“شكرًا.”
أخذتُ من مارفين صينيّة مليئة بالوجبات الخفيفة ووضعتُها في منتصف الطاولة.
كارلايل، الذي لم يطِق الصبر، كان قد التصقَ بجانب إلويز وهو يهزّ ذيله.
منذ أن ذهبنا معًا إلى مجلس الشيوخ، علمتُ أمرًا آخر، وهو أنّ علاقة كارلايل وإلويز تعود إلى زمنٍ بعيد.
كان قلب كارلايل أكثر جديّة مما تخيّلتُ بأضعاف، وإلويز كانت تعلم ذلك لكنّها تتّخذ موقفًا غامضًا.
بالطبع، كارلايل كان يعلم أنّ إلويز تدرك ذلك.
بمعنى آخر، كلاهما يعرف مشاعر الآخر لكنّهما يتظاهران بعدم المعرفة.
‘لا بدّ أنّ هناك أمورًا كثيرة لم أعرفها.’
جلست إلويز بجانبي فجأة، وجلس مارفين أمامي.
شعرتُ ببعض الحرج وأنا محصورة بينهما، ففي النهاية، كنتُ حتّى وقتٍ قريب أشكّ فيهما.
“آمم، هل ترغبين بتناول هذا؟”
رفعتُ قطعة كعك وأصررتُ على تقديمها لإلويز لهذا السبب.
“آه…”
تردّدت إلويز ثمّ أخذت الكعكة.
في الحال، أضاف كلّ من مارفين وكارلايل تعليقًا.
“سيّدتي، لمَ لم تعطيني أنا؟”
“لكنّ نائبة القائد لا تحبّ الحلويات، أليس كذلك؟”
“ماذا؟ حقًا؟”
تجاهلتُ كلام مارفين بنبرة خفيفة ونظرتُ إلى إلويز.
“إن لم ترغبي بتناولها، لا بأس–”
لكن قبل أن أكمل جملتي، أدخلت إلويز كعكة كبيرة بحجم نصف وجهها في فمها.
“ما هذا؟ أنتِ تكرهين الحلويات!”
“همهمهمننممهم.”
نظرت إلويز إلى كارلايل بخدين منتفخين، لكنّ نطقها المشوّه لم يحمّل كلامها أيّ هيبة.
يبدو أنّ كارلايل شعر بالمثل، إذ بدا يكتم ضحكته بصعوبة.
“ماذا تقولين؟ لم أفهم.”
ابتلعت إلويز الكعكة أخيرًا وقالت:
“قلتُ اصمت.”
“قبل قليل قلتِ فقط إنّني صاخب، فلمَ أصبح كلامكِ فظًا فجأة؟”
“بسبب أحمقٍ يعرف كلّ شيء ومع ذلك يُصرّ على السؤال.”
“يا إلهي، سألتُ فقط لأنّ آخرين قد لا يفهمون! أنا بالطبع أفهم كلّ ما تقولينه، فأرواحنا متّصلة. هل أخمّن ما تفكّرين به الآن؟”
“جرّب.”
أشارت إلويز بذقنها، ووجهها يقول: ‘ما الهراء الذي سيقوله الآن؟’
“كارلايل وسيمٌ اليوم أيضًا.”
“ماذا؟ هل جننت–”
“لا تفكّري بذلك في سرّكِ فقط، قوليه!”
“هل تريد الموت فعلًا؟”
التقطت إلويز كتابًا من على الطاولة وضربت كتف كارلايل.
كارلايل، رغم الضربة، ابتسم بسعادة.
هل هذا ما يُسمّى بمشاجرة العشّاق؟
هززتُ رأسي، ثمّ قالت إلويز متردّدة:
“أنا، أنا لا أكره الكعك.”
“ماذا؟”
“لا تسيئي الفهم. أنا فقط لا أحبّه. هناك، كما تعلمين، فرق كبير بين الاثنين.”
“آه، حسنًا.”
بينما كنتُ أستمع إلى كلامها السريع، تذكّرتُ تلك الأمنية التي قالت إنّها تريد طلبها منّي.
‘كنتُ سأطلب منكِ أن نشرب معًا.’
هذا ما قالته في العربة عندما عدنا من مجلس الشيوخ.
قالت إلويز إنّها فقط أرادت أن نصبح صديقتين.
