كيف يمكنني أن أصف ذلك؟
كنت غارقة في تأملاتي، مترددة لوهلة، ثم مضيت أشرح دون إبطاء:
“هل يمكن اعتباره شعورًا جارفًا يتولّد من الأجواء المحيطة فحسب؟ أم أنه انطباع بالإقناع ينبع من مجرد الحضور؟ يصعب عليّ التعبير عنه بدقة، لكن في كل الأحوال… أشعر بالغيرة حيال ذلك.”
ومهما حاولت جهد استطاعتي، عجزت عن نقل ذلك الإحساس العميق بكلماتي.
“إن كان هذا الوقار نابعًا من تهذيب أصيل ومتقَن، فأنا أرغب بشدة في تعلّمه، بل ومحاكاته.”
فهو سيكون عونًا لي فيما ينتظرني مستقبلًا.
قال كاسروسيان، وقد كان يُصغي بهدوء تام:
“لا أفهم، لِمَ تشعرين بالغيرة حيال ذلك؟ أليست لدى البارونة سمات خاصة تميزها؟”
سمات؟
سألته بدهشة وقد اتسعت عيناي:
“أنا؟ أملك سمات مميزة؟”
فأومأ مؤكدًا:
“أجل، بل الكثير منها.”
أملت رأسي في حيرة عميقة.
لم أستطع التفكير في شيء يُعدّ نقطة قوة لدي.
فتح أحد الأدراج، وأخرج علبة مستطيلة الشكل، ثم قال:
“كنت أفكر في الطريقة المناسبة لتقديم هذه، ويبدو أن اللحظة قد حانت.
تعالي.”
نهضت واقتربت منه بسرعة.
“هدية.” قالها وهو يفتح العلبة أمامي، ناظرًا إليّ.
…!
شهقت، وارتسمت الدهشة على ملامحي حين لمحت الألوان البرّاقة التي تلمع في الداخل.
ثم…
“لا تركعي.”
كنت على وشك الانحناء امتنانًا، لكنه أوقفني.
“جلالتك—”
“كلمة شكر تكفي.
لا حاجة لمظاهر الامتنان الباذخة.”
حتى أبسط حركاتي أوقفها بلطف.
ابتسمت وأنا أمدّ يدي لتناول العلبة:
“شكرًا لك.”
بداخل العلبة سبعة أحجار كريمة، كل منها بلون مختلف! سبعة كاملة؟ يا له من كرم مذهل!
لكن، لحظة… ما إن أمسكت بالأحمر منها حتى أدركت أنها ليست مجرد حجر، بل بروش.
كانت الأحجار كبيرة للغاية لدرجة أنها أخفت دبوس التثبيت خلفها.
علّقت البروش على صدري وأنا أبتسم، رغم أن وزنه سحب ثوبي قليلاً نحو الأسفل، لكن من يهتم؟ أليس حجم الحجر دليلًا على قيمته العالية؟
قال كاسروسيان بدهشة خفيفة:
“لم يكن عليكِ ارتداؤها في الحال.”
فأجبته، وقد بدأ يتبدّد انبهاري تدريجيًا:
“أوه… ألم تكن لي؟”
كنت قد نسيت الواقع لوهلة من فرط انبهاري بالألوان الساطعة.
من غير المنطقي أن يمنحني السبعة جميعًا، أليس كذلك؟ ربما أراد إهدائي واحدة فقط.
وما إن هممت بإزالة البروش، قال:
“بل هي كلها لكِ.”
ثم أضاف، كأنه يعيد ترتيب أفكاره:
“لكن… لم أقصد استخدامها كبروشات…”
تردّد لحظة وتنحنح.
“على أية حال، هذه إحدى مزاياك.”
“أي ميزة؟”
هل يقصد شغفي بالماديات؟ هل يعدّ هذا امتيازًا؟
قال:
“الصدق، والعفوية، والتعبير النقي عن المشاعر.”
كلماته جعلتني أرتجف لحظة.
“عيناكِ السوداوان، بما تحملانه من صدق، أغلى من كل تلك الأحجار.
فهي لا تُشترى، مهما بلغ الثمن.”
…هل يعني أنني صادقة حد الجنون؟
لا زلت أشعر بالغيرة.
كيف يستطيع تزيين صفاتي المادية الساذجة بكلمات بهذه الرقة والأناقة؟
قلت، محاوِلة استجماع رباطة جأشي:
“أشكرك على لطفك، لكن… ما الذي يدفعك لإهدائي هذه الجواهر الثمينة، جلالتك؟”
سؤاله السابق أعادني إلى الواقع، وطرح السؤال الذي كان يجب أن أسأله منذ البداية.
