4
“إن كنتِ تخشين الضياع، فلا تقلقي.
سبق أن ذهبت إلى المطبخ هذا اليوم لبعض المهام، وأعرف الطريق تمام المعرفة.”
قالها بصوت يحمل طمأنينة، وكأنه يبدّد السؤال الذي لمح في ملامحي.
“هذا مطمئن إذًا.
لا داعي للقلق بشأن التيه.”
وما إن تلاشت تلك الهواجس، حتى تسللت فكرة أخرى إلى ذهني.
هل من الحكمة قبول عرضه؟ لعلّه مرهق مثلي، وربما ما قاله لا يعدو كونه مجاملة عابرة.
كأنه قرأ ما يدور في رأسي، عاجلني بالقول:
“الذهاب إلى المطبخ وحدك وسط هذا الظلام أمر مقلق.
أنا فقط…
أشعر بالقلق عليك.”
قالها بنبرة واضحة لا تحتمل جدالًا أو نقاشًا.
“إذن، سأطلب منك فقط أن ترافقني.”
وما إن نطقت بذلك بهدوء، حتى بدأ ليون بالسير أمامي، فتبعته بصمت وثقة.
“يا لكثرة اللوحات هنا…”
في تلك الردهة الممتدة كأن لا نهاية لها، تزيّنت الجدران بلوحات لا تُعد، جميعها مؤطّرة بإحكام.
لكنّ أكثر ما شدّني أنه لم يكن بينها منظر طبيعي واحد—كلّها بورتريهات.
وحين لا تكون لشخص واحد، فهي لمجموعة من الناس ضمن إطار واحد، واقفين أو جالسين بالقرب من بعضهم.
“آنسة إيفون، هل تستهوين اللوحات؟”
كنت أُميل رأسي بين الحين والآخر، أتأمل الوجوه والملامح، حين اصطدمت جبهتي بصوت خافت.
فتحت عيني لأجد ظهره أمامي وصوته الهادئ يتردد في أذني.
استدار نحو اللوحة القريبة، وألقى نظرة خاطفة، ثم قال:
“سألتك فقط لأنك بدوت مهتمة، فلا حاجة للخجل، آنسة إيفون.”
ربما حسبني مرتبكة، لكني كنت أفكر بكيفية الرد.
“كنت أتأملها لأنها أثارت فضولي.”
“وما الذي شدّ انتباهك فيها؟”
سألني وهو لا يزال يتفحّص اللوحات بعينٍ فاحصة.
“لأنه لا وجود لأي مناظر طبيعية بينها…
كان لافتًا أن معظمها بورتريهات، منها الفردي ومنها الجماعي.”
أعدت النظر إلى إحداها، وخُيّل إليّ أن عيني صاحبها التقتا بعينيّ.
مستحيل.
إنها مجرد “عيون مرسومة”—لا يمكن لها أن تبادلك النظرات.
وفي محاولتي لصرف تلك الهواجس، قال بجانبي:
“جميع هذه اللوحات اختارها الماركيز.
الآن بعد أن أشرتِ لذلك، حقًا لا يوجد أي مشهد طبيعي.
يبدو أن من انتقاها كان مولعًا بالبشر أكثر من الطبيعة.”
ثم التزم الصمت، واستدار مبتعدًا دون أن يُظهر أي اهتمام إضافي.
“هل تودين ان اكمل؟”
أومأت له دون أن أنطق.
رئيسة الخدم لم تذكر هذه اللوحات قط.
أخبرتني بعدد الغرف، لكنها لم تقل كم لوحةً تزيّن الطابق الثالث، ولا من اختارها.
كأن الأمر ليس من شأني.
لكن ليون، الذي بدأ العمل في نفس اليوم، كان على علم بهذه التفاصيل.
هل هو مجرد صدفة؟ أم أن أحدهم أخبره دون قصد؟
أسئلة كثيرة راودتني، لكنها سرعان ما تراجعت أمام مهمةٍ أكثر إلحاحًا.
