2
كان الطقس مريبًا.
قبل لحظات، كانت السماء صافية بلا شائبة، ممتدةً بصفائها حتى بدا من العسير تصديق كيف اكتسى الأفق فجأةً بغلالة داكنة ثقيلة.
ومع اقتراب العربة من ملكية روزپينا، أخذت الغيوم السوداء تتجمع ببطء، كأنها نذير مجهول يتربص بالمكان.
“سترين الغربان هناك، وأسفلها القصر.
ذاك هو العنوان الذي تبحثين عنه”
القصر الذي ظلت الشابة تنشده.
تبع بصري إشارة السائق، فرأيت أسراب الغربان تحجب سقف القصر العالي، كأنها سديمٌ قاتم يلتف حوله، يحرسه بصمتٍ مهيب.
“سأكررها—هذا أقصى ما يمكنني إيصالكِ إليه.
من هنا، ما عليكِ سوى اتباع الطريق الواضح أمامك”
ما إن خطوتُ خارج العربة حتى رفع السائق يده مشيرًا نحو الطريق الممهد، المستقيم، الذي بدا وكأنه يقودني بلا تعرج إلى المصير المنتظر.
ألقيت نظرة خاطفة على الدرب قبل أن ألتفت إلى السائق وأومئ له شاكرة.
“أشكرك”
“احذري البرك المنتشرة على الطريق”
جاء تحذيره الأخير مقتضبًا، لكنه لم يمكث طويلًا بعدها، إذ استدار بعربته مبتعدًا، تاركًا خلفه صدى خطى الخيول على الأرض الرطبة.
وكما قال، كانت هناك برك متناثرة في كل زاوية، آثار مطرٍ لم يجف بعد.
“إذًا… هذا هو المكان”
عند وصولي إلى البوابة الأمامية، وقعت عيناي على نافورة تعتلي منتصف الساحة الواسعة، تتفرع منها ممرات تحيط بها الحدائق المتناثرة على الجانبين.
رغم كثرة الأقاويل عن الأمطار التي لا تنقطع هنا، بدت الأزهار مشرقة، نابضة بالحياة على نحوٍ مدهش.
غير أن وجود السحر في هذا العالم يجعل مثل هذه الأمور قابلة للتفسير، حتى لو ظل سرها مجهولًا.
لعل ثمة قوة خفية، عنصر غامض، أو طريقة مجهولة تبقيها مزدهرة رغم المناخ القاسي.
“على ذكر ذلك… ألم يذكروا شيئًا عن المهاجع؟”
كنت قد سمعت أن مساكن الخدم منفصلة حسب الجنس وتقع بالقرب من القصر، وبالفعل، لم يطل بي البحث حتى لمحت مبنيين صغيرين يقبعان بجواره.
“يا له من قصر هائل…”
لكن ما استرعى انتباهي بحق لم يكن تلك المباني الصغيرة، بل القصر ذاته—شاهقًا، طاغيًا بحجمه، محاصرًا بالغربان التي ازدحمت فوقه كأنها حراسٌ صامتون.
كان ضخمًا إلى درجة أنني اضطررت إلى إمالة رأسي للخلف لأرى نهايته.
وفجأة، انفتحت أبواب القصر بقوة، وخرجت امرأة بخطى ثابتة.
“آه، إنها الآنسة إيفون!
تفضلي بالدخول، كنا بانتظاركِ”
من بعيد، لوّحت لي سوزان، كبيرة الخدم، وهي تقترب بخطوات واثقة.
كانت قد أجرت معي المقابلة بنفسها، لذا تعرفت عليّ على الفور.
“قدّمي لي خطاب القبول، وسنتحدث عن التفاصيل لاحقًا في الداخل”
مدّت يدها متوقعة استلامه، وبينما كنت أبحث عنه في حقيبتي الصغيرة، ترددت في ذهني كلمات الرسالة التي تلقيتها مع وثائق القبول:
[ “…نبلغكِ رسميًا بأنه قد تم قبولكِ للعمل في ملكية روزپينا.
نهنئكِ مجددًا.
تجدين مرفقًا مع خطاب القبول نسخةً من لائحة قوانين العمل في ملكية روزپينا.
تمت صياغة هذه القوانين بعناية لضمان تكيفكِ السلس مع بيئة العمل، لذا نوصيكِ بقراءتها بعناية فائقة.
الآن، ضعي هذا الخطاب جانبًا واقرئي الوثيقة المرفقة.
هل أتممتِ قراءتها بتمعن؟
إن كان الأمر كذلك، فنحن على يقين بأنكِ قد عدتِ إلى هذه الرسالة وتقرأين هذه الجملة الآن.
يُسمح لكِ بزيارة القصر في الموعد المحدد، مصطحبةً معكِ خطاب القبول ولائحة قوانين العمل.
لكن عند وصولكِ، عليكِ تقديم خطاب القبول فقط، دون كشف محتوى اللائحة لأي شخص.
بمجرد تخصيص غرفتكِ، ضعي اللائحة على المكتب داخلها، إذ سيتم جمعها خلال ساعات النهار.