سؤالها عن كوني متورّطة في قضيّة ما، تجوّلها حولي، وتحدّيها لي في لعبة الشطرنج، كلّ ذلك كان لهذا السبب.
كنتُ أنا من أساء فهم صداقتها النقيّة.
‘في المرّة القادمة، سأكون أنا من يقترح الشراب أولًا.’
بينما كنتُ أعقد العزم في سرّي، سأل مارفين فجأة وهو ينظر إلى الأوراق المبعثرة على الطاولة:
“هل هذه أحجية؟”
“ماذا؟”
تنهّد كارلايل بعمق على سؤاله البريء.
“هل تبدو لك أحجية؟ ألا ترى أنّنا نعمل؟ لا تزعجنا واذهب لتمرّن على السيف.”
كان هو نفسه يمازح إلويز بدلًا من العمل، لكنّه تحدّث بوقاحة.
أوقفتُ كارلايل وسألتُ مارفين:
“أحجية؟ لمَ ظننتَ ذلك؟”
“سيّدتي، لا داعي للاستماع إليه.”
“قل لي.”
عندما أعدتُ السؤال، أشار مارفين إلى كتاب ضخم يهيمن على الطاولة، وبالأخص إلى حرف مكتوب على غلافه.
“هذا. ألستم تبحثون عن هذا الحرف في هذه الأوراق؟”
“كيف عرفتَ؟”
الكتاب الضخم الذي جاء به كارلايل كان يتعلّق بطريقة فكّ تشفير كلاسيكيّة قديمة.
كتاب يمكنه ترجمة الحروف الهيروغليفيّة التي تشبه الأشكال إلى لغة هذا العالم.
لكن بعد فحص رسالة بويت بعناية وإعادة ترتيب الجمل، لم أجد أيّ حرف مشابه، فكنتُ على وشك الاستسلام.
“أليس كلّ شيء مكتوبًا هنا؟”
“ماذا؟”
مارفين، مائلًا رأسه، التقط الورقة أمامي.
“أليست هذه الرسالة؟”
“صحيح، لكن مهما بحثتُ–”
قبل أن أتمّ جملتي، أخرج مارفين خنجرًا صغيرًا من جيبه وقطّع الرسالة إلى نصفين.
وقفت إلويز مذهولة وقالت:
“أنتَ الآن تدمّر دليلًا–”
“لا بأس!”
أوقفتُها بسرعة.
“لقد نسختُها بنفسي على ورقة أخرى! الرسالة الأصليّة محفوظة في مكان آخر.”
أمسكتُ إلويز، التي بدت وكأنّها ستلتقط سيفها، وأشرتُ لمارفين.
“لا بأس، تابع.”
“آه، حسنًا.”
نظر مارفين بحذر ثمّ بدأ بقطع الرسالة مجدّدًا.
تحوّلت الورقة إلى قطع صغيرة مقسّمة بشكل شبكي منتظم.
“يا إلهي، من الواضح أنّ هذا هراء. هذا الفتى لم يقرأ كتابًا في حياته. لا يمكن أن يفكّ شيفرة–”
“اصمت، السير يوستي!”
صحتُ وأنا أعبس، فأغلق كارلايل فمه بنظرة ساخطة.
درتُ حول الطاولة واقتربتُ من مارفين.
لم يتأثّر مارفين بانتقاد كارلايل وركّز على تحريك القطع الصغيرة كما لو كان يحلّ أحجية فعلًا.
وبعد قليل–
“ما رأيكم؟ أليس مشابهًا؟”
“هذا…”
تجمّعت أربع قطع صغيرة لتشكّل حرفًا واحدًا.
لم أفهم معناه، لكنّه كان مشابهًا جدًا للحرف المكتوب على غلاف الكتاب.
هل كانت أحجية فعلًا؟
نظرتُ إلى مارفين مندهشة.
“كيف عرفتَ؟”
“ماذا، هل هذا صحيح؟”
وقف كارلايل فجأة واقترب منّا.
جرّب تجميع بعض القطع الأخرى، ثمّ ظهرت على وجهه نظرة عدم تصديق.
