“السيّدة جوليا ريتس؟”
فتح الباب فجأة، ودخلت خادمة باميلا.
نهضتُ من مكاني بسرعة، وأنا أنتظر بقلق.
“نعم، أنا هي.”
سارع آمون، الذي كان يقف بجانبي بصلابة، بالسؤال:
“ما الذي يحدث بحقّ خالق السماء؟ هل استعادت الدوقة وعيها؟”
“لا وقت للشرح. تعاليا معي بسرعة.”
قادتنا الخادمة على عجل.
خلال الوقت القصير من غرفة الاستقبال إلى غرفة نوم باميلا، كنتُ أنا وآمون نتبادل النظرات باستمرار.
كانت ملامح آمون مليئة بالحيرة والارتباك.
وأظنّ أنّ تعبيري لم يكن مختلفًا كثيرًا.
على الرغم من أنّني هرعت إلى منزل الدوق فور استلامي رسالة باميلا، إلّا أنّني لم أفهم ما يحدث على الإطلاق.
‘كيف تعرف باميلا جوليا؟’
في ذاكرتي على الأقل، لم يكن هناك أيّ رابط بين باميلا وجوليا.
بل لم يكن من المفترض أن يكون هناك أيّ رابط بينهما.
لم يكن هذا العالم الذي عشته بعد التجسّد مطابقًا تمامًا للرواية الأصليّة.
فمثلًا، لم أكن أعلم بوجود صحراء في إمبراطوريّة نيلتون، وكنتُ جاهلة تمامًا بشأن سيلينا وفالدي وهايدن.
لكنّ هذه كلّها كانت فجوات ناتجة عن فراغات في الرواية.
بما أنّ القصّة الأصليّة كانت تُروى من منظور باميلا، فمن الطبيعي أن تكون هناك فجوات.
وهذا يعني أيضًا أنّني كنتُ على دراية تامّة بالتفاصيل الشخصيّة المتعلّقة بـ باميلا.
إذا كانت باميلا وجوليا على معرفة، بل على علاقة وثيقة إلى درجة أن تستدعيها في موقفٍ عاجل كهذا، كما لو كانت تترك وصيّة، فمن غير المعقول أن لا أعلم بذلك.
‘هل هذا مجرّد اختلاف بين الرواية وهذا العالم؟ أم أنّ شيئًا تغيّر بسبب تجسّدي؟’
لم يكن تفكيري هذا عبثًا.
كان اسم آمون سبينسر مكتوبًا على ظرف الرسالة التي أرسلتها باميلا إليّ، وعنوانها كان مقرّ فرقة الفرسان.
كأنّها كانت تعلم أنّني أعيش هناك، بل وأنّني سأكون مع آمون في اللحظة التي تصل فيها الرسالة.
لو لم أتجسّد، ولو لم يُطالبني الصوت في رأسي بالتمسّك بـ آمون، لما كان لجوليا أيّ صلةٍ بـ آمون طوال حياتها.
فكيف علمت باميلا، التي كانت فاقدةً للوعي طوال الوقت، بمكان إقامتي؟
مهما فكّرت، كان هناك شيءٌ غريب.
شعرت بحدسٍ أنّ باميلا تعرف شيئًا ما.
طُرق الباب بحدّة، وقطع صوت الخادمة الحادّ أفكاري.
“سأدخل.”
فتحَ الباب بعجلة.
تنفّستُ بعمق، ثم دخلتُ إلى غرفة النوم.
كان المشهد أمامي مشابهًا لما رأيته من قبل.
كانت باميلا مستلقية دون حراك على سريرٍ ضخم يتناسب مع حجم الغرفة.
الفرق الوحيد كان غياب الخادمات اللواتي كنّ يمسحن ذراعيها وساقيها.
نظرتُ إلى الخادمة بذهول.
“ألم تقولي لنا إنّها استعادت وعيها؟”
“اقتربي منها، ستستيقظ. لكن قبل ذلك–”
نظر إلى آمون وقال:
“عليكَ يا سيّدي الفارس أن تخرج معي.”
“أرفض.”
