صوت؟ الصّوت يعود مجدّدًا؟ تجمّدتُ في مكاني من الذّهول.  

ليس المحتوى فقط، بل حقيقة عودة الصّوت بحدّ ذاتها كانت صادمة.  

ألم تمت باميلا؟ فكيف يمكن أن أسمع صوتها مجدّدًا؟  

منذ البداية، كان الصّوت ظاهرة لا منطقيّة، فلا يوجد ضمان أنّه سيتوقّف بموتها…  

‘لكن، هل كان هذا صوتها حقًّا؟’  

شعرتُ بقشعريرة تسري في ظهري. 

طريقة النّطق، أو بالأحرى الصّوت الذي يرنّ مباشرة في رأسي وليس في أذني،

جعلتني لا أنتبه في البداية، لكن عندما فكّرتُ، بدا الصّوت مختلفًا بشكلٍ خفيّ عمّا سمعته من قبل.  

‘كان صوت امرأة مشابه، لكن… هل أخطأتُ؟’  

ركّزتُ بانتظار أن يعود الصّوت مجدّدًا، لكنّ رأسي ظلّ هادئًا كما هو.  

إذا لم يكن هذا وهمًا، وكان صوت امرأة أخرى غير باميلا، فمن تكون إذًا؟  

‘هل هي شخصيّة أخرى موجودة في هذا العالم مثل باميلا؟ هل عليّ معرفة من هي؟’  

بينما كنتُ غارقة في التّفكير، تذكّرتُ كلام باميلا:  

‘ربّما هي لا تريد منّي أن أقول لكِ هذا…’  

هي.. 

وضعتُ يدي على فمي.  

‘تلك التي شعرتُ أنّها تقف وراء تصرفات باميلا… هل هي نفسها؟ هل هذا صوتها الآن؟ لماذا؟’  

“الآنسة؟ هل أنتِ بخير؟”  

لاحظ آمون أنّني تجمّدتُ وأنا أنظر إلى الخريطة، فناداني.  

“تبدين شاحبة.”  

“آهـ…”  

تنهّدتُ وفركتُ وجهي. 

هززتُ رأسي بسرعة وحاولتُ رفع زاوية فمي.  

“أنا بخير. فقط تفاجأتُ قليلًا.”  

ظنّ أنّني تفاجأتُ بسبب اختطاف الطّفل، فأومأ آمون برأسه دون تعليق.  

“ربّما يجب أن ترتاحي قليلًا.”  

حاول أن يزيل الخريطة من أمامي، فأمسكتُ يده بسرعة.  

“كلا، أنا بخير. حقًّا.”  

بغضّ النّظر عمّن كان صاحب الصّوت، لقد أمرني بإيقاف الخطّة.  

هذا يعني أنّني، بطريقة ما، قد أكون متورّطة في هذه القضيّة.  

‘بعد أن قيل لي إنّني لا أستطيع العودة إلى عالمي الأصليّ، لا أعرف إلى أيّ مدى يجب أن أثق بالصّوت…’  

شعرتُ بالنّفور من هذا الصّوت الذي يعطي تعليمات غامضة دائمًا، لكنّني لم أستطع تجاهله تمامًا. 

فقد ساعدني الصّوت على تجاوز عدّة مخاطر من قبل.  

‘والأهم، الطّفل. قال الصّوت إنّ إيقاف الخطّة سيُنقذ الطّفل.’  

بعبارة أخرى، إذا استمرّت الخطّة كما هي، قد يموت الطّفل. 

لم أستطع أن أقف مكتوفة الأيدي.  

نظرتُ إلى آمون وسألتُ بحذر:  

“قلتم إنّكم ستراقبون غدًا عند الجسر، وستقتحمون الموقع، أليس كذلك؟”  

“نعم، هذا صحيح.”  

“هل… هناك أيّ مشكلة في هذه الخطّة؟” 

“مشكلة؟”  

“أعني… شيء يثير قلقكم ولو قليلًا.”  

“حسنًا…”  

نظر آمون إلى الخريطة مجدّدًا بوجه متعجّب. 

بللتُ شفتيّ بعصبيّة. 

كيف سأجد عذرًا هذه المرّة لإيقاف الخطّة؟  

“عندما راجعناها، لم نجد أيّ مشكلة. هل هناك شيء يقلقكِ؟”  

نظرت إليّ عيناه الزّرقاوان مباشرة. 