فأجاب ببساطة:
“كعربون امتنان لتفهّمك لتصرفاتي السلطوية، واستقبالك لها بسعة صدر.”
قلت بسرعة:
“إذاً، لا يمكنني قبولها.”
قطّب حاجبيه:
“ولِمَ لا؟”
“لأن تلك التصرفات، رغم صرامتها، توفّر لي الأمان والمصلحة.
بل يجدر بي أنا أن أشكرك، لا العكس.”
قال:
“همم… هذه مشكلة.”
“عذرًا؟”
لم أفهم قصده، بدا وكأنه غارق في تفكير عميق، يضع يده على ذقنه في تأمل.
ثم قال، مبتسمًا:
“فلنعتبرها إذاً اعترافًا بميزة أخرى لديكِ.”
“هل أملك حقًا كل هذه المزايا؟”
أجابني بلطف:
“المثابرة.
بفضل اجتهادك، أصبحت مهامي أكثر سلاسة. فلتُعتَبر هذه مكافأة.”
لكنني لم أصدّق تمامًا ما قاله.
رغم أنني سعيت جادة لألا أسبب له إزعاجًا، وشعرت بالامتنان لما فعله لأجلي، إلا أن الواقع يشير إلى شيء آخر… مؤخرًا كان يُحدثني كثيرًا بأحاديث جانبية لا علاقة لها بالعمل.
وإن تساءلت إن كنتُ قد أسهمت فعلًا بتحسّن أدائه… فالإجابة ستكون لا.
رآني مترددة، فضحك وقال:
“تبدين غير مقتنعة.
لكنني أهديكِ إياها برغبة مني، فتقبّليها.”
ولأنني لم أجد سببًا وجيهًا للرفض، قبلت العلبة في النهاية.
—
في تلك الليلة، وبعد أن سلّمت نوبتي لخادمة أخرى وعدت إلى غرفتي، وضعت العلبة على الطاولة، ثم اقتربت من الجدار وأنزلت إطارًا معلّقًا.
“….”
كان ثمة تغيير واحد على الجدار: صورة جديدة لـ “تيسكان” وُضعت فوق صور “إردان” و”إيلوديا”. حدّقت بها، واسترجعت أحداث الرواية الأصلية:
[ “إيلوديا، التي كانت تُعاني من سوء معاملة بريسيلا، طلبت العون من تيسكان الذي صادف وجوده لدى الماركيزة.
لبّى نداءها، وأخذها إلى الدوقية الكبرى، بينما كانت بريسيلا فرِحة بالتخلص منها.
وما إن غادرت، حتى أدرك إردان مشاعره تجاهها، وترك عائلته ليرحل لرؤيتها مجددًا.”]
كان ذلك ملخّص الجزء الأول من القصة.
لكن… هل أحبّها حقًا، إردان؟
عاد إلى ذهني قوله ذات يوم:
[“هل جلالتك يخاف من تيسكان أكثر مني؟”]
إردان كان دائم التهرب من أي أمر يتعلّق بإيلوديا. بدأت أشك في مشاعره.
ربما لم يكن حبًا صادقًا بقدر ما كان شعورًا بالنقص تجاه تيسكان.
لم يكن الأمر أنه أرادها، بل لم يحتمل فكرة أن يأخذها تيسكان منه.
كأنها كانت “ملكًا” له، وسُلبت منه.
وربما أراد استعادتها لا بدافع الحب، بل فقط ليثبت تفوقه.
كمية العداء التي أظهرها إردان تجاه تيسكان في القصة الأصلية كانت مفرطة لتُعد مجرد منافسة.
وإن كان بالفعل قد حاول استعادة إيلوديا بدافع النقص، فليس مستبعدًا أن يتجاهلها لاحقًا.
وهذا يفسر تأجيله الدائم لكل ما يتعلّق بها.
وإن كان توقّعي صحيحًا…
فهل أستطيع استغلال هذا النقص؟
تلك الأرض التي كانت ملكًا له، والثروة الطائلة التي ظهرت فيها، والمرأة التي كانت زوجته ذات يوم، والتي أراد قتلها… ماذا لو خسرها جميعًا لصالح تيسكان؟
حينها، بدل أن يحاول انتزاع الأرض مني أو إيذائي، قد يبذل قصارى جهده ليمنع تيسكان من الحصول عليها.
تمامًا كما فعل مع إيلوديا.
“عندئذ، قد تسير الأمور لصالحنا.”
أن أُسقِط شخصًا نبيلًا ورفيع المقام كإردان يبدو حلمًا بعيد المنال، لكن إن أصبح هو من يترجّاني… فربما، أخيرًا، أتمكّن من انتقامي الذي لطالما ظننته مستحيلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 53"