آمونَ أغمضَ عينيه بدهشةٍ.

 

“هل تعنين أنَّ الجاني الحقيقي… قامَ بتبديلٍ؟ تظاهرَ بأنَّهُ طفلٌ من عائلةِ الدوق؟”

 

“قيلَ إنَّهم في دارِ الأيتام كانوا يُلبسونَ الأطفالَ ملابسَ متشابهةً ويُسرّحونَ شعورَهم بنفسِ الطريقةِ. وقيلَ أيضًا إنَّ طفلينِ متشابهينِ كالتوأمَينِ اختفيا. إذا كانَ أحدهما قد تمَّ تبنّيهِ من قِبلِ عائلةِ الدوق، والآخرُ اختفى، فماذا لو؟”

 

كلَّما تقدَّمتُ في حديثي، ازددتُ ثقةً.

 

“إذا فكَّرنا بهذهِ الطريقةِ، يُصبحُ من المنطقيِّ أن يكونَ قد أخفى أصلَهُ من دارِ الأيتام بجهازٍ معقَّدٍ في كوخٍ خشبي”

 

“ليسَ مجرَّدَ كونهِ من دارِ الأيتام هو المشكلةُ، بل إذا اتَّضحَ أنَّهُ شخصٌ غريبٌ تمامًا، فمن المؤكَّدِ أنَّهُ سيُطردُ من عائلةِ الدوق… لذا فعلَ ذلكَ.”

 

أجابَ آمونَ بذهولٍ. 

 

كانَ لا يزالُ يبدي وجهًا متردِّدًا لا يريدُ تصديقَ الأمرِ.

 

“لكن كيفَ يمكنُ لطفلٍ في العاشرةِ تقريبًا أن يفعلَ شيئًا كهذا…؟”

 

“ربَّما لم يقتل… ربَّما لم يكنْ قتلًا.”

 

شعرتُ بقشعريرةٍ وأنا أتحدَّثُ. 

 

فكرةُ أنَّ طفلًا يقتلُ طفلًا في مثلِ عمرهِ بدتْ غيرَ معقولةٍ.

 

عمَّ صمتٌ ثقيلٌ. 

 

ألقى آمونَ نظرةً سريعةً نحوَ المطبخِ وقالَ:

 

“كلامُكِ منطقيٌّ يا سيِّدتي، لكنْ يبقى السؤالُ إلى أيِّ مدًى يمكنُ تصديقُ كلامِ تلكَ المرأةِ. ربَّما كانَ وجودُ طفلينِ متشابهينِ مجرَّدَ خطأٍ في الذاكرةِ. لقد تغيَّرَ كلامُها عدَّةَ مرَّاتٍ.”

 

“هذا صحيحٌ.”

 

نظرتُ بتمعُّنٍ إلى إطارِ صورةٍ لابنِ العجوزِ. 

 

إلى أيِّ مدًى يمكنُ الوثوقُ بهذا الشخصِ؟

 

“نحتاجُ إلى شخصٍ آخرَ. شخصٌ يعرفُ حقيقةَ دارِ الأيتام جيِّدًا.”

 

“انتظرتمْ طويلًا، أليسَ كذلكَ؟”

 

عادَتِ العجوزُ إلى غرفةِ الجلوسِ بعدَ أن أنهتْ تحضيرَ الطعامِ. 

 

بمجرَّدِ أن جلستْ، سألتُها:

 

“هل تعرفينَ أينَ يمكنُ أن نجدَ الشخصَ الذي كانَ يعملُ مديرًا لدارِ الأيتام لوديليون؟”

 

“المديرُ؟”

 

أغمضتِ العجوزُ جفونَها ببطءٍ.

 

“لقد ماتَ المديرُ.”

 

قالتْ ذلكَ بلامبالاةٍ. 

 

إذا كانَ الشخصُ الذي عملَ مديرًا قبلَ ثلاثينَ عامًا كبيرًا في السنِّ آنذاكَ، فليسَ من الغريبِ أن يكونَ قد ماتَ الآنَ.