فطيرة الجوز.
لا تنسي فطيرة الجوز.
والعصير أيضًا.
لا مجال لإفساد هذه البساطة وإثارة غضب الآنسة جولييت.
ردّدت تلك العبارات في رأسي كأنها تعويذة، وأنا أتابع السير خلف ليون—لكن، لسببٍ ما، شعرت بأن عيون اللوحات تلاحقني.
—
< 📜 نظام العمل في قصر روزيبينا>
المادة الثانية:
يضم هذا القصر عددًا من اللوحات.
إن صادفتَ واحدةً أثناء عبورك في الممرات، يُرجى ألا تُقابل نظر “أولئك” المرسومين فيها، بل تابع السير بهدوء.
وإن صادف أن التقت عيناك بعيني “أحدهم”، فمن الأفضل أن تُبدي مجاملة عابرة كأن تقول:
“يا لها من لوحة جميلة”، ثم تتابع طريقك.
لو فعلت ذلك، فسيتخلّون عن نيتهم في الاقتراب منك، بدافع الرحمة.
[بعدما الفاس طاح بالراس]
—
في الليلة الماضية، استُدعي كبير الطهاة إلى المطبخ على نحوٍ مفاجئ.
ومع ذلك، لم يبدُ عليه أي انزعاج، بل تعامل مع الأمر كما لو أنه معتاد عليه، وأعدّ المطلوب دون شكوى.
“طعمه ألذّ لأنني لم أتناوله منذ فترة.”
وكما كان متوقعًا، نالت الآنسة جولييت رضاها.
وما إن انتهت من طعامها، حتى أضافت طلبًا جديدًا:
“أريد نفس الأشياء غدًا عند الظهيرة.
لا بأس طالما لم أغفُ فجأة.
فقط تأكدي من إحضارها.”
لم أفهم ما عنته بـ”الغفوة المفاجئة”، لكن، ومع مرور الوقت، أعددت مجددًا فطيرة الجوز والعصير الطازج، وتوجهت إلى غرفتها.
“ما هذا؟”
في سكون الظهيرة، رمقتني الآنسة جولييت بدهشة بينما كنت أقدّم ما طلبته.
“هذه هي الأشياء التي طلبتها البارحة، آنستي.
قلتِ إنكِ ترغبين بتناولها ظهر اليوم…
ألا تذكرين؟”
سألتها بحذر.
“جولييت طلبت مثل هذه الأشياء؟
لماذا تصرين على أن جولييت طلبت شيئًا لم تفعل؟”
كدت أن أقول “عذرًا؟”
لكنني تمالكت نفسي.
أنكرت أنها طلبت ذلك.
فهل ما سمعته الليلة الماضية كان خيالًا؟ أم أنها تتهمني بالكذب؟
لم أدرِ كيف أُجيب، خاصة وأنها لم تكرر الطلب.
لكنها لم تكن تتحدث بصيغة الغائب ليلة البارحة… فلماذا تفعل الآن؟
الأسئلة تزايدت بدل أن تتضح الأمور.
ولم يكن الأمر يقتصر على الضمير وحده، بل هيئتها بدت مختلفة.
لكن، في نهاية المطاف، سواء راقني الأمر أم لا، هذه السيدة هي من عليّ خدمتها.
وأوامرها يجب أن تُطاع، دون نقاش.
هكذا أتجنب المشاكل.
“يبدو أنني أخطأت في تذكري.
أعتذر، آنستي.”
أخفضت رأسي معتذرة، لكنها لم تكن راضية.
“قبل قليل قلتِ إنني طلبت منكِ، والآن تقولين إنكِ تذكرتِ خطأ؟
كلامك يتغيّر بسرعة أمام جولييت!
وإن قالت جولييت إنها طلبت، هل ستغيّرين رأيكِ ثانية؟”
لم يُعجبها ترددي.
“كلا، آنسة جولييت.”
أعدتُ اعتذاري، مفضّلة التهدئة.
