.
“أتوسل إليكِ، سيدتي.”
كما توقعت، لم تكن تنوي تذوق الشاي، بل كان نظرها مركزًا على الصحن.
“إن راودكِ رغبة في السخرية من نفسك، فافعلي ذلك وحدك.
لا تجرّي العائلة الإمبراطورية إلى حماقاتك.”
“سأتبعكِ!”
صرختُ بصوت مرتجف قبل أن تقذف بالصحن نحو كاسروسيان.
“…”
“…”
كأنما ألقيت تعويذة، إذ التفت إليّ كلٌّ من الوحشين في اللحظة ذاتها.
“ل-لم أقصد التنصّت، لكنني أملك أذنين، ولم أستطع إلا أن أسمع.
وأظن أن جلالة الإمبراطورة محقّة.” واصلت حديثي، والعرق يتصبب من ظهري.
“إن نلتُ عون جلالة الإمبراطورة، صاحبة البصيرة والحكمة، فسيعود ذلك بالنفع عليّ، ولن يُضطر جلالة الإمبراطور لإهدار طاقته على أمرٍ صغير.
أليس هذا حلًا يُرضي الجميع؟” ورغم عجالة كلماتي، خرج صوتي كأنّه نَفَس نملة خجولة.
“على الأقل، هناك من يدرك ما أعنيه.” وضعت كاميلا الصحن جانبًا، وابتسمت ابتسامة خافتة.
“اتبعيني حالًا.” قالتها وسارت بخطى ثابتة، تغادر الغرفة.
بقيت أنظر إلى ظهرها المنتصب، ثم التفت بسرعة نحو كاسروسيان.
“ك-كان الجو خانقًا.”
تمتمت وأنا ألوّح بيدي في توتر.
“لذا، إن أنا انصعت بهدوء لتوجيهات جلالة الإمبراطورة، ألا يُفضي ذلك إلى سلام يعمّ الجميع؟”
“سأتحدث إلى والدتي مجددًا، فلا داعي لأن تُجبري نفسك.” قالها كاسروسيان وهو يغلق الكتالوج، وتعلو وجهه ابتسامة هادئة.
“لا حاجة لأن تتبعي من تثير فيكِ الرهبة.”
“رهبة؟ لم أكن أخشاها، بل كنت أرتعب من فكرة أن تغضب، جلالتك.”
شدّ شفتيه في صمت، وقد بدا لي أن عينيه خلف النظارات المعتمة تخفيان شيئًا من الارتباك.
“مجرد تصوّر أن جلالتك قد يتصادم مع والدتك بسببي… أمرٌ لا يُصدّق.
لا يمكن أن يحدث ذلك.”
لم أحتمل فكرة أن يدخل كاسروسيان في صراعٍ مع كاميلا من أجلي.
ربما لهذا شعرت بالارتباك حين رأيت ذلك التعبير القاسي الغريب على وجهه.
“واجتهادك يا جلالتك، وإصرارك، أمرٌ يدعو للإعجاب حقًا. لذا، أرجوك، لا تُرهق نفسك لأجلي فيما لا طائل منه.”
أضفت هذه الكلمات، في محاولة مني لثنيه عن سهر الليالي بحثًا في عالم الفساتين من أجلي.
“سأنصرف الآن.” وقبل أن يجد فرصة لإيقافي، غادرت الغرفة مسرعة.
وربما بسبب عجالتي، لم أنتبه أنه بقي مكانه، يخفي وجهًا متوردًا بكفه.
—
سرت خلف الإمبراطورة الأرملة كاميلا، متأملة بعض الملامح من ماضيها.
كاميلا… غالبًا ما يُشار إليها بلقب “الإمبراطورة الأرملة” لا باسمها.
امرأة لا يُمكن المساس بها.
نالت ذلك اللقب بعدما نصّبت الأمير السابع، الذي لم يكن أحد يعيره اهتمامًا، على العرش، فقط بدافع الانتقام.
انتقام من عائلتها، التي أجبرتها على الزواج من كونت يكبرها بثلاثين عامًا.
كانت كاميلا تنتمي لعائلة ماركيزية ذات سلطة ونفوذ، ولم يكن بها حاجة لهذا الزواج، لكنهم فعلوا، بحجة واهية: “كاميلا تطمع في ميراث الابن الأكبر.” قالوا إنها امرأة متغطرسة، متسلطة أكثر مما ينبغي.
لكنهم لم يتوقعوا أن تنقلب عليهم.
الكونت الذي تزوجها توفي في ظروف غامضة خلال بضعة أشهر، فاستحوذت كاميلا على قصره.
ثم أصبحت جارية للأمير السابع.
لم يُكشف سر هذا الارتباط إلا بعد سنوات.
بفضلها، فاز الأمير في صراع العرش، وتوّج إمبراطورًا.
وحين أدّت دور صانعة الملوك، أبادت كاميلا عائلتها، آل كوايد.
قضت على كل من يمتّ لهم بصلة، حتى أولئك الذين يحملون فقط دمهم.
وبعد اكتمال انتقامها، التزمت الصمت، ولاذت بالفيلا، متعللة بحاجتها إلى الراحة وتربية طفلها. وكأنها قالت: “انتهى دوري.
اتركوني أُنسى.”
ولم تعد إلى القصر الإمبراطوري إلا حين مرض الإمبراطور السابق وشارف على الموت.
الإمبراطور توبياس، ابن الأمير السابع وزوج الإمبراطورة، والأخ غير الشقيق لكاسروسيان، استدعى كاميلا إلى القصر، وطلب منها رعاية الأمير الصغير.
لم يكن أمامه خيار.
والدا الطفل قُتلا بالسم.
مؤامرة اغتيال في خضم صراع العرش.
وحدها كاميلا، المقيمة في الفيلا، بقيت.
أما زوجة توبياس فقد توفيت أثناء وضعها للأمير. وهكذا، لم يبق من البالغين سوى إمبراطور يحتضر، وكاميلا.
وهكذا، مُنحت كاميلا لقب “الإمبراطورة الأرملة”؛ لقب لا يُمنح إلا للإمبراطورة السابقة، وهو ما لم تكن تستحقه من حيث المبدأ.
لكن توبياس لم يرد تكريمها، بل أراد إخضاعها.
أراد تقييدها بالبروتوكولات، لحماية مستقبل ابنه ذي الثلاث سنوات.
ظن الجميع أنها ستصبح وصية على العرش، حتى ظهر وريث منسي، ظنوه عاجزًا: كاسروسيان.
وحين جلس كاسروسيان على العرش، انسحبت كاميلا من الساحة السياسية، وكرّست نفسها لحماية الأمير كليفورد وتعليمه.
“آه، عظامي تتآكل.
حان وقت موتي، فقد شخت.” قالتها كاميلا وهي تسير ببطء، فأفقت من شرودي.
“أتحرك قليلًا، ويبدو كأنني على حافة القبر.”
رأيتها تجلس على الأريكة وتضرب ذراعها بقبضتها وهي تتأوه، ففكّرت للحظة: هل هذه حقًا هي المرأة التي صنعت الملوك؟
“لِمَ؟ ألست أبدو كذلك؟” سألتني فجأة، بعد أن قرأت أفكاري.
التعليقات لهذا الفصل " 71"