“ما هذا؟”

 

وصلني صوتٌ باردٌ إلى أذني. 

 

تراجعتُ متردِّدةً إلى الوراءِ.

 

لم يكنْ الشخصُ الذي التفتَ هو آمونَ. 

 

كانَ هناكَ شبهٌ في ملامحِ الوجهِ الجميلةِ والتعبيرِ الباردِ، لكنْ بشكلٍ ما كانَ مختلفًا. 

 

كانَ أقصرَ قليلًا من آمون، وأنحفَ بعضَ الشيءِ، وما يميِّزُهُ كانَ عيناهُ البنيَّتانِ العاديَّتانِ.

 

ربَّما بسببِ قربي من آمونَ، شعرتُ أنَّهُ أكثرَ لطفًا ودفئًا.

 

“آه، أنا… آسفةٌ، لقد أخطأتُ في الشخصِ.”

 

بادرتُ بالاعتذارِ سريعًا، فتجهَّمَ وجهُ الرجلِ. 

 

نظرَ إليَّ من الأعلى إلى الأسفلِ دونَ أن يجيبَ، بنظرةٍ متعجرفةٍ جعلتني أشعرُ بالضيقِ.

 

‘هل هو شخصٌ ذو مكانةٍ عاليةٍ؟’

 

الآنَ فقط أدركتُ أنَّني لم أفكِّرْ قطُّ في مكانةِ من أتعاملُ معهم لأنَّني كنتُ دائمًا مع أعضاءِ فرقةِ الفرسانِ. 

 

هل أخطأتُ مرَّةً أخرى؟ بينما كنتُ أبتسمُ بإحراجٍ دونَ أن أُظهرَ انزعاجي، سمعتُ صوتًا منقذًا من خلفي:

 

“سيِّدتي؟”

 

“السير سبينسر!”

 

التفتُّ بسرعةٍ. 

 

اقتربَ آمون بخطواتٍ واثقةٍ مرتديًا زيَّ فرقةِ الفرسانِ.

 

‘بما أنَّهُ يعرفُ أنِّي قريبةٌ من قائدِ الفرسانِ، لن يقولَ شيئًا، أليسَ كذلكَ؟’

 

نظرتُ إلى الرجلِ متظاهرةً بالثقةِ، لكنَّهُ كانَ يبتسمُ بسخريةٍ الآنَ.

 

‘ما هذا؟’

 

“سيِّدتي.”

 

اقتربَ آمونُ منِّي مبتسمًا برفقٍ. 

 

نظرَ إليَّ ثمَّ إلى الرجلِ أمامي وقالَ:

 

“يبدو أنَّكما قد التقيتما بالفعلِ.”

 

“ماذا؟ التقينا؟”

 

نظرتُ إليهِ بحيرةٍ، فتدخَّلَ الرجلُ:

 

“لم نلتقِ. هذهِ المرأةُ اقتربتْ منِّي وأمسكتني بمحضِ إرادتِها.”

 

“هل تعرفُهُ؟”

 

زادَ قلقي من طريقةِ تعاملِ الرجلِ مع آمون. 

 

وجهٌ متشابهٌ بشكلٍ مفرطٍ، وتصرُّفٌ ودودٌ.

 

‘لا يمكنُ أن يكونَ…’

 

“إنَّهُ أخي الأكبرُ.”

 

قالَ آمون ذلكَ بلامبالاةٍ، ففتحتُ فمي مذهولةً. 

 

تحقَّقَ شعوري السيء. 

 

أخبرني آمونُ أنَّهُ استدعى أخاهُ للمساعدةِ في التحقيقِ بقضيّةِ دوقِ سبينسر والدوقة سبينسر. 

 

يبدو أنَّ الأسبوعَ الذي استغرقَهُ كانَ لعودةِ أخيهِ من الخارجِ.