أمام وجهه الخالي من أيّ شكّ، أغمضتُ عينيّ ببطء ثمّ فتحتهما. 

هذه المرّة أيضًا، كان عليّ خداع شخص يثق بي.  

* * *  

لإيجاد عذر مقنع لإيقاف الخطّة، كان من الضّروريّ معرفة تفاصيل قضيّة الاختطاف.  

بدافع شعور بالقلق غير مبرّر، عدتُ مع آمون إلى مقرّ الفرسان في اليوم التّالي. 

لم يتغيّر شيء في مقرّ الفرسان منذ آخر مرّة غادرته. 

عندما قلتُ إنّني أريد معرفة تفاصيل القضيّة، أخبرني آمون أنّ وقت التّقرير قد اقترب وأدخلني إلى الاجتماع.  

“الطّفلة المخطوفة هي نيكول آوسبورن، الابنة الوحيدة لعائلة كونت آوسبورن. احتفلت بيوم ميلادها العاشر منذ وقت قصير.”  

وقفت إلويز أمام طاولة مستديرة نجلس حولها أنا وآمون ومارفين وكارلايل، وبدأت بسرد التّقرير.  

كانت القضيّة كبيرة، لذا شارك آمون وإلويز ومارفين في التّحقيق مباشرة، بينما انضمّ كارلايل لمساعدة إلويز بشكل طفيف.  

“وفقًا لكونت آوسبورن، فإنّ نيكول فتاة ذكيّة وسريعة البديهة.” 

“إذا كانت من عائلة كونت، فبالتأكيد كان لديها حرّاس، فكيف اختُطفت؟” 

عندما تحدّثتُ، نظر إليّ مارفين، الذي كان يتساءل عن سبب وجودي هنا، بنظرة فضوليّة واضحة. 

تجاهلتُ نظراته.  

“انظروا إلى الصفحة التّالية من التّقرير.”  

قلبت إلويز صفحة من التّقرير وتابعت: 

“سأشرح الآن تفاصيل القضيّة. اختفت نيكول آوسبورن منذ خمسة أيّام. لم تكن مختلفة كثيرًا عن أبناء النّبلاء الآخرين. بما أنّها لا تزال صغيرة، لم تُدعَ رسميًّا إلى الحفلات، وكانت لها فقط بعض اللقاءات الاجتماعيّة مع أقرانها.”  

“إذًا، لم تكن تخرج من القصر كثيرًا.”  

“صحيح. كانت تتلقّى تعليمها من معلّمة خاصّة تُدعى إلى القصر. لكن، كان هناك جدول منتظم يتطلّب خروج نيكول من القصر، وهو دروس ركوب الخيل.”  

ركوب الخيل؟ فتحتُ عينيّ بدهشة ونظرتُ إلى التّقرير. 

كما قالت، كانت هناك معلومات عن دروس ركوب الخيل التي لم تفوتها نيكول منذ سنوات.

“على الرّغم من صغر سنّها، أظهرت نيكول اهتمامًا وموهبة كبيرة في ركوب الخيل. في البداية، كانت الدّروس تُعقد داخل القصر، لكنّ نيكول أصبحت أكثر طموحًا. يبدو أنّ التجوّل في حديقة القصر لم يعد كافيًا لها.”  

“إذًا، وقعت الجريمة أثناء خروجها لدرس ركوب الخيل؟”  

“نعم.”  

أومأت إلويز برأسها ونظرت إليّ.  

“كما سألتِ سابقًا، كان مع نيكول حارسان ماهران دائمًا، حتّى أثناء دروس ركوب الخيل. كان الحرّاس يتبعونها على الخيول أيضًا. المشكلة أنّ مهارات نيكول تطوّرت لتصبح قادرة على الرّكض في مسارات جبليّة. مؤخرًا، كانت الدّروس تُعقد في جبال خارج العاصمة.”  

تذكّرتُ تلك الجبال. 

مررتُ بها عندما ذهبتُ إلى منطقة فيديل. 

على الرّغم من قربها من العاصمة، كانت الطّرق وعرة والغابات كثيفة، فكانت تجربة شاقّة.  

“يقال إنّ نيكول كانت تركض بسرعة غير معتادة في ذلك اليوم.”  

