“السّير سبينسر!”
فتح الباب، وقبل أن يخطو آمون خطوة واحدة إلى الدّاخل، هرعتُ نحو الباب.
كما توقّعتُ، اندفع المطر والرّيح عبر فتحة الباب المفتوح.
“ستتبلّل هكذا. تفضّل بالدّخول.”
دخل آمون مسرعًا إلى الغرفة وسحب الذراع ليغلق الباب.
حتّى في تلك اللحظة القصيرة، ترك المطر المتسرّب بقعة دائريّة على الأرضيّة.
وبالطّبع، كان حال آمون لا يُوصف.
“هل أنت بخير؟”
من كتفيه المبتلّتين تمامًا إلى خصلات شعره الملتصقة بجبينه.
تردّدتُ في السّؤال لأنّه بدا من الصّعب لمسه، فأشار آمون بيده كأنّه يطلب منّي التّراجع.
ثم هزّ رأسه بسرعة كما يفعل الكلب تمامًا.
تناثر الماء في كلّ اتّجاه، واستعاد شعره الرّمادي الفضّي لونه قليلًا.
لسبب ما، بدا شكله لطيفًا، فكتمتُ ضحكتي، لكنّ آمون لم يبالِ ونقل بسرعة الأغراض التي كان يحملها إلى داخل الغرفة.
“ما هذا كلّه؟”
“أشياء قالت السيدة إنّها بحاجة إليها.”
كلّ ما قلته إنّني بحاجة إليه كان كتبًا وساعة فقط، لكنّ الأغراض بدت أكبر بكثير ممّا توقّعت.
ربّما خوفًا من تسرب الماء إليها، بدأ آمون بفكّ الأغراض بسرعة وأضاف:
“أحضرتُ بضع بطانيّات أيضًا تحسبًا. الطّقس اليوم قاسٍ جدًّا.”
“شكرًا.”
“لا شكر على واجب.”
طوى آمون البطانيّات بعناية ووضعها على الكرسي، ثمّ بدأ يرتّب بعض الكتب والدّفاتر وقلم الرّيشة.
“هذه كتب أوصى بها كارلايل. يقول إنّها تشبه الرّوايات التي كنتِ تقرئينها عادةً.”
إذا كانت توصية كارلايل، فهي جديرة بالثّقة.
أسرعتُ لأتفقّد الكتب، وبالفعل، أثارت عناوينها اهتمامي من الوهلة الأولى.
أمسكتُ بأنحف كتاب وبدأت أتصفّحه بسرعة.
بينما كنتُ أفعل ذلك، قال آمون وهو ينظر إليّ بهدوء:
“لم أكن أعلم أنّكِ تهتمّين بالرّوايات.”
ألم يقل إنّه يعرف أنّني كنتُ أتردّد على مكتبة الفّرسان؟ نظرتُ إليه باستغراب، فأضاف:
“في الحقيقة، لم أكن أعلم أنّ مكتبة الفّرسان تحتوي على روايات. ظننتُ أنّها مخصّصة لأغراض البحث فقط.”
“آه…”
بالفعل، كان يبدو أنّ كارلايل منهمك دائمًا في البحث داخل المكتبة، والكتب الأدبيّة كانت قليلة نسبيًّا هناك.
“هل السّير سبينسر لا يحبّ الرّوايات؟”
شعرتُ بنبرته وكأنّه كذلك، فسألته.
أومأ آمون برأسه قليلًا كأنّه أُصيب في الصميم.
“أحبّ الكتب، لكن الرّوايات… أليست في النّهاية مجرّد قصص خياليّة؟”
“حسنًا، هذا صحيح.”
بالنّسبة إليّ، كانت تلك القصص الخياليّة قد تحوّلت إلى حقيقة بالفعل.
“على أيّ حال، سيّدتي، لديّ شيء أودّ إخباركِ به.”
بعد أن علّق السّاعة على الحائط، جلس آمون أمامي.
بدا وجهه جدّيًّا للغاية، فأسرعتُ بوضع الكتاب الذي كنتُ أحمله جانبًا.
“هل هي أخبار سيّئة؟”
أومأ آمون برأسه وقال:
“لقد مات السّيد هايدن بوليف.”
كان نبرته سريعة ودقيقة، كمن يبتلع دواءً مرًّا دفعة واحدة.
فتحتُ فمي عاجزة عن السّؤال مرّة أخرى.
ومع صوته المنخفض الهادئ وهو يشرح الظّروف، تذكّرتُ آخر صورة لهايدن.
جسده الشّاحب المتراخي في زنزانة مظلمة.