لضمان إقامتكِ المريحة، يتوجب عليكِ حفظ القوانين عن ظهر قلب قبل وصولكِ إلى القصر.
بهذا، نختتم تعليماتنا.
نتمنى لكِ حياة هادئة وعادية في ملكية روزپينا.
ملحوظة: لائحة قوانين العمل سرية للغاية، ولا يجوز مشاركتها مع أي شخص، حتى زملائكِ.
إن سُئلتِ عنها، التزمي الصمت” ]
“لم أقرأ اللائحة حتى الآن!”
لكن على الأقل، كان خطاب القبول لا يزال بحالة جيدة.
عندما تلقيتُ إشعار التوظيف، غمرتني فرحة عارمة، لكن الحظ والمصائب غالبًا ما يتلازمان.
ففي لحظة طائشة، انسكب كوب ماء كامل على الوثائق، مما طمس الأحرف، وترك الحبر متناثرًا بشكل غير مقروء، حتى بعد أن جفّت الورقة.
“لا بأس…
على الأغلب، القوانين لا تختلف كثيرًا عن أي مكان آخر”
فغالبًا ما تتضمن تفاصيل العمل، مثل أوقات الدوام والمناطق المحظورة داخل القصر، وتُعاد صياغتها للتحذير والتذكير…
تمامًا كما يحدث الآن.
“الجميع هنا يتعاملون كعائلة أكثر من كونهم مجرد موظفين، لذا لن يكون العمل شاقًا”
“فهمت ذلك”
بمجرد أن استلمت سوزان خطاب القبول، بدأت تقودني إلى داخل القصر.
“الوجبات تُقدَّم في أوقات محددة، لذا احرصي على عدم التأخر.
كما أن القائمة تتغير شهريًا، فلا تنسي ذلك”
“سأضعه في اعتباري”
قد لا تكون الوجبات فاخرة، لكنها بالتأكيد ستكون أكثر قبولًا إذا لم تتكرر كل يوم.
“كما أشرنا خلال المقابلة، بعد اجتيازكِ لفترة التدريب، ستصبحين موظفة رسمية.
لكن خلال هذه الفترة، إن استدعتكِ الآنسة جولييت، فيجب عليكِ تنفيذ ما تطلبه منكِ دون تردد”
كنت أصغي إلى حديث سوزان بانتباه بينما أتبع خطواتها، أراقب بعينٍ فاحصة تفاصيل المكان.
وما إن اجتزتُ عتبة القصر لأول مرة، حتى تملكني شعورٌ غامرٌ بالسحر.
السجاد الطويل، الناصع كأنه لم يُطأ قط، اللوحات المذهلة التي تزين الجدران، والثريا الضخمة التي تتلألأ فوق رأسي—كل شيء كان يبعث على الذهول.
ومع كل خطوة أخطوها، كانت تفاصيل القصر تتكشف لي أكثر، لتجعلني أتساءل…
أي أسرار يخفيها هذا المكان؟
لكن فيما يتعلق بالأماكن التي يرتادها الناس بانتظام، كقاعة الطعام، كان بإمكاني التعرف عليها بنفسي،
أما تلك التي نادرًا ما تُزار، كالمطبخ أو قاعة الولائم، فسيتم شرحها لي لاحقًا متى ما أوكلت إليّ مهام تنظيف هناك.
“هذه زيارتي الأولى لهذا المكان،
فلماذا لا يبدو غريبًا عليّ؟”
راودتني هذه الفكرة فجأة بينما كنت أرافقها، متفحصةً أرجاء القصر الفسيح.
لماذا لم يكن هذا المكان يوحي لي بالغرابة؟
لماذا شعرت وكأنني مررت به من قبل؟
“الآن، سأدلكِ على غرفتكِ.
لن أكرر التوضيح، لذا أصغي جيدًا، آنسة إيفون”
“آه، حسنًا”
تنحيت عن أفكاري جانبًا، وتبعتُها خارج القصر باتجاه المساكن الملحقة.
وما إن وطئت قدماي الداخل للمرة الأولى، حتى انهمر المطر بغتةً، فتوجه بصري لا إراديًا نحو النافذة. انعكست صورتي على زجاجها،
وفي الخلفية الممطرة التي بدت مألوفة بشكل غريب، تجلّت ملامح محددة.
شعرٌ أسود حالك، ينسدل بسلاسة أسفل الكتفين، ملتفًا قليلًا عند الأطراف.
تحت بشرة ناصعة، تلألأت عينان بلون البحيرات الهادئة.
“غرفتكِ في المقدمة، آنسة إيفون”
صعدنا الدرج المؤدي إلى الطابق الثاني، إلى أن توقفت أمام باب معين.
“هذه هي غرفتكِ.
قد تكون صغيرة، لكنها مريحة، أليس كذلك؟
لن تجديها غير مناسبة.
كما ترين، تحتوي على جميع الضروريات الأساسية للحياة اليومية”
ألقيتُ نظرةً خاطفة داخلها—أرضية خشبية تصدر صريرًا خافتًا، مكتب يعلوه غبار خفيف، ستائر عتيقة، وسرير بدا على الأقل مريحًا بما يكفي للنوم.
