“سيّدتي؟”
حين حاول آمون، بنظرةٍ متعجّبة، أن ينهض من مكانه، اقتربتُ منه بسرعة.
“لا شيء.”
اندسستُ بسرعةٍ تحت الغطاء المجاور وأدرتُ ظهري.
أغمضتُ عينيّ بقوّة، فسمعتُ صوت تحرّك آمون خلفي يتردّد بقوّةٍ غريبة.
“إذن… تصبحين على خير.”
توقّف صوت تحرّكه أخيرًا، وتحدّث آمون.
بدا أنّه تخلّى عن طرح المزيد من الأسئلة رغم استغرابه من تصرّفي.
سرعان ما سمعتُ أنفاسه المنتظمة، ففتحتُ عينيّ قليلًا وأطلقتُ أنفاسي المكبوتة.
‘… ما هذا؟’
تدفّقت أسئلةٌ كثيرةٌ في ذهني.
ألم يكن آمون يحبّني؟ قد أفهم أنّه لا يعبّر عن مشاعره لأنّه ليس بارعًا في ذلك، لكن أن يظلّ هادئًا في موقفٍ كهذا، أليس هذا مبالغًا فيه؟
بالطّبع، لم أكن أنتظر منه أن يهتمّ بي أكثر، ولا كنتُ قلقةً من أن يحدث شيء.
لكن…
‘أكان الصوت يكذب إذن؟’
عاودتُ التّفكير في صدق كلمة “الحبّ”.
لا شيء يظهر بناءً على تصرفاته، ينام بجانبي بهدوء، لطيفٌ وودودٌ لكن ليس معي وحدي…
‘لو لم أسمع ذلك الصّوت، هل كنتُ سأشكّ أصلًا؟’
إن آمنتُ بطريقة آمون التي تعتمد على ما تراه العين فقط، فلا دليلٍ يثبت أنّه يحبّني.
شعرتُ بخيبة أمل، وفي الوقت نفسه لم أفهم لماذا أشعر بهذا.
لماذا أهتمّ كثيرًا بمشاعر آمون؟
أدرتُ ظهري قليلًا لأنظر إلى جانبي.
رأيتُ صدر آمون يرتفع وينخفض بانتظام مع أنفاسه.
كان نائمًا بعمق.
حدّقتُ في السّقف.
لماذا يبدو هدوء آمون جارحًا؟
أسئلةٌ بلا إجابةٍ ظلّت تعبث بذهني.
* * *
مرّت أيّام.
كرّرنا الروتين ذاته.
واصلنا العلاج لإعادة دولوريس إلى وعيها، وبحثنا في المنزل بحجّة التّنظيف.
لكن وعي دولوريس ظلّ كما هو، ولم تظهر أيّ أدلّة جديدة.
استمرّت ليالينا ننام فيها معًا في غرفة المعيشة.
ظلّ آمون هادئًا كما في البداية، بينما كنتُ أعاني من التّوتّر دون أن أعرف السبب.
في أحد الأيّام، بينما كنّا جالسين على أريكة غرفة المعيشة نشرب الشّاي، سمعنا طرقًا على الباب.
كان الطّبيب قد زار وغادر، ولم يكن يوم زيارة الممرّضة، فلا زائر متوقّع.
“سأذهب لأرى.”
نهض آمون وتوجّه إلى الباب.
من خلال فتحة الباب، رأيتُ وجهًا غريبًا لرجل.
تبادل آمون معه بضع كلمات، ثم عاد حاملًا ظرفًا ورقيًّا.
“من كان؟”
“قال إنّ رسالةً وصلت إلى النزل. يبدو أنّها من فرقة الفّرسان.”
جلس آمون وفتح الظّرف.
كانت الرّسالة من كارلايل.
اقتربنا من بعضنا لنقرأها معًا.
[ لا أعلم إن كانت هذه الرّسالة ستصل قبل عودتك أم لا، لكن من الأفضل إرسالها بسرعة.
باختصار، “تلك الكلمة” حقيقةٌ لا شكّ فيها.
تحقّقنا من كلّ شيء، فلا داعي للقلق.
كانت شكوكك مجرّد وهم.
أتمنّى لك رحلةً ممتعة، وأخبرني إن كان هناك جديد. ]
بينما كنتُ أميل رأسي مستغربةً محتوى الرّسالة، تحدّث آمون:
“كلام رئيسة الخادمات، أنّ الطّفل المتبنّى كان ذكرًا، هو الحقيقة.”
أخذتُ الرّسالة من يده وأعدتُ قراءتها بعناية.
“كتبها بغموضٍ عمدًا، حتّى لو قُرئت من آخرين، لا يفهمون معناها.”
“صحيح، الحذر واجب.”
فهمتُ الآن النّبرة التي كتب بها الرّسالة، كما لو كانت من صديقٍ لآمون وليس من عضوٍ في الفرقة يتقدّم بتقرير، وكلمة “رحلة” في النّهاية.
“تلك ‘الكلمة’ تعني كلام رئيسة الخادمات، و’تحقّقنا من كلّ شيء’ يعني أنّهم جمعوا شهادات جميع الخدم آنذاك. و ‘لا داعي للقلق’…”
تابع آمون:
“يعني أنّه أمرٌ مؤكّد بلا شكّ.”
