“ما الذي تفعله الآن؟”
سأل أحد أعضاء مجلس الشّيوخ بنبرةٍ تحمل استياءً واضحًا، غير راضٍ عن نهوض آمون من مكانه دون إذن.
‘ألم يقل إنّ علينا تجنّب استفزاز مجلس الشّيوخ قدر الإمكان والبقاء هادئين؟’
أدرتُ عينيّ فقط لأنظر جانبًا، فبدى كلا من كارلايل وإلويز مرتبكين أيضًا.
“آمون سبينسر، عُد إلى مكانك واجلس فورًا.”
لكنّ آمون لم يبدُ متردّدًا البتّة، بل اقترب خطوة أخرى نحو الطّاولة الدّائريّة.
“اسمع، سبينـ-“
“ألا تفهمون ما أقوله الآن؟”
“ماذا؟”
“بويت هورون خائن لفرقة الفرسان خاصتنا. قبل مناقشة من هو المجرم الحقيقيّ، هذه حقيقة لا جدال فيها.”
وقف آمون أمامي بثباتٍ، وتابع بنبرةٍ هادئة لكنّها باردة بنفس القدر:
“والذين سمحوا لكلمات هذا الخائن أن تتلاعب بهم هم مجلس الشّيوخ هذا.”
“هذا…”
“إذا انتشر هذا الأمر، من تظنّون سيتحمّل اللّوم؟”
ساد الصّمت الغرفة فجأة.
رأيتُ إلويز تفتح عينيها بدهشة.
لم أتوقّع أن يتصرّف آمون بهذه القوّة، فكنتُ مصدومة مثلهما.
“لم آتِ إلى هنا لإقناعكم. جئتُ لأقول إنّني سأتغاضى عن أخطائكم، لكنّ عليكم عدم التدخّل في هذه القضيّة بعد الآن.”
لم يجرؤ أحد على الكلام بسهولة.
حتّى النّظرات التي كانت تشير إلينا بغضبٍ اختفت.
“تعقّب تحرّكات بويت، والعثور على المجرم الحقيقيّ الذي قتل ثلاثة، بل خمسة مع والديّ، كلّ ذلك سأتولّاه بنفسي.”
“إذن، تقصد…”
“هذه قضيّتي.”
رنّ صوته الحازم في الغرفة.
كان تحذيرًا واضحًا بلهجةٍ هادئة.
بعد صمتٍ طويل، تحدّث أحد الشّيوخ:
“…وماذا عن جثّة هايدن بوليف؟”
كانت نبرته أقلّ حدّة بكثير ممّا كانت عليه.
غيّر الشّيخ الموضوع بنفسه.
لم يقل صراحةً إنّه يوافق، لكنّ هذا كان بمثابة قبول تحذير آمون.
فهم آمون ذلك، فتحدّث بنبرةٍ أكثر ليونة:
“لقد تواصلتُ بالفعل مع عائلة دوق بوليف. أخبرتهم أنّه تعرّض لنوبة قلبيّة مفاجئة أثناء التّحقيق، ويبدو أنّهم اقتنعوا.”
“نوبة قلبيّة…”
“لا توجد إصابات خارجيّة، ولم يُكتشف السمّ. لن يجدوا سببًا لرفض هذا التّفسير، تمامًا كما اضطررتُ أنا عندما كنتُ صغيرًا، قبول كلامكم.”
مع تلك الكلمات اللّاذعة، أدار الشّيخ رأسه بصمت.
تمتم إحداهم:
“ومع ذلك، بما أنّه مات داخل مقر الفرسان، يجب أن نرسل تعويضًا على الأقل.”
“سأتولّى ذلك بنفسي أيضًا.”
“هل تنوي حضور الجنازة؟”
“نعم.”
أومأ الشّيخ برأسه بعد حوارٍ قصير.
كان ذلك إشارةً لانتهاء النّقاش، فاستغللتُ الفرصة وقفزتُ من مكاني.