 

“هل ماتَ بسببِ مرضٍ؟”

 

سألتُ بحذرٍ، لكنَّ العجوزَ هزَّتْ رأسَها.

 

“لا. ماذا كانَ؟ الأمرُ قديمٌ ولا أتذكَّرُ جيِّدًا.”

 

“قديمٌ؟”

 

“أجلْ، مرَّ أكثرُ من عشرينَ عامًا.”

 

“ماذا؟ كم كانَ عمرُ المديرِ آنذاكَ؟”

 

“لم يكنْ أكبرَ منِّي إلَّا بثلاثِ سنواتٍ… لم يمتْ بسببِ الشيخوخةِ. أتذكَّرُ أنَّهُ كانَ حادثًا.”

 

ماتَ المديرُ بحادثٍ؟ هل هذا مجرَّدُ صدفةٍ أيضًا؟ نظرتُ إلى آمونَ خلسةً. 

 

كانَ وجهُهُ متصلبًا أيضًا.

 

“ألا تتذكَّرينَ تفاصيلَ الحادثِ؟”

 

تدخَّلَ آمونُ بسؤالٍ عاجلٍ.

 

“لا أعرفُ بالضبطِ. في ذلكَ الوقتِ، كانَ قد مرَّ ما يقربُ من عشرِ سنواتٍ على إغلاقِ دارِ الأيتام… لم تكنْ نهايتُها جيِّدةً، لذا لم نكنْ نتواصلُ مع بعضِنا. كلُّ ما سمعتهُ هو خبرُ وفاتِهِ.”

 

“إذن، هل هناكَ من قد يعرفُ أخبارَهُ عائلتُهُ مثلًا.”

 

“كانَ لديهِ ابنةٌ واحدةٌ… لكنْ ذلكَ كانَ قبلَ عشرينَ عامًا، ولا أعرفُ أينَ هيَ الآنَ.”

 

أخرجَ آمونُ دفترًا من جيبِهِ وناولَهُ لها.

 

“هل يمكنُكِ كتابةَ اسمِ المديرِ وعنوانِهِ حتَّى لو كانَ العنوانَ القديمَ.”

 

أخذتِ العجوزُ الدفترَ وكتبتِ الاسمَ والعنوانَ ببطءٍ. 

 

ثمَّ أعادتْهُ وهيَ تبدو متفاجئةً.

 

“يا إلهي، لقد مرَّ الوقتُ بهذهِ السرعةِ.”

 

“ماذا؟”

 

“آسفةً، لكنَّ ابني سيأتي قريبًا، وعليَّ تحضيرُ الطعامِ.”

 

كدتُ أن أصرخَ بدهشةٍ، لكنَّني تماسكتُ. 

 

لقد أنهتْ تحضيرَ الطعامِ للتوِّ، والآنَ ستبدأُ من جديدٍ؟ تردَّدتُ وأنا مرتبكةٌ، لكنَّ آمونَ وقفَ بوجهٍ هادئٍ.

 

“إذن، سنغادرُ قبلَ وصولِ ابنِكِ.”

 

“حسنًا، هل ستفعلونَ ذلكَ؟”

 

تبعتُ آمونَ ونهضتُ من مكاني. 

 

بدتِ العجوزُ، وهيَ تتذكَّرُ ابنَها، أكثرَ إشراقًا من أيِّ وقتٍ مضى وهيَ تودِّعُنا.

 

خرجنا من المنزلِ وعدنا إلى الجملِ، ولم أستطعْ إخفاءَ اضطرابي. 

 

تحدَّثَ آمونُ، ممسكًا باللجامِ، أوَّلًا:

 

“يبدو أنَّ القصَّةَ موثوقةٌ.”

 

“ماذا؟”

 

توقَّعتُ أنَّ تصرُّفَ العجوزِ الأخيرَ سيجعلُ القصَّةَ أقلَّ مصداقيةً، لكنَّ كلامَهُ كانَ مفاجئًا.