كان الطّفل المتبنّى ذكرًا، إذن الجاني رجل… فهمتُ الآن لماذا أصرّ كارلايل على إرسال الرّسالة بسرعة.
“هذا يعني أنّ فالدي بوليف هو الجاني على الأرجح.”
“بالضّبط.”
أمسكتُ الرّسالة بقوّة ونظرتُ إلى آمون.
فالدي هو الجاني.
لقد وجدنا الجاني أخيرًا.
“أنا… هل أنا غريبة؟ لا أشعر بواقعيّة الأمر.”
“أنا أيضًا.”
تحدّث آمون بهدوء.
كان عدو والديه، الذي طارده طوال حياته، قريبًا جدًّا.
قد يتمكّن من القبض عليه إن مدّ يده.
لكن، رغم وجهه الهادئ، لا أحد يعلم ما يدور في قلبه.
“… يجب أن نكتب ردًّا. سنطلب التحقيق عن فالدي بوليف.”
نهض آمون من الأريكة فجأة وبدأ يبحث عن ورقة.
تتبّعتُه بعينيّ وأنا أفكّر:
‘هل فالدي هو الجاني حقًّا؟ هل سنقبض عليه قريبًا؟ إذن… ماذا عنّي؟’
إيجاد الجاني الحقيقي كان الهدف الوحيد الذي طاردته منذ وصلتُ إلى هذا العالم.
في البداية، ظننتُ أنّ العثور على الجاني سيأخذني إلى عالمي الأصلي.
ثمّ، لأنّني لم أجد ما أفعله، والآن…
نظرتُ إلى ظهر آمون وهو يتحرّك بسرعة.
‘لأنّني لا أستطيع مسامحة الجاني.’
لكن، عندما فكّرتُ أنّنا قبضنا على الجاني، شعرتُ بشعورٍ لا يمكن وصفه.
دهشة، فرح، إحساس بالإنجاز… ولسببٍ ما، شعورٌ بالحزن، خيبة الأمل، والفراغ.
‘ماذا يفترض بي أن أفعل الآن؟’
إن حقّقنا عن فالدي ووجدنا أدلّة ماديّة، ثم قبضنا عليه وحاسبناه على جرائمه، ماذا بعد؟
‘سأعود إلى عالمي الأصلي وأستعيد جسدي.’
لكن، سواء كان ذلك ممكنًا أم لا، المشكلة الحقيقيّة كانت مختلفة.
العودة إلى عالمي تعني وداع كلّ شيء في هذا العالم.
جسد جوليا، الذي أصبح يبدو كأنّه لي، والذّكريات التي تؤلمني بشدّة، وقصر دوق سبينسر وأعضاء الفرقة الذين أصبحوا مألوفين.
وأكثر من أيّ شيء، آمون سبينسر… لن أراه مجدّدًا.
‘سأعود، سأعود…’
لم أتذكّر اسمي.
لا أعرف ماذا كنتُ أعمل، ولا كيف كان أهلي وأصدقائي.
تلاشت ذكرياتي، وضعفت هويّتي.
أمّا جوليا؟ أصبح هذا الجسد النّحيل يبدو لي كأنّه ملكي.
البارون والبارونة ريتس اللذان ضحّيا بحياتهما من أجل جوليا أصبحا كأبويّ، وقصر البارون المطلّ على البحر يبدو كمنزلي.
الغضب الجامح تجاه راسيل، والأسى الذي أشعر به عند التّفكير في ماضي آمون، كلّها مشاعري.
ليست لجوليا، بل لي… كلا،
‘لي، وأنا جوليا.’
تجعّدت الرّسالة في يدي.
من هي جوليا؟ ألستُ أنا هي؟
“سيّدتي، سأذهب إلى القرية لإرسال الرّسالة.”
اقترب آمون، الذي أنهى كتابة الرّسالة، وقال.
انتزعتني كلماته من أفكاري، فأجبتُ:
“آه، حسنًا. اذهب.”
“هل ستكونين بخيرٍ وحدك؟”
“بالطّبع.”
ابتسمتُ بصعوبة وودّعته.
لحسن الحظّ، بدا آمون منشغلًا بهويّة الجاني لدرجة أنّه لم يلاحظ غرابة تعبيري.
أغلق الباب خلفه، وبمجرّد أن بقيتُ وحدي، ارتخى جسدي.
جلستُ في مكاني وأطلقتُ تنهيدةً عميقة.
قبل أن أفكّر في من أنا أو من هي جوليا، سيطرت عليّ مشاعر غريزيّة.
لم أرد مغادرة هذا المكان.
لم أرد الإفتراق عن آمون.
مهما كان المستقبل، في هذه اللحظة فقط…
فجأة، ظهرت إجابة السّؤال الذي كان يعبث بذهني منذ أيّام.
لماذا شعرتُ أنّ هدوء آمون جارح؟ السبب بسيطٌ وواضح.
لأنّني أردتُ أن تكون كلمات الصّوت صادقة.
أردتُ أن يكون آمون… يحبّني.
شعرتُ بقلبي يهوي إلى أعماق اليأس المفجع.
التعليقات لهذا الفصل " 96"