 

بما أنَّهُ كانَ في طريقِهِ إلى قصرِ سبينسر، اقترحَ آمونُ أن أنضمَّ إليهِ، وهكذا وجدنا أنفسَنا ثلاثتَنا في عربةٍ واحدةٍ، نتحمَّلُ صمتًا محرجًا.

 

‘ربَّما أنا الوحيدةُ التي تتحمَّلُ هذا الصمتَ.’

 

نظرتُ إلى أخي آمونَ، كليفورد سبينسر، الجالسِ أمامي. 

 

كانَ ينظرُ إلى النافذةِ بلامبالاةٍ، وكأنَّني لا أعنيهِ بشيءٍ.

 

“قلت إنَّ قصرَ سبينسر في العاصمةِ، أليسَ كذلكَ؟”

 

جمعتُ شجاعتي لكسرِ الصمتِ. 

 

أومأ آمونُ، الجالسُ بجانبي.

 

“نعم، ليسَ بعيدًا، سنصلُ قريبًا.”

 

“أتساءلُ كيفَ يبدو المكانُ.”

 

“هناكَ من يعتني بهِ، لكنْ بما أنَّهُ لم يُسكَنْ منذُ زمنٍ، ربَّما يكونُ في حالةٍ سيِّئةٍ. أخشى أن تصدمي من الفوضى.”

 

كنتُ على وشكِ نفي ذلكَ بحركةِ يدٍ، لكنَّ كليفوردَ تدخَّلَ:

 

“أيُّ مكانٍ سيكونُ أفضلَ من فرقةِ الفرسانِ التي تفوحُ منها رائحةُ العرقِ، فلمَ كلُّ هذا القلقِ؟”

 

“حقًّا؟”

 

شعرتُ بالإحراجِ من نبرتِهِ الساخرةِ، لكنَّ آمونَ تجاوزَ الأمرَ وكأنَّهُ لم يُصبْ بأيِّ أذى.

 

‘هل هوَ سيِّءٌ في التعاملِ مع الناسِ عمومًا؟’

 

في البدايةِ، ظننتُ أنَّهُ لا يحبُّني، لكنْ بما أنَّهُ يعاملُ أخاهُ بنفسِ الطريقةِ، ربَّما هذهِ هيَ طباعُهُ.

 

على أيِّ حالٍ، هوَ أخو آمونَ وسيساعدُنا في التحقيقِ. 

 

ابتسمتُ بإحراجٍ وقلتُ:

 

“سمعتُ أنَّ السيدَ كليفوردَ يدرسُ في الخارجِ. ما الذي تدرسهُ؟”

 

تحوَّلَتْ نظرةُ كليفوردَ نحوي. 

 

رفعَ ذقنَهُ قليلًا وابتسمَ، لكنَّهُ لم يجبْ، وكأنَّ عينيهِ تقولانِ إنَّ هذا ليسَ من شأني.

 

“أخي يدرسُ الفلسفةَ.”

 

تدخَّلَ آمون لتهدئةِ الموقفِ.

 

“آه، الفلسفة… تناسبُكَ جدًّا.”

 

حتَّى مع المديحِ المُتكلَّفِ، لم يجبْ كليفوردُ. 

 

عادَ للنظرِ من النافذةِ. 

 

لم تكنْ مشكلةُ نبرتِهِ أو تصرُّفاتِهِ، بل كانَ يتجاهلُني بوضوحٍ منذُ البدايةِ.

 

‘لماذا بحقِّ خالقِ السماءِ؟’

 

نظرَ آمونُ، الذي كانَ بيننا، إليَّ وإلى كليفوردَ بإحراجٍ. 

 

ابتسمتُ لهُ لأطمئنَهُ ثمَّ أغلقتُ فمي.

 

بعدَ قليلٍ، وصلنا إلى قصرِ سبينسر. 

 

نسيتُ تصرُّفاتِ كليفوردَ وانشغلتُ باستكشافِ القصرِ.