أردتُ الخروج من هذه الغرفة المزعجة قبل أن يغيّروا رأيهم.
بدا أنّ كارلايل وإلويز يشعران بالمثل، فقاما من مكانيهما.
أدّينا التّحيّة بسرعة وغادرنا الغرفة مسرعين.
لم أنطق بكلمةٍ واحدة وأنا أعبر الممرّ حتّى خرجتُ من الباب الرّئيسيّ، خوفًا من أن يسمعنا مجلس الشّيوخ.
بدا أنّ الآخرين يشعرون بالمثل، فحافظوا على الصّمت.
لم نتنفّس الصّعداء إلّا بعد أن صعدنا إلى العربة.
“لقد كنتَ جريئًا جدًّا.”
كارلايل كان الأوّل من تحدّث.
أومأتُ برأسي موافقةً، لكنّ آمون اكتفى برفع كتفيه.
“لا أدري إن كان يجب أن نقول إنّ الأمور سارت بسلاسة أكثر ممّا توقّعنا، أم كانت أصعب.”
“لكنّ تحذيرك كان جيّدًا. لم يعترفوا بخطئهم حتّى النّهاية، لكن…”
ردّدتُ على كلام كارلايل وابتسمتُ قليلًا.
كان هذا كافيًا.
على الأقلّ، زال خطر المطاردة العلنيّة الآن.
“يجب أن تكونوا متعبين، استرحوا. سيكون الطّريق إلى العاصمة طويلًا.”
أومأتُ برأسي لصوت آمون بجانبي وأسندتُ وجهي إلى النّافذة.
أخيرًا، كنتُ عائدة إلى مقر الفرسان.
كان شعور الرّاحة بمجرّد أنّني لن أبقى وحيدة في ذلك المخبأ بلا نوافذ كافيًا لإسعادي.
شعرتُ فجأة أنّ مقر الفرسان أصبح مثل منزلي.
بعد أن أوصلنا إلويز وكارلايل إلى منزليهما، عدتُ أنا وآمون إلى مقرّ الفّرسان.
رافقني آمون حتّى باب غرفتي وفتح الباب وقال:
“هل لديكِ أيّة خطط للغد؟”
“خطط؟”
توقّفتُ عند عتبة الباب، لم أتوقّع هذا السّؤال المفاجئ.
“إن لم يكن لديكِ شيء، هل يمكنكِ مرافقتي إلى مكانٍ ما؟”
“آه…”
شعورٌ غريب.
أن يسألني أحدهم عن خطط الغد ونرتب موعدًا.
كأنّني أصبحتُ جزءًا من هذا العالم حقًّا.
“إن كان لديكِ أمر آخر–”
“لا، لا يوجد. كيف سيكون هناك؟ لا ذاكرة لديّ.”
خشيتُ أن يساء فهم صمتي، فنفيتُ بسرعة كلامه.
“حسنًا، سأذهب معكَ.”
“ألا تسألين إلى أين؟”
“حسنًا… أيّ مكان أفضل من مشرحة الأموات، أليس كذلك؟”
كنتُ جادّة، لكن بدا أنّ آمون أخذها كمزحة، فظهرت ابتسامة خفيفة على شفتيه.
“جيّد. إذن، سآتي لأصطحبكِ غدًا صباحًا.”
“حسنًا.”
لم أسأله لمَ يحتاج أن يصطحبني بينما نعيش في نفس المبنى.
ربّما اعتدتُ على سلوكهِ النبيل دون أن أدرك.
“إذن، تصبحين على خير.”
أشار آمون بعينيه وهو يسحب مقبض الباب أكثر، كأنّه يطلب منّي الدّخول.
عبرتُ العتبة أخيرًا إلى الغرفة.
“لا تري الكوابيس.”
أغلق الباب خلفي مع تلك الكلمات اللّطيفة.
ربّما بفضل تلك الكلمات اللطيفة والمهدئة.