ردّ آمون بحزم قبل أن تنتهي من كلامها، ووقف أمامي كأنّه يصرّ على رأيه، بل وضع يده على مقبض سيفه، معلنًا أنّه لن يُطرد بالقوة.
“لقد طلبت السيّدة ذلك خصيصًا. قالت إنّها تريد أن تكون بمفردها مع السيّدة جوليا ريتس.”
“هذا غير ممكن. حماية السيّدة هي واجبي.”
“أنا…”
أمسكتُ بحذر بأكمام آمون، متدخّلةً بينهما في التوتر الذي نشأ.
نظر إليّ آمون.
“أعتقد أنّه من الأفضل أن نتحدّث بمفردنا.”
“سيّدتي!”
بدت على وجهه نظرة عدم تصديق ممزوجة بشيءٍ من الخيانة.
“لن يكون هناك أيّ خطر. هنا لن نكون سوى أنا والدوقة.”
“لكن–”
“أرجوك، اتركنا.”
حدّق آمون بي للحظات.
خلال ثوانٍ قليلة، حاولتُ مواجهة نظرته بثبات.
“… حسنًا.”
أخيرًا تراجع.
“تعالَ معي.”
أخذته الخادمة وغادرا الغرفة.
عندما أُغلق الباب، ساد الصمت الغرفة.
طردتُ آمون بسبب شعورٍ سيّء.
مهما كان ما تريد باميلا قوله، شعرتُ أنّه لا يجب أن يسمعه.
أغمضتُ عينيّ للحظة ثم فتحتهما، واقتربتُ ببطء من باميلا.
كانت لا تزال مستلقية دون حراك، وشعرها الأحمر يتدفّق على الفراش.
‘قالت إنّها ستستيقظ إذا اقتربتُ…’
“أنا…”
فتحتُ فمي بحذر.
على الرغم من أنّ صوتي كان قريبًا من الهمس، فتحت باميلا عينيها فجأة.
استقرّت عيناها الخضراوان العميقتان عليّ مباشرة.
تراجعتُ خطوة إلى الوراء مرتبكة.
كان هناك شيءٌ غريب في مظهرها.
لم تفتح عينيها بصعوبة كما يفعل المرضى عادة، ولم تحاول النهوض عند رؤيتي.
لم يكن ذلك كلّ شيء.
لم تحرّك رأسها حتّى، فقط عيناها تدوران لتنظرا إليّ.
باستثناء فتح عينيها، لم تبدُ كشخصٍ استردّ وعيه.
لم يكن الأمر مجرّد نقص في القوّة يمنعها من الحركة… بل كأنّ جسدها مشلول بالكامل.
“اقتربي أكثر.”
عندما تحدثت أخيرًا، أدركتُ أنّ الشعور المرعب الذي شعرتُ به لم يكن شيئًا مقارنةً بهذا.
انتابتني قشعريرة من رأسي إلى أخمص قدميّ.
لمَ لم أنتبه من قبل؟
“هيا.”
لمَ لم أدرك؟
<جوليا ريتس تحرّكت بسرعة.>
منذ اللحظة الأولى التي سمعتُ فيها ذلك الصوت الغامض في رأسي.
‘لماذا، لماذا…’
لمَ لم أدرك أنّ ذلك الصوت كان صوت امرأة، وأنّه قد يكون صوتًا لشخصٍ حقيقي موجود في هذا العالم؟
كانت باميلا.
الصوت الذي كان يتردّد في رأسي طوال الوقت، ذلك الصوت الذي يبدو كليّ العلم، كان صوتها هي.
“ها..هاه..آه..”
كلّ ما خرج مني مع أنفاسي المتقطّعة كان تأوّهًا ضعيفًا.
“أعلم أنّكِ مصدومة، لكن لا وقت للشرح. أستخدم الآن كلّ قوتي للتحدّث إليكِ، لذا هيا…”
أمسكتُ قبضتي المرتجفة بقوّة.
كانت باميلا محقّة.
لم يكن هناك وقت للخوف.
إذا كانت تعرف شيئًا، فعليّ أن أسأل.