 

كما قالَ آمونُ، كانَ القصرُ يُدارُ بعنايةٍ لكنَّهُ يحملُ جوًّا كئيبًا يميِّزُ الأماكنَ غيرَ المسكونة منذُ زمنٍ. 

 

لكنْ هذه الكآبة أضافتْ لمسةً عتيقةً أنيقةً.

 

كانَ أصغرَ من قصرِ بوليف، لكنَّهُ كانَ قصرًا كبيرًا مع عدَّةِ مبانٍ ملحقةٍ. 

 

لم يكنْ باذخًا بشكلٍ مبهرٍ، لكنَّهُ كانَ هادئًا وأنيقًا.

 

بالنظرِ إلى ما حدثَ لدوقِ سبينسر وزوجتِهِ، لم يكنْ مكانًا مريحًا تمامًا، لكنَّني أحببتُهُ رغمَ ذلكَ.

 

“واو…!”

 

خاصَّةً عندما دخلتُ المكتبةَ مع آمون، أُذهلتُ تمامًا.

 

كانتْ الجدرانُ الطويلةُ، التي تفوقُ طولي بأضعافٍ، مليئةً بالكتبِ. 

 

كانتْ تحتوي على كميَّةٍ أكبرَ بكثيرٍ من مكتبةِ الفرسانِ.

 

بينَ رفوفِ الخشبِ الداكنةِ المرتبةِ بعنايةٍ حتَّى السقفِ، كانتْ هناكَ أعمدةٌ بتصاميمَ متنوِّعةٍ، محتفظةً بجمالِ الخشبِ الطبيعيِّ.

 

كانتْ هناكَ نافذةٌ رأسيَّةٌ على جدارٍ واحدٍ فقط، تسمحُ بدخولِ ضوءِ الشمسِ لحمايةِ الورقِ من البهتانِ.

 

“إنَّها رائعةٌ جدًّا.”

 

شعرتُ أنَّ تعبيري عن الإعجابِ هذا لا يكفي لهذا المشهدِ الرائعِ.

 

“يسعدني أنَّها أعجبتْكِ.”

 

ابتسمَ آمونُ برفقٍ وأرشدني إلى مكتبٍ في وسطِ الغرفةِ. 

 

جلستُ في مكانٍ يواجهُ ضوءَ الشمسِ مباشرةً وأغمضتُ عينيَّ.

 

“لماذا جئنا إلى المكتبةِ؟”

 

حتَّى كلامُ كليفوردَ القاسي، الجالسِ أمامي، لم يُزعجني، فقد شعرتُ براحةٍ كبيرةٍ.

 

“لديَّ شيءٌ لأريكما إيَّاهُ.”

 

عادَ آمونُ من داخلِ المكتبةِ حاملًا عدَّةَ صناديقَ كبيرةٍ. 

 

عندما رُصَّتِ الصناديقُ على المكتبِ، كانتْ كثيرةً لدرجةِ أنَّها حجبتْ وجهَ الشخصِ المقابلِ.

 

“ما هذا كلُّهُ؟”

 

نظرتُ إلى الصناديقِ بحيرةٍ. 

 

كانتْ مليئةً بأوراقٍ متنوِّعةٍ، من كتبٍ إلى وثائقَ وملاحظاتٍ تبدو مهملةً.

 

“لأغراضِ التحقيقِ.”

 

وقفَ آمونُ في مقدِّمةِ المكتبِ، وتنحنحَ وقالَ:

 

“هذهِ جميعُ السجلَّاتِ من السنةِ التي ماتَ فيها دوقُ ودوقةُ سبينسر.”

 

تفاجأتُ وأنزلتُ يدي التي كانتْ تلمسُ الصندوقَ بسرعةٍ. 

 

واصلَ آمون: 

 

“إذا كانَ دوقُ ودوقةُ سبينسر قد قُتلا لإسكاتِهما، كما نتوقَّعُ، فسيكونُ هناكَ سجلٌّ ما يُظهرُ اتصالَهما بدارِ الأيتام لوديليون. لذا أودُّ أن نتحقَّقَ من هذهِ السجلَّاتِ معًا.”