 

“تلكَ المرأةُ لم تقبلْ بعدُ بوفاةِ ابنِها. لكنَّ تذكُّرَها لاسمِ المديرِ وعنوانِهِ يُظهرُ أنَّ ذاكرتَها لا تعاني من مشكلةٍ.”

 

“هل تعتقدُ ذلكَ؟”

 

أنْ تتغاضى عن اختفاءِ الأطفالِ وتزيلَهم من ذاكرتِها، لكنْ لا تنسى ابنَها أبدًا، أمرٌ طبيعيٌّ ومُرٌّ في الوقتِ ذاتِهِ. 

 

أضافَ آمونُ بنبرةٍ مواسيةٍ:

 

“ستتقبَّلُ الأمرَ قريبًا… وربَّما يكونُ من الأفضلِ ألَّا تعرفَ الحقيقةَ أبدًا.”

 

عانقتُ خصرَ آمونَ بصمتٍ. 

 

ربَّما مرَّ هوَ أيضًا بتجربةٍ مماثلةٍ.

 

تحرَّكَ الجملُ ببطءٍ. 

 

اتَّجهنا نحوَ مركزِ القريةِ.

 

“هل سنذهبُ إلى العنوانِ القديمِ للمديرِ؟”

 

“نعم. ربَّما لا يزالُ أفرادُ عائلتِهِ هناكَ، أو ربَّما يعرفُ أحدهم أخبارَهُ.”

 

تردَّدتُ ثمَّ قلتُ:

 

“هل وفاةُ المديرِ كانتْ مجرَّدَحادثٍ حقًا؟”

 

“حسنًا…”

 

“الكثيرُ من الناسِ ماتوا حولَ الجاني الحقيقيِّ. أعتقدُ أنَّ هذهِ الوفاةُ ليستْ صدفةً.”

 

“لكنَّ المديرَ ماتَ بعدَ حوالي عشرِ سنواتٍ من احتراقِ دارِ الأيتام. هل كانَ هناكَ سببٌ لقتلِهِ بعدَ كلِّ هذا الوقتِ؟”

 

“ربَّما اكتشفَ المديرُ شيئًا.”

 

“تقصدينَ أنَّ الجاني الحقيقيَّ قامَ بالتبديلِ؟”

 

“نعم، بالطبعِ كلُّ هذا مجرَّدُ فرضياتٍ حتَّى الآنَ.”

 

فكَّرتُ مليًّا ثمَّ أضفتُ:

 

“بعدَ احتراقِ دارِ الأيتام، من المحتملِ أنَّ المديرَ عانى من خسائرَ ماليَّةٍ. ربَّما عاشَ بصعوبةٍ. ثمَّ… اكتشفَ بالصدفةِ وثائقَ شخصيَّةً احتفظَ بها.”

 

“فأدركَ ما فعلَهُ الجاني الحقيقيُّ، واستخدمَ ذلكَ لابتزازِهِ؟”

 

“في ذلكَ الوقتِ، كانَ الجاني قد أصبحَ عضوًا بارزًا في عائلةِ الدوق. حتَّى لو كانَ طفلًا بالتبني، ربَّما اعتقدَ المديرُ أنَّ لديهِ الكثيرَ من المالِ.”

 

“لكنَّ الجاني، بدلًا من دفعِ المالِ، ارتكبَ جريمةَ قتلٍ. …ليسَ مستحيلًا. دعينا نجدُ عائلتَهُ ونتحدَّثُ معهم.”

 

كانَ العنوانُ الذي كتبَهُ نائبُ المديرِ قريبًا جدًّا من عنوانِ دارِ الأيتام القديمِ. 

 

وصلنا إلى المكانِ في دقائقَ.

 

“يبدو أنَّ هذا المكانَ اختفى أيضًا.”

 

لكنْ لم يكنْ هناكَ سوى آثارِ منزلٍ قديمٍ.