مات؟ شخص كان يتحدّث معي ويواجهني قبل أيّام قليلة فقط.
لم تكن لديّ أيّة عاطفة خاصّة تجاهه.
لم نقضِ وقتًا طويلًا معًا يسمح بذلك.
لكنّ هايدن كان الوحيد من بين كلّ من قابلتهم حتّى الآن الذي يعرف جوليا الحقيقيّة.
وبغضّ النّظر عن الأسباب، ساعدها أيضًا.
‘مات، هكذا ببساطة؟’
“لذلك… يبدو أنّه اختار الموت بمحض إرادته.”
أضاف آمون في نهاية شروحاته.
“هل تقصد أنّه انتحر؟”
“بالأحرى، يبدو أنّه دُفع إلى الانتحار. كان تحت ضغط نفسيّ شديد.”
شعرتُ بمزيد من الاضطراب. لم أستطع القول إنّني بريئة تمامًا من المسؤوليّة عن دفعه إلى هذا الحال.
وربّما كان آمون يفكّر في الشّيء نفسه.
“على أيّ حال…”
كسر آمون الصّمت القصير وعاد ليتحدّث:
“هذا الحادث أكّد أنّ هناك جاسوسًا داخل الفّرسان.”
“صحيح. المشكلة أنّنا لا نعرف من هو من بين الثّلاثة. ولا توجد أيّ دلائل حول كأس الماء ذاك؟”
“لا شيء. بحسب كارلايل…”
بدأ آمون يشرح مجدّدًا.
من ظروف الحادث إلى مدى حريّة تنقّل أعضاء الفّرسان في غرفة التّحقيق، وصولًا إلى تحرّكات الثّلاثة المشتبه بهم بشكل خاصّ، تابع حديثه بسلاسة.
“بعد عودته من المراقبة ذلك اليوم، قال إنّه بقي في غرفته، لكن لا توجد طريقة لإثبات ذلك… سيّدتي؟”
“آه، نعم؟”
رفعتُ رأسي فجأة متفاجئة.
كنتُ أستمع إلى تفاصيل تحرّكات بويت، لكن عندما استعدتُ وعيي وجدتُ نفسي أغفو وأنحني برأسي.
شعرتِ بالحرج، عدّلتُ من جلستي وفركتُ عينيّ.
“آسفة، لم أنتبه وغفوتُ للحظة…”
“لا بأس أن تنامي. لقد حان الوقت لذلك.”
قال آمون بوجه خالٍ من أيّ ابتسامة.
“يبدو أنّني جئتُ متأخرًا جدًّا. كنتُ قلقًا من أن يُتبعني أحد…”
“لا، لا بأس، حقًّا.”
بينما كنتُ أقول ذلك، اتّجهت عيناي إلى السّاعة المعلّقة على الحائط خلف آمون.
كما قال، كان الوقت متأخرًا بالفعل.
علاوة على ذلك، لم أنم جيدًا الليلة الماضية بسبب وجودي في مكان غريب بمفردي.
‘ربّما لأنّ آمون هنا، شعرتُ بالرّاحة.’
“أنا بخير حقًّا.”
فجأة نهض آمون من مكانه وبدأ يفرش البطانيّة التي أحضرها على السّرير.
“هذه للفراش، وهذه للغطاء. إذا شعرتِ بالبرد، أخبريني غدًا وسأحضر المزيد من البطانيّات. لا يمكننا إشعال المدفأة بسبب الدّخان.”
كان يتصرّف كخادم ماهر.
لم يكن آمون من يخدمني، لكن رغم عنايته، شعرتُ بالحرج والتّردد، فقال مرّة أخرى:
“يمكننا استكمال الحديث غدًا. لا داعي أن تبقي مستيقظة في هذا الوقت المتأخر، سيّدتي. أنا آسف لأنّني جعلتكِ تبقين في مكان كهذا.”
رغم أنّه ليس خطأه على الإطلاق، بدا أنّه يشعر بالذّنب لأنّني أقيم هنا.
“حقًّا، لا بأس، لا داعي للقلق.”
لكن على عكس كلامي، تسرب تثاؤب آخر.
نظر إليّ آمون، الواقف بجديّة بجانب السّرير، كأنّه يحثّني على النّوم.
بعد كلّ هذا، ربّما يجب أن أذهب وأنام.
تردّدتُ في الخضوع للإغراء وخطوتُ نحو السّرير، لكنّني شعرتُ بشيء غريب ونظرتُ إلى آمون.
“آمم… لكن…”
“نعم؟”
“أليس من الأفضل أن تذهب أوّلًا؟”
“ماذا؟”
“أعني، ليس من الضّروري أن… تراقبني وأنا أنام، أليس كذلك؟”
عند كلامي، فتح آمون فمه قليلًا.