“هذه مفاتيح غرفتكِ.
احرصي على إغلاق الباب بإحكام متى ما غادرتِ”
ألقت المفتاح الصغير في راحتي برفق.
قبضتُ عليه، ثم وضعت حقيبتي الصغيرة فوق السرير.
✦✦✦
اليوم الأول، الذي كان يفترض أن يكون بداية عملي الفعلي، انقضى في تلقي التعليمات أكثر مما تضمن إنجاز أي مهام فعلية.
بعد أن أنهت كبيرة الخدم جولتها التعريفية حول القصر وأماكن الإقامة، شرحت لي طبيعة المهام التي سأُكلَّف بها كمتدربة، إلى جانب بعض الأمور الأخرى.
“سيُطبق الأمر ذاته حتى بعد أن تصبحي موظفةً رسمية، تمامًا كما هو الحال في فترة الاختبار”
وقت الاستيقاظ: 6:30 صباحًا.
الإفطار: 7:00 صباحًا.
بداية العمل: 7:30 صباحًا.
نهاية العمل: 6:50 مساءً.
العشاء: 7:00 مساءً.
“بهذا، نكون قد انتهينا من التوضيح.
أتمنى أن تلتزمي بالجدول ابتداءً من الغد، آنسة إيفون”
استمعتُ إلى كل ذلك طويلًا، ولم يُتح لي تفريغ أمتعتي إلا حين أسدل الليل ستاره.
وبما أن كل ما جلبته كان يتسع في حقيبة واحدة، لم يستغرق ترتيب الغرفة سوى بضع لحظات.
وأخيرًا، حلّ وقت العشاء.
رغم أن يومي لم يتضمن سوى الاستماع للتعليمات، إلا أن ذلك يُعد جزءًا من العمل، لذا توجهت إلى قاعة طعام الموظفين للمرة الأولى.
قُدّم لي خبز طري، وحليب دافئ، وقليل من السلطة.
“حسنًا، ليس سيئًا على الإطلاق”
كانت الكمية والطعم مناسبين،
وكنت على وشك أن أشعر بالارتياح، حين—
“ه-هذا… أليسَتْ إيفون؟”
إحدى الخادمات، التي تبادلتُ معها تعارفًا سريعًا في وقت سابق، نهضت فجأة من مقعدها، واتجهت إليّ على عجل، ممسكةً بطرف ثوبي.
ثم، ودون مقدمات، انحنت ناحيتي وهمست بصوتٍ مرتجف:
“فـ… في غضون ثلاثين دقيقة بالضبط، سيأتي أحدهم ليتأكد من وجود الجميع في غرفهم.
لذا، مهما حدث، لا تخرجي”
ارتجف صوتها كما لو أنها رأت شبحًا، متعثرةً في حديثها.
لكن حين أصغيتُ إليها جيدًا، بدا وكأن هناك خطبًا ما.
مجرد تفقد روتيني لضمان التزام الموظفين بالنظام، فلماذا تصرّ على ألا أفتح الباب أو أجعل حضوري ملحوظًا؟
“أ-أرجوكِ، لا تخرجي مهما حدث.
عِديني بذلك، حسنًا؟”
…أجبرتني على الوعد.
وما إن انتهت من حديثها، حتى غادرت القاعة راكضة، تاركةً إياي في حيرة.
تحذير مفاجئ، ووعد بدا وكأنه لا ينبغي الإخلال به.
“لكنها لم تكن تبدو وكأنها تخفي نوايا سيئة”
لم يكن الأمر وكأنها تحاول إيقاعي في ورطة،
أو دفعي لمخالفة القواعد وجذب انتباه المشرفين.
لا…
ما لمحته في عينيها كان أشبه بارتجافة أرنب مذعور، بفريسة تستشعر وجود مفترسٍ مجهول.
لذا، ولأول مرة، قررتُ أن أصدّق كلماتها.
وإن كانت تملك نوايا خفية، يمكنني ببساطة أن أبتعد عنها لاحقًا.
رغم كل الخيبات والخيانة التي اختبرتها سابقًا في بيئة العمل، لم أشأ أن أتحول إلى شخص يُساوره الشك في الجميع بسهولة.
لم أرغب في أن أقضي حياتي وقلبٌ مثقل بالحذر الدائم.
✦✦✦
〈 لوائح العمل في ملكية روزپينا 〉
المادة الأولى: لا يُجرى أي تفقد ليلي للتأكد من تواجد الموظفين في غرفهم.
لقد تم إلغاء هذه الممارسة منذ زمن بعيد.
إذا استخدم أي شخص هذا العذر ليطلب منك فتح الباب، تجاهله تمامًا، وردد بصمت كلمات أغنيتك المفضلة لعشر دقائق.
إذا تجاهلتَ “وجودهم “ولم تتفاعل لعشر دقائق، فسيفقدون اهتمامهم ويمضون ببساطة…