 

“ماذا نفعلُ؟ هل نسألُ في القريةِ؟”

 

بينما كنتُ أنظرُ إلى أنقاضِ المنزلِ بحيرةٍ، سألَ آمونُ فجأةً:

 

“سيِّدتي، ألا تشعرينَ بالجوعِ؟”

 

“ماذا؟ حسنًا، أنا جائعةٌ بالفعلِ.”

 

ابتسمَ آمونُ قليلًا وأشارَ برأسِهِ نحوَ الجهةِ الأخرى من الطريقِ. 

 

كانَ يشيرُ إلى مطعمٍ زرناهُ من قبلُ، قريبًا من عنوانِ دارِ الأيتام القديمِ.

 

سألنا صاحبةَ المطعمِ، فأرشدتْنا إلى عجوزٍ من أهلِ القريةِ. 

 

عندما سألناهُ عن المديرِ، قالَ فورًا:

 

“لقد ماتَ ذلكَ المديرُ.”

 

“نعرفُ ذلكَ. سمعنا أنَّ لديهِ ابنةً. هل تعرفين أينَ هيَ الآنَ؟”

 

“همم…”

 

تأمَّلَت لعجوزُ سؤالَ آمونَ وهي تمسكُ رأسَها. 

 

بدت متحمِّسةً لأنَّها تساعدُ في التحقيقِ بعدَ أن عرفَت أنَّ آمونَ فارسٌ.

 

“يبدو أنَّها غادرتْ إلى الإمبراطوريَّةِ.”

 

“تقصدين إلى الخارجِ؟”

 

“نعم. بعدَ ما حدثَ لوالدتِها، ربَّما شعرتْ أنَّهُ لا داعي للبقاءِ هنا. انقطعتْ أخبارُها تمامًا، ومن الصعبِ العثورُ على من يعرفُها في هذهِ القريةِ. الأمرُ قديمٌ جدًّا.”

 

“حقًّا…”

 

هل لأنَّ الأمرَ قديمٌ جدًّا؟ حتَّى العثورُ على المتورِّطينَ كانَ صعبًا.

 

“لماذا تسألونَ؟ كنتُ صديقًا مقربًا نوعًا ما من المديرِ.”

 

“حقًّا؟”

 

استغللتُ الفرصةَ وسألتُ:

 

“إذن، هل تعرفُ كيفَ ماتَ المديرُ؟”

 

“كيفَ؟”

 

“نعم، سمعنا أنَّهُ ماتَ بحادثٍ.”

 

“أجل، صحيحٌ. سقطَ في منزلهِ وأصابَ رأسَهُ، أليسَ كذلكَ؟ على أيِّ حالٍ، ماتَ بطريقةٍ بائسةٍ. لم أتوقَّعْ أبدًا أن يموتَ بهذهِ الطريقةِ.”

 

‘سقطَ في منزلهِ؟ إذن، هل كانَ حادثًا حقًّا؟’

 

بينما كنتُ أفكِّرُ، سألَ آمونُ:

 

“هل تصرَّفَ المديرُ بغرابةٍ قبلَ وفاتِهِ؟”

 

“بغرابةٍ؟”

 

“أعني تصرُّفاتٍ مختلفةً عن المعتادِ. مثلًا، أن يصبحَ فجأةً مبذِّرًا، أو يقولَ إنَّهُ سيحصلُ على مالٍ. حتَّى لو كانتْ شائعةً.”

 

كانَ يسألُ على افتراضِ أنَّ المديرَ حاولَ ابتزازَ الجاني الحقيقيِّ. 

 

تذكَّرَ العجوزُ وهوَ يعقدُ حاجبيهِ، ثمَّ أومأَ.

 

“أجل، صحيحٌ. كانَ لديهِ ديونٌ، لكنَّهُ كانَ يتفاخرُ بأنَّهُ سيسدِّدُها قريبًا.”

 

نظرتُ إلى آمونَ بسرعةٍ. 

 

من تعابيرِهِ، كانَ واضحًا أنَّهُ يفكِّرُ في الشيءِ ذاتِهِ.