تردّد للحظة ثم قال:
“هناك جاسوس في مبنى الفّرسان، أليس كذلك؟ شعرتُ أنّه من غير الآمن إنجاز الأعمال هناك، لذا فكّرتُ أن أعمل قليلًا هنا قبل العودة.”
“أعمال؟”
“عليّ كتابة تقرير مفصّل عن ظروف وفاة السّيد هايدن في غرفة التّحقيق. من المحتمل أن يكون القاتل داخل المقر، لذا القيام بذلك هناك…”
“لكن مكتبك في الطّابق الثّالث، أليس كذلك؟ هل سيذهب الجاسوس إلى هناك فقط من أجل تقرير؟ هل هناك أيّ دليل خاصّ تكتبه في التقرير؟”
كنتُ أسأل بحسن نيّة، لكنّ آمون أغلق فمه بوجه محرج.
‘ما الأمر؟’
شعرتُ وكأنّني فعلتُ شيئًا غير لائق.
“آه… بالطّبع، إذا أردتَ البقاء…”
“ظننتُ أنّكِ قد تخافين لو بقيتِ وحدكِ.”
“ماذا؟”
بهتتُ وأنا أرمش بعينيّ أمام كلمات آمون المفاجئة.
بالطّبع كنتُ خائفة، كنتُ خائفة جدًّا.
لكن أن يفكّر آمون بهذا؟ قبل أيّام فقط، ألم يتصرّف وكأنّه لا يفهم ما الذي يمكن أن يكون مخيفًا عندما سجن هايدن في تلك الزّنزانة المظلمة؟
‘هل بسبب ما حدث عندما أمسك بي سابقًا؟’
شعوره بالأسف حينها، وردّة فعله المحرجة الآن، كلّ ذلك منطقيّ إذا كان السبب هو ذلك.
“…يبدو أنّني افترضتُ خطأً. إذا كنتِ تشعرين بالضّيق…”
“لا، لا!”
ردًّا على كلام آمون الإضافي، نفيتُ بسرعة دون وعي.
في الحقيقة، لم أكن منزعجة، بل شعرتُ براحة شديدة.
وجوده في نفس المكان جعلني أشعر بالرّاحة والطّمأنينة.
فجأة، اهتزّ الحائط ودوّى صوتٌ عالٍ، كأنّه كان ينتظر.
حتّى الليلة الماضية قضيتها خائفة دون نوم، واليوم كان المطر والرّيح يهبّان بقوّة في الخارج.
إذا بقي آمون بجانبي، سأشعر بأمان أكبر بكثير.
نظرتُ إليه بخلسة وأومأتُ برأسي متظاهرة بالاستسلام.
“أنت محقّ. قد يكون هناك جاسوس في الفّرسان، ومن المزعج إنجاز الأعمال هناك. من يدري ماذا قد يحدث.”
“…ماذا؟”
جلستُ على السّرير بوقاحة وأضفتُ:
“وعلاوة على ذلك، المطر يهطل بالخارج. سيكون من الصّعب عليك العودة الآن. ملابسك التي جفّت للتوّ ستتبلّل مجدّدًا.”
“آه…”
بدت على آمون نظرة ذهول، ثم أجاب بسرعة:
“صحيح. الطّقس سيّء للغاية.”
“أليس كذلك؟ حسنًا… لا مفرّ إذن. من الأفضل أن ترتاح هنا.”
تحدّثتُ وكأنّني في بيتي، فضحك آمون قليلًا.
“شكرًا.”
سعلتُ مرّة دون داعٍ، وتسلّلتُ إلى داخل البطانيّة التي فرشها آمون. غطّيتُ نفسي واستلقيتُ، فتراجع آمون خطوة وقال:
“إذن، تصبحين على خير.”
أومأتُ برأسي بتردّد، فاستدار آمون على الفور وتوجّه إلى الطّاولة.
جلس وظهره إلى السّرير وبدأ يرتّب الأوراق.
كان رداؤه الذي يغطّي ظهره الواسع لا يزال مزيّنًا برسم ذئب ينظر إليّ.
حتّى تعبيره الشّرس الذي كأنّه سيلتهمني في أيّ لحظة بدا مطمئنًا.
خفت الإضاءة تدريجيًّا، ولم يعد يُسمع سوى صوت تقليب الأوراق وخربشة القلم.
بدأ قلبي، الذي كان ينبض بسرعة طوال الوقت، يهدأ تدريجيًّا.
وسرعان ما غرقتُ في النّوم.
التعليقات لهذا الفصل " 32"