من الآن، كل ما حدث هو خطئي، لأنني أغضبتها.
كنت أخشى العقاب…
لكن—
“يكفي.
جولييت لا تحب فطيرة الجوز، خذيها بعيدًا.
اتركي العصير، ستشربه.”
لحسن الحظ، لم يستمر غضبها طويلًا.
ثم أضافت، بنبرة مبطّنة بالفضول:
“بالمناسبة، قلتِ إن جولييت طلبت هذا البارحة، صحيح؟
إذن، أخبريني بكل ما جرى مع جولييت تلك الليلة، من البداية حتى النهاية.
لا تُسقِطي شيئًا.”
قالتها بذراعيها المتشابكتين، وكأنها تسأل عن شخص آخر، لا عن نفسها!
كان من الغريب إنكارها لما حدث، لكنني قررت أن أجيبها كما طلبت.
“استدعتني الآنسة جولييت بعد العشاء.
كان ذلك خلال فترة التأكد من وجود الموظفين في غرفهم.
جاءت رئيسة الخدم لتخبرني أن الآنسة تطلبني.”
سردت ما تذكّرته بدقّة، لكن قسمات وجهها الصارم تغيّرت فجأة.
“ها، رئيسة الخدم جاءت لتبلغكِ؟”
“نعم، آنستي.”
بدت وكأنها فقدت توازنها لحظة، ثم سألت:
“تلك المرأة أتت…
وماذا فعلتِ؟
هل حيّيتِ رئيسة الخدم قبل أن تذهبي لجولييت؟”
لم أفهم فحوى السؤال، لكنني هززت رأسي نفيًا.
“كلا. حين طُلب مني الحضور، كنت مشغولة، فلم أخرج من غرفتي إلا بعد عشر دقائق تقريبًا.
وعندما خرجت، كانت رئيسة الخدم قد غادرت، فتوجهت مباشرة إلى غرفتكِ، آنسة جولييت.”
رأيت أن لا حاجة لذكر “الوعد” الذي جرى خلال العشاء، فاكتفيت بالتلميح.
خفّت حدة تعبيرها قليلًا، ثم تابعت تساؤلها:
“ثم ماذا حدث؟
ماذا حدث بعد أن دخلتِ على جولييت؟”
عادت المحادثة لمسارها.
“قالت الآنسة جولييت إنها مرهقة، وأنها استنزفت تفكيرها بعد وقت طويل، وأرادت أن تأكل شيئًا. سألتني عن أطعمتها المفضلة، وحين ذكرتها، اختارت فطيرة الجوز، رغم أنها لم تكن ضمن القائمة.”
ذلك ما حدث.
“إذن، بينما كانت جولييت ‘غائبة’، قامت ‘جولييت’ بكل ذلك؟”
راحت تمضغ طرف إصبعها بتفكير، ثم تنهدت طويلًا.
“اخرجي.
جولييت ترغب في الراحة.”
ولوّحت بيدها تصرفني بلا اهتمام.
“ألم تسمعي ما قلته؟
جولييت لا تريد الإزعاج.
خذي معكِ هذه الفطيرة البشعة…
واختفي!”
بدت غاضبة حقًا هذه المرة.
لكن—
وقبل أن أغادر—
“بما أنكِ أخبرتِني بما جرى الليلة الماضية، دعيني أقدّم لكِ نصيحة.
تلك التي زارتكِ في غرفتكِ—
من الأفضل أن تبتعدي عنها ما استطعتِ.”
“عفوًا؟”
تنهدت ببطء، ثم قالت بصوت جاد:
“رئيسة الخدم—
ابتعدي عنها، حفاظًا على سلامتك.”
كان ذلك تحذيرًا مريبًا…
بل، الأغرب على الإطلاق.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 111 - تنبيه. 2025-06-24
- 4 2025-05-11
- 3 2025-03-01
- 2 2025-02-10
- 1 2025-02-10
- 0 - تنبيه. 2025-06-24
التعليقات لهذا الفصل " 4"