“هل… فقدوها؟” 

حتّى لو كانت الطّرق وعرة، أيُعقل أن يفقد حرّاس مدرّبون طفلة؟ نظرتُ بدهشة، فهزّت إلويز رأسها. 

“كان ذلك بسبب الإهمال. لأشهر، كانت الدّروس تُجرى بنفس المسار دون مشاكل، وكان المعلّم ملتصقًا بها، فظنّوا أنّه لا بأس من متابعتها من مسافة.”  

قلبتُ صفحة أخرى من التّقرير. 

كانت هناك شهادات الحرّاس، مليئة بالأعذار عن سرعة نيكول التي دخلت الغابة فجأة، وكيف لم يتمكّنوا من مواكبتها.  

“وخلال ذلك اختُطفت. …وماذا عن المعلّم؟ ماذا كان يفعل أثناء اختطاف نيكول؟”  

“وجد فاقدًا للوعي في الغابة بعد أن ضُرب على رأسه. يبدو أنّ الجاني هاجم المعلّم أوّلًا، ثمّ استغلّ ارتباك نيكول لاختطافها.”  

تابعت إلويز بوجه حزين:  

“بحث الحرّاس عن نيكول بعد تأخّرها، لكنّها كانت قد اختفت منذ زمن. لم يعثروا على أيّ أثر للجاني. بعد أربعة أيّام، وصلت رسالة تطالب بالفدية إلى عائلة آوسبورن بالأمس.”  

“أليس هناك شبهة على المعلّم؟ ربّما تآمر مع شريك وخطّط لذلك. من كلامكِ، لا يبدو أنّ الوقت بين ابتعاد الحرّاس والهجوم كان طويلًا، فكيف استهدف الجاني تلك اللحظة بالذّات؟”  

أومأ آمون، الجالس بجانبي، وأجاب بدلًا عنها:  

“افترضنا هذا الاحتمال واحتجزناه. نجري التّحقيق معه، لكن لم نجد أيّ دليل حتّى الآن.”  

نظرتُ إلى هويّة المعلّم في التّقرير. 

لم يكن هناك شيء لافت.  

“حتّى لو لم يكن المعلّم شريكًا، فمن الواضح أنّ الجاني خطّط لهذا منذ زمن.” 

كان يجب أن يعرف مسبقًا أنّ نيكول تذهب بانتظام إلى دروس ركوب الخيل، ويعرف الجبل والمسار الذي تسلكه، وإلّا لما تمكّن من اختطافها في تلك اللحظة القصيرة.  

“لكن، لماذا استغرقت الرّسالة أربعة أيّام لتصل؟ إذا اختار الجاني نيكول هدفًا مسبقًا، فكان يجب أن يعرف عائلتها.”

أومأت إلويز وقالت: 

“نحن نرجّح سببين. الأوّل، أنّ الجاني أرسل الرّسالة عبر مناطق مختلفة عمدًا لتأخير وصولها، وهذا أسلوب يستخدمه بعض المجرمين لتجنّب التّعقّب. 

الثّاني، أنّ المكان الذي أخذ إليه نيكول بعيد عن العاصمة، لذا حتّى لو أُرسلت الرّسالة فورًا، فستستغرق وقتًا طويلًا لتصل.”  

تدخّل كارلايل، الذي كان صامتًا، وقال:  

“إذا كان السّبب الثّاني، فيمكننا استنتاج موقع مخبأ الجاني تقريبًا. الوقت اللازم لنقل الجاني لنيكول إلى المخبأ، والوقت اللازم لوصول الرّسالة من المخبأ إلى العاصمة، يعني أنّ المخبأ يبعد يومين في اتّجاه واحد عن مكان الجريمة.”  

أشارت إلويز إلى خريطة كبيرة بجانبها، حيث كانت هناك دائرة مرسومة حول موقع الجريمة.  

“والأكثر من ذلك، كان على الجاني نقل الطّفلة معه، ممّا يعني أنّ سرعته  كانت أبطأ من المعتاد. بناءً على هذا، نعتقد أنّ المخبأ يقع ضمن هذا النّطاق تقريبًا.”  

حدّقتُ في الخريطة، ثمّ طرحتُ السّؤال الذي كنتُ أكبحه:  

“قبل ذلك… هل أنتم متأكّدون أنّ نيكول لا تزال على قيد الحياة؟”