 

“صحيحٌ، فكرةٌ جيِّدةٌ.”

 

على السطحِ، لا يبدو أنَّ لدوقِ ودوقةِ سبينسر علاقةٌ واضحةٌ بدارِ الأيتام لوديليون أو عائلةِ بوليف. 

 

إيجادُ هذهِ العلاقةِ هوَ الأولويَّةُ.

 

بالإضافةِ إلى ذلكَ، فإنَّ الاطلاعَ على سجلَّاتِهما سيُظهرُ أيضًا طباعَهما وشخصيَّتَهما.

 

“هاه…”

 

بينما كنتُ أنظرُ إلى الصناديقِ بحماسٍ، سمعتُ تنهيدةً طويلةً. 

 

تحدَّثَ كليفوردُ بنبرةٍ عصبيَّةٍ:

 

“آمونُ، أرحِّبُ بتحقيقِكَ في قضيّةِ والدينا. لكنْ هناكَ شيءٌ لا أفهمُهُ. لمَ يجبُ أن نعملَ مع هذهِ المرأةِ؟ إذا كنتَ بحاجةٍ إلى أشخاصٍ، أليسَ هناكَ كارلايل أو إلويز؟”

 

كانَ وقحًا للغايةِ أن يتحدَّثَ هكذا أمامي مباشرةً. 

 

عبستُ وراءَ الصندوقِ حيثُ لا يراني.

 

“لقد شرحتُ ذلكَ. تقدُّمُ التحقيقِ حتَّى هذهِ النقطةِ كانَ بفضلِ السيِّدةِ. لذا من الطبيعيِّ أن نستمرَّ معًا.”

 

“وماذا يمكنُ لهذهِ المرأةِ أن تفعلَ؟ هل هيَ بارعةٌ في جمعِ المعلوماتِ مثلَ كارلايل؟ أم تجيدُ استخدامَ السيفِ مثلَ إلويز؟”

 

“أخي.”

 

قطَّبَ آمون وجهَهُ وقالَ بحزمٍ:

 

“بالطبعِ، إذا لزمَ الأمرُ، سأطلبُ مساعدةَ كارلايلَ أو إلويز. لكنْ الآنَ، أحتاجُ إلى مساعدةِ السيِّدةِ.”

 

أطرقتُ رأسي ونظرتُ إلى الطاولةِ. 

 

كانَ سماعُ المديحِ أمامي مباشرةً محرجًا بقدرِ سماعِ الكلامِ الوقحِ.

 

واصلَ آمون، موجِّهًا كلامَهُ إلى كليفوردَ الذي لم يجبْ:

 

“لولا السيِّدةُ، لما فكَّرتُ حتَّى في بدءِ هذا التحقيقِ. ألا يمكنُكَ فقط المشاركةُ معنا؟”

 

عمَّ صمتٌ قصيرٌ. 

 

تنهَّدَ كليفوردُ مرَّةً أخرى وبدأَ بفتحِ الصندوقِ أمامَهُ.

 

“سأبدأُ من هنا.”

 

نظرتُ إلى آمونَ بعيونٍ متفاجئةٍ. 

 

بدا وكأنَّهُ توقَّعَ هذا التصرُّفَ، فنظرَ إلى كليفوردَ بارتياحٍ، ثمَّ عندما التقى بعينيَّ، بدا نادمًا.

 

ابتسمتُ لأطمئنَهُ وبدأتُ أفتحُ الصندوقَ أمامي. 

 

رأيتُ كليفوردَ من الجهةِ الأخرى يضعُ ورقةً فارغةً بجانبِهِ ويبدأُ بالتنظيمِ.

 

‘على الرغمِ من كلِّ شيءٍ، يبدو أنَّهُ ضعيفٌ تجاهَ أخيهِ.’