“كيف اكتشفتَ هذا؟”
قال مارفين بتردّد:
“في الحقيقة، تذكّرتُ أنّ السير هورون، أقصد، ذلك الرجل… كان يحبّ هذا النوع من ألعاب الأحجيات. كان يقطّع الورق بنفسه ويحلّها كلّما ظهرت في الجريدة.”
فجأة، ساد جوّ من الصمت الثقيل.
تابع مارفين، غير مدرك للأجواء:
“لذلك، فكّرتُ في الأمر حالما رأيتُها!”
تنهّد كارلايل بهدوء ونظر إلى إلويز.
كانت تحدّق في الطاولة فقط.
رغم أنّنا وجدنا أخيرًا دليلًا عن الشيفرة، ساد هذا الصمت المحرج لأنّ…
‘كلّ واحدٍ منهم يسترجع ذكرياته مع بويت.’
بخلافي، لم يكن بويت بالنسبة لهم مجرّد جاسوس.
كانوا بحاجة إلى وقت لاستعادة توازنهم.
جمعتُ بسرعة القطع الورقيّة التي قطّعها مارفين، ناويةً ترك المكان.
“أحسنتَ، السير مارفين. لقد وجدنا دليلًا بفضلك.”
“آه، لا شيء.”
“سأذهب الآن لأخبر السير سبينسر بما اكتشفناه.”
“ماذا؟ الآن؟”
“نعم، ولديّ أمر آخر أودّ مناقشته معه. سنكمل فكّ الشيفرة، فاسترح أنتَ.”
رفعتُ الكتاب الضخم بصعوبة بكلتا يديّ، بينما بدا مارفين مضطربًا وهو يتردّد.
“دعني أحملُه لكِ.”
“لا، لا بأس. أستطيع حمل هذا. إلى اللقاء لاحقًا!”
“ماذا؟ لكن–”
تجاهلتُ كلام مارفين وغادرتُ المكتبة مسرعة.
صعدتُ الدرج إلى الطابق الثالث بسرعة حتّى لا يتبعني مارفين الذي لا ينتبه للأجواء السائدة.
عندما وصلتُ إلى الطابق الثالث، تنفّستُ بصعوبة.
“هاه…”
ألقيتُ الكتاب الذي كنتُ أحمله بصعوبة على الأرض في الممرّ، فأحدث صوتًا مدوّيًا.
كوونغ–
تردّد الصدى في الطابق الثالث بأكمله.
كنتُ مرهقة تمامًا بعد حمل ذلك الشيء الثقيل وصعود الدرج.
على الرغم من أنّني تحسّنت مقارنة بالبداية، إلّا أنّ هذا الجسد النحيل لا يُقارن بقوّة شخصٍ سليم.
‘مكتب آمون في نهاية الممرّ…’
تردّدتُ في رفع الكتاب الذي وضعتُه على الأرض مرّة أخرى.
فجأة، جلستُ على الكتاب نفسه.
‘سأرتاح قليلًا ثمّ أفكّر.’
“هوو…”
بينما كنتُ أتنهّد، سمعتُ صوتًا:
“سيّدتي؟ ماذا تفعلين هناك؟”
كان صوت آمون من نهاية الممرّ.
“السير سبينسر!”
لوّحتُ بيدي وأنا جالسة، فتغيّرت تعابير آمون بشكل غريب.
كأنّه لم يرَ مشهدًا أغرب من هذا في حياته.
“هل أصبتِ قدمكِ؟ لمَ تجلسين على أرضيّة الممرّ؟”
عندما اقترب منّي، لاحظ الكتاب تحتي.
“أليس هذا الكتاب الذي كنّا ندرسه لفكّ الشيفرة؟”
“نعم، صحيح. ربّما يكون أكبر كتاب في العالم. أو الأثقل.”
“ليس كذلك. قرأتُ أنّ هناك كتبًا أكبر من طول قامتي.”
“كنتُ أمزح فقط.”
مددتُ ذراعيّ وأنا جالسة، فأمسك آمون بيدي وساعدني على الوقوف بسلاسة.
ثمّ رفع الكتاب من الأرض بسهولة وسأل:
“إذن، إلى أين كنتِ ذاهبة بهذا الكتاب الأكبر في العالم؟ سأرافقكِ.”
ابتسمتُ وقدّمتُ الإجابة:
“هذا رائع. كنتُ في طريقي للقاء السير سبينسر.”
التعليقات لهذا الفصل " 41"