يجب أن أحصل على إجابات عن هذا الوضع غير الواقعي الذي أعيشه.
اقتربتُ منها ببطء، وجسدي يرتجف.
“أنتِ… من أنتِ؟”
“هذا ما يهمّكِ؟”
“أكنتِ أنتِ؟ ذلك الصوت الذي أسمعه؟ كلّ التعليمات التي تلقّيتها، هل كانت كلّها…”
“ليس الأمر كذلك.”
“ليـ..س.. كذ.. لك؟”
خرج صوتي متشنّجًا ومتهدّجًا.
شعرتُ بأظافري تؤلمني وهي تغرز في راحتيّ يدي.
كان عليّ أن أتماسك بأيّ طريقة.
“إذن… لمَ أسمع صوتكِ في رأسي؟”
“جوليا.”
“لا.. تُناديني.. هكذا. أنتِ تعلمين.. أنّني لستُ جوليا.”
كان صوتي يرتجفُ كالأوردة النابضة بلا توقّف.
“الوقت ينفد.”
على النقيض، كان صوت باميلا هادئًا بشكلٍ مخيف.
“سأموت قريبًا. لكن قبل ذلك، هناك شيءٌ يجب أن أقوله لكِ. لهذا استدعيتكِ. أرجوكِ، لا تضيّعي هذا الوقت الثمين.”
“أجيبي على سؤالي أوّلًا.”
“جوليا.”
“قلتُ إنّني لستُ جوليا!”
لم أستطع السيطرة على صوتي الذي انفجر.
شعرتُ برغبةٍ في رمي أيّ شيء أراه أمامي.
كيف يمكن أن تكون باميلا هي صاحبة الصوت الذي كنتُ أعتبره أملي الوحيد؟ كانت هنا، أمامي مباشرة.
“لمَ استدعيتني إلى هنا؟ لماذا؟ لمَ أنا، لمَ…”
“لم أكن أنا من استدعاكِ.”
“إذن من؟ من هو؟ أخبريني. أنتِ تعرفين، أليس كذلك؟ لا، لا يهمّ. لا أريد أن أعرف. فقط أعيديني إلى ما كنتُ عليه. إلى عالمي الأصلي، إلى جسدي الأصلي!”
صرختُ بصوتٍ عالٍ.
لكن باميلا لم تجب.
فقط نظرت إليّ بابتسامةٍ مريرة.
كان هذا أوّل تعبير ترسمهُ على وجهها منذ أن فتحت عينيها.
دون وعي، فتحتُ فمي قليلًا.
كنتُ أعرف هذه النظرة.
نظرة شخصٍ أدرك أنّ كلّ شيء انتهى، وقرّر إنهاءه بنفسه.
لقد رأيتُ هذه النظرة من قبل… لكن أين؟
“هناك شيءٌ واحدٌ فقط يمكنني قوله.”
تحدّثت باميلا وهي تحدّق في السقف بعد أن محت تعبيرها مجدّدًا.
“ربّما هي لا تريد مني أن أقول لكِ هذا…”
هي؟ قبل أن أتمكّن من السؤال، واصلت باميلا:
“آسفة. لا يمكنكِ العودة إلى عالمكِ الأصلي.”
“ماذا… ماذا تقصدين؟”
كأنّ كلّ الثورة التي شعرتُ بها كانت كذبة، شعرتُ بقلبي يهدأ ببرودةٍ مفاجئة.
“ما الذي تقصدينه؟ لمَ تقولين هذا؟ هل تعتقدين أنّني سأستسلم إذا قلتِ هذا؟”
أغلقت باميلا عينيها ببطء.
هززتُ جسدها بعنف.
“من هي؟ ماذا تعرفين؟ أجيبي… باميلا!”
انهار شيءٌ ما في صدري.
لا يمكنني العودة إلى عالمي الأصلي.
إذن أنا… أنا…
“لمَ أنا بالذات؟”
جاء الجواب على سؤالي الهامس في رأسي:
<لأنّه كان يجب أن تكون أنتِ.>
التعليقات لهذا الفصل " 43"