عندما فتحتُ عينيّ صباحًا، أدركتُ أنّه للمرّة الأولى منذ وصولي إلى هذا العالم لم أرَ كابوسًا.
لا راسيل، لا خنجر، لا موت.
بل لم أرَ حلمًا أصلًا.
‘ربّما بسبب الإرهاق.’
فكّرتُ أنّه ثمن رحلة العربة التي استغرقت أكثر من عشر ساعات ذهابًا وإيابًا، لكنّني في الوقت ذاته تذكّرتُ كلام آمون.
شعرتُ أنّ استقبالي لصباحين متتاليين منعشين كان بفضله.
نهضتُ من السّرير، اغتسلتُ وغيّرتُ ملابسي.
بينما كنتُ أربط شعري الفوضوي بعفويّة، سمعتُ طرقًا على الباب.
كان آمون بلا شكّ.
“نعم، يمكنك الدّخول!”
صحتُ وأنا أجلس أمام المنضدة أربط شعري، لكنّ آمون فتح الباب قليلًا وبقي واقفًا في الممرّ.
“يمكنك الدّخول… ما الأمر؟”
لحظة أن نقلتُ نظري من المرآة إلى الباب، فتحتُ عينيّ بدهشة.
كان آمون يرتدي ملابس سوداء بالكامل من رأسه إلى أخمص قدميه.
زيّ رسميّ أسود خالٍ من أيّ زخرفة، وحتّى عباءته الزّرقاء التي كانت كعلامته المميّزة استُبدلت بعباءة سوداء سميكة لا تسمح بمرور أيّ ضوء.
‘كأنّه ذاهب إلى جنازة…’
“هل المكان الذي سنذهب إليه هو جنازة السّيد هايدن؟”
سألتُ بعد أن أدركتُ متأخرة، فأومأ آمون برأسه.
“صحيح. لكنّ هناك مكان سنمرّ به أوّلًا.”
“مكان؟ أين؟”
“همم…”
ابتسم آمون بمكرٍ وقال مازحًا:
“مكان أفضل من مشرحة الأموات، فلا تقلقي.”
ضحكتُ ضحكةً خفيفة لأنّه فاجأني.
صعدنا إلى العربة، وكان المكان الذي وصلنا إليه نافورة السّاحة المركزيّة القريبة.
المكان الذي أجريتُ فيه أوّل محادثة حقيقيّة مع آمون.
“لمَ هنا؟ هل تريد شراء شيء؟”
سألتُ وأنا أنظر إلى المتاجر المصطفّة في الشّارع، فأجاب آمون:
“شيء من هذا القبيل، وعليّ أيضًا استلام شيء تركته هنا.”
شيء تركه؟ لمَ أحضرني معه لهذا الأمر؟
ليس من طباع آمون فعل شيء دون سبب.
تردّدتُ في السّؤال خشية أن أبدو متطفّلة، لكنّ آمون تحدّث أوّلًا:
“ألا تسألين عمّا هو؟”
“هل يمكنني السّؤال؟”
“بالطّبع. جئتُ لأستلم قلادة.”
“قلادة؟”
اتّجهت عيناي لا إراديًّا إلى عنق آمون.
كالعادة، كان زيّه مغلقًا حتّى ذقنه، فازدادت حيرتي.
‘آمون يرتدي قلادة…؟’
“ليست لي.”
كانت عينا آمون تنظران إلى عنقي.
لمستُ منطقة التّرقوة دون وعي وفتحتُ فمي.
“هل تقصد قلادتي؟”
“صحيح. ألم تقو لي إنّكِ رهنتِها في متجر الرّهن؟”
صحيح أنّني شرحتُ لآمون بالتّفصيل عن يومي الأوّل في هذا العالم، لكن أن يقرّر استرجاعها فجأة كان أمرًا صعب التّصور.
“لمَ فجأة؟”
“فكّرتُ أنّ استرجاعها سيكون أفضل من شراء واحدة جديدة.”
“ماذا؟”
“و… لديّ بعض المال.”
“